“نداء البرية”.. تعاضد الإنسان والحيوان في رحلة حياة شاقة

عدنان حسين أحمد
من السهل تتبّع فيلم “نداء البرية” (The Call of the Wild) للمخرج الأمريكي “غريس ساندرز”، لكن من الصعب تقليده لأنه يحمل بصمة صاحبه المميزة، فهو مولع بالأفلام الدرامية والعائلية، ومخلص لتقنية الرسوم المتحركة التي تألق فيها، حيث أنجز ثلاثة أفلام أنيميشن يعدها النقاد علامات فارقة في تجربته السينمائية.
من أبرز هذه الأفلام “كيف تروض تنّينك؟” الذي رشّح لجائزة الأوسكار مثل بقية أفلامه السهلة الممتنعة التي تعلق بذاكرة المُشاهدين لأسباب متعددة من بينها شكل الفيلم وتقنيته ومضامينه المتعددة التي تؤازر الفكرة الرئيسية للقصة السينمائية، وتعمق مدلولاتها الفنية والفكرية والجمالية ناهيك عن براعة التصوير وحسن الأداء وحذاقة المونتاج، إضافة إلى دقة المؤثرات السمعية والبصرية التي يستعملها في مجمل أفلامه الروائية.
لا بد من الإشارة أيضا إلى أن “غريس ساندرز” كاتب سيناريو محترف يعرف جيدا أسرار صنعته الفنية التي تؤهله للتلاعب بالنص السردي حينما يطعِّمه بشذرات فكرية لمبدعين آخرين مثل “البقاء للأصلح” لـ”داروين”، و”الهزيمة والتحطيم” لـ”أرنست همنغواي” في روايته الشهيرة “الشيخ والبحر” التي يقول فيها: “إن الإنسان لم يخلق للهزيمة، ممكن أن يتحطّم الإنسان ولا يمكن هزيمته”، مع الأخذ بعين الاعتبار أن “ساندرز” قد طبق هذه الفكرة على الكلب “باك” (Buck)، بينما كان “همنغواي” يقصد بها شيخ البحر أو الإنسان بشكل عام.
مقاسمة الأدوار.. هشاشة القشور الحضارية
يصنف “نداء البرية” بأنه من أفلام الطبيعة والمغامرات، ولو شئنا الدقة لقلنا إنه من أفلام الطريق، إذ يتيح للمتلقي أن يرى مساحات شاسعة من الطبيعة الساحرة التي قد لا يلتفت إليها الإنسان أحيانا، وأكثر من ذلك فإنه يجمع بين الإنسان والحيوان حيث يتقاسمان دور البطولة، ويتعاضدان في هذه الرحلة الشاقة التي تكشف الجوهر الإنساني في مقابل الطبيعة الحيوانية التي سوف تلبّي نداء الغريزة الأصلية وتخبرنا بلسان فصيح بأن القشور الحضارية هشة وركيكة ويمكن أن تتقوض في اللحظات العصيبة التي يمر بها الإنسان والحيوان في آن معا.
جدير بالذكر أن هذا الفيلم مقتبس من رواية قصيرة تحمل العنوان نفسه للكاتب “جاك لندن”، وقد صدرت عام 1903 وذاع صيتها بين القراء لتحول إلى أفلام سينمائية سبع مرات بين عامي 1923 و2019 مع بعض التغييرات في المسار السردي للشخصيات الرئيسية والمآلات التي انتهت إليها كل شخصية على انفراد.
لا يستطيع أي مُخرج أن يتفادى شخصية الكلب “باك” أو يقلِّل من أهميتها ويضعها في مرتبة ثانوية لأنها ببساطة العمود الفقري للقصة الأدبية، ولا بد أن تكون كذلك في أي قصة سينمائية.

“حمى ذهب كلوندايك”.. طريق قاس إلى الثراء
يستدعي الفيلم العودة بالزمن إلى منطقة السنوات الثلاث المحصورة بين 1896-1899 التي تسمى بـ”حمى ذهب كلوندايك”، حينما اندفع قرابة مئة ألف من المغامرين والمنقبين في منطقة داوسن التابعة لمقاطعة يوكون الكندية بحثا عن الذهب الذي أعمى بريقه أعين اللاهثين وراء الثراء السريع، وقيل إن عدد الذين وصلوا إلى تلك المضارب 30 ألفا، بينما ضاع الآخرون وسط الغابات الكثيفة والطرق المكسوة بالثلج والبحيرات التي انهارت أسطحها الجليدية وابتلعت الكثير منهم بعد أن أطفأت بريق الذهب الذي كان يتوهج في حدقات عيونهم التواقة لهذا المعدن اللعين.
وبما أن كل الطرق المؤدية إلى يوكون مغطاة بالجليد فلا بد من زلاجات تجرها كلاب قوية مدربة لهذا الغرض، وهنا تقودهم الحاجة الماسة للكلاب إلى الكلب المدلل “باك”، ويمتلكه القاضي “ميلر” الذي يسكن في مزرعة في سانتا كلارا التابعة لولاية كاليفورنيا.
نتيجة لارتفاع أسعار الكلاب الضخمة المفتولة العضلات يقوم البستاني بسرقة الكلب “باك” ونقله إلى يوكون على متن سفينة شحن كبيرة يتعرض فيها للقسوة والعنف وسوء المعاملة حتى يتدجّن قليلا ويُنفّذ أوامر سيده الجديد وينسى أيام الرفاهية والدلال التي اعتاد عليها في منزل سيده القديم.

كلب المدينة المدلل.. مشقة الترويض والتماهي في القطيع
يمر “باك” (Buck) بمراحل متعددة قبل أن يتماهى مع بيئته الأصلية وربما تكون مرحلة الأسر هي أقسى المراحل التي لا تتناسب مع ذكائه الشديد وفطنته الحادة، فهناك حيوانات موهوبة حقا أو سريعة التعلم، و”باك” من هذا النمط الذي أدرك أنه قد وقع في الأسر حينما استدرجه السارق لجلب الحلوى التي وضعها في الصندوق الخشبي، وما إن دخل حتى أوصد عليه الباب وجعله في مواجهة الألم والجوع وقسوة البعض من الكائنات البشرية.
وبما أنّ القصة السينمائية مكتوبة بحرفية عالية ومحبوكة بشكل جيد فإن كل حركة محسوبة بدقة، فما إن يصصدم “باك” بالرجل العجوز “جون ثورنتون” (الممثل هاريسون فورد) حتى يُسقِط منه آلة الهارمونيكا الصغيرة، لكنه يسارع إلى إعادتها إليه فيشكره جون بعد أن يعرف اسمه من صاحبه الجديد “بيرو” (الممثل عمر سي)، وسوف تتحول هذه المعرفة لاحقا إلى رفقة تربط بين الاثنين لأمد طويل.
ليس من السهل ترويض “باك” لكي يكون فردا في القطيع ما لم يمر بمراحل متعددة تعيده في خاتمة المطاف إلى مكانه الأول، وتسترجع غريزته البدائية التي بدأت أصداؤها تتردد في ذاكرة مشوشة ضببتها حياته الاجتماعية المدجنة التي لم تعرف العنف والدم والألم من قبل.
ولعل عملية الاستدراج التي انتهت بالخطف والسرقة تمثل بالنسبة إليه إعادة اكتشاف للذات الأصلية التي يجب أن يعود إليها في هذه الظروف المستجدة التي تجبره على تحمل التعب إلى حد الإعياء، ومواجهة الموت أثناء انغماسه في العمل في المرحلة الثانية التي يكتشف فيها نفسه مجددا كفرد في قطيع، وليس ككائن منعزل في بيئة بشرية مترفة، فلا غرابة أن يولد من جديد في المرحلة الثالثة، ويتهيأ للعودة النهائية إلى الطبيعة أو الحاضنة الأم التي تستعيده وتحتفي به في فضائها الشاسع.

تململ “باك”.. دائرة التابع و المتبوع
تنتظم قصة الفيلم التي كتبها “مايكل غرين” في وحدات سردية متعددة تبدأ بسرقة “باك” الكلب المدجن الذي يملأ بيت القاضي “ميلر” ألفة ومرحا وحميمية، ثم شرائه من قبل “بيرو” واستعماله ككلب زلاجة ينهمك في عمل شاق لم يألفه من قبل، ثم بيعه في داوسن إلى ال “دان ستيفنس” الشاب المتهور الذي لا يقدره حق قدره، ثم مرافقته للرجل العجوز “جون ثورنتون” الذي يخلي سبيله كي يعود إلى حضن الطبيعة الأول ويتماهى فيه.
قبل أن يضع “بيرو” الطوق حول عنق باك يعرفه على قائده الجديد “سبيتز” وبقية الكلاب السبعة “دوتي وسبايك وجوك وإيلي ودوت وديف وسوليكس”، لكن “باك” يتململ لأنه لم يعهد أن يكون تابعا بل متبوعا، ونتيجة لتذمره ينحرف باتجاه اليسار ويقلب الزلاجة بمن عليها من بشر وعدة ومؤونة، ومع ذلك لم يحقق له “بيرو” ما يطمح إليه من قيادة فثمة كلاب في الفريق تتوفر على خبرة طويلة في هذا المضمار فيرضخ “باك” من جديد متحينا سانحة الحظ كي تُسند إليه مهمة القيادة في وقت لاحق.

تحطيم السطح الجليدي.. مخايل القيادة
تسقط “فرانسواز” داخل البحيرة في واحدة من استراحات الفريق بعد أن يتكسّر سطحها الجليدي فيهرع باك خلفها في محاولة لإنقاذها من الغرق وما هي إلاّ لحظات حتى يسحبها من قاع البحيرة ويعود بها إلى السطح ثانية.
وحينما ينامون ليلا يجد “باك” نفسه في العراء المثلج فلا مكان للكلاب في الخيم الصغيرة الدافئة، مما يدفعه إلى أن يحفر لنفسه حفرة في الثلج وينام فيها طوال الليل مودعا أيام الرفاهية والدلال، لكنه في المقابل بدأ يصغي لأصوات البريّة ويشعر في دخيلته كأنه سمعها من قبل في مكان ما لم تتضح صورته جيدا.
وفي الصباح بينما يوزع “بيرو” السمك على الكلاب يأخذ “باك” سمكته لكنه يعطيها إلى كلب صغير وكأنه مسؤول عنه وعن بقية الكلاب التي طردها “سبيتز” واستأثر بالماء الذي تجمع في منطقة منخفضة بينما يسارع “باك” إلى تحطيم السطح الجليدي المتجمد بقدميه وإتاحة الفرصة للكلاب حتى تروي غليلها من دون أن يزجرها أحد.

صراع الصعود إلى هرم القيادة.. عناصر مجازية كامنة
لا تخلو القصة من ذروة درامية تتمثل بالنزاع على السلطة وقيادة الفريق، فبينما كان “باك” يُطارد أرنبا اصطاده بعد جهد يسير، تمنعه روح القائد بداخله أن يقتل هذا الحيوان الصغير فيخلي سبيله، لكن “سبيتز” يصطاده ثانية ويقتله، عندها نعرف أنه يتصرف بعقلية الغاب وليس بذهنية الكلب المدجن الذي يعرف اشتراطات القيادة.
يدخل الاثنان في اشتباك مرير ينتصر فيه “سبيتز” أول الأمر، لكن “باك” الطريح على الثلج بدأ يسمع نداءات البرية، وأصوات القطيع التي انبجست في أعماقه فانتفض بكل ما يملك من قوة وجبروت ليعض “سبيتز” ويرميه إلى الأعلى ثم يتركه جثة هامدة تطمرها ندف الثلج المتساقطة.
وحين أزفت لحظة الرحيل نادى “بيرو” على “سبيتز” مرات عديدة لكنه لم يجبه فأسند القيادة إلى “باك” الذي بدأ يؤدي واجبه على أكمل وجه، وبخلاف توقعات “بيرو” أوصلوا البريد في الوقت المحدد ولم يتأخروا رغم مصاعب الطريق وعلى رأسها الانهيارات الثلجية المروّعة.
لقد حمّل المخرج فيلمه بعناصر مجازية عديدة من بينها أنّ الزلاجة لا تحمل بريدا فحسب، وإنما الحياة والحب والأمل وقد أقنعنا بهذه المحمولات الفكرية حينما أدى واجبه الوظيفي أولا، ثم تعداه إلى الجوانب الأخلاقية والإنسانية.
قسوة المالك الجديد.. أشواق إلى دفء المنزل
ما إن يصل البريد إلى أول مدينة على الطريق الثلجي حتى نرى الشيخ “جون ثورنتون” منغمسا في كتابة رسالة إلى زوجته سارة يعبّر فيها عن آلامه المتواصلة التي لا تُحتمل عندما يتذكر ابنهما العزيز “تيم” وعيد ميلاده الذي يقترب ودفء المنزل والمغامرات التي كان يحلم أن يخوضها. ثم يختم رسالته قائلا إنه رحل لكي يبحث عن مكان يشعر فيه ببعض الراحة والسلام، ولكنه يخشى ألا يجده لأنه لم يعد له موطن في هذا العالم.
ورغم تذمّر “بيرو” فإنه يأخذ هذه الرسالة المتأخرة وينطلق في رحلته الطويلة إلى المدينة الأخرى النائية لكنه يفاجأ بإنهاء خدمة خط البريد واستبدالها بطريقة حديثة ويبلّغوه ببيع فريق الكلاب والعودة إلى كيوبيك. وفي الوحدة السردية الثانية يشتري “هال” وهو شخص ثري ومتهور ومغرور الكلاب، لكنه لا يعرف قيمتها، وخاصة “باك” المعروف بذكائه الحادّ، ووفائه المنقطع النظير.
ما إن يرى “باك” مالكه الجديد حتى يحرن ويمتنع عن السير، فيعامله “هال” معاملة قاسية جدا تدفع “جون” لأن يتدخل وينصحه بأن يؤجِّل رحلته لحين انتهاء الربيع كي لا يتسبب بالعناء لنفسه وكلابه معا. ينطلق “هال” بزلاجته بعد أن يتخلى عن “باك” الذي كان مُرهقا حد الإعياء حتى أنه نام ليومين متتاليين ووجد نفسه عند الشيخ “جون ثورنتون” الذي يقرّر هو الآخر مواصلة الرحلة مع “باك” مستعملا زورقا خشبيا يجنّبهما مشقة الطريق.

عناق الذئبة البيضاء.. قتل في كوخ مهجور
ربما تكون المشاهد النهرية هي الأجمل على الصعيد البصري في هذا الفيلم الروائي، خاصة وأن تعرجات النهر وشلاّلاته فيها من الإثارة والدهشة الشيء الكثير. يصل “جون” إلى هدفه ويعثر بالمصادفة على بيت قروي مهجور لكنه يفي بالغرض، وبينما هو يستحم في منتصف النهر يرى أحجارا كريستالية تلمع في القاع لكنه لم يجمع منها إلا الشيء اليسير، بينما ينشغل “باك” بالإصغاء إلى الصوت الذي يناديه من أعماق الغابة وبين آونة وأخرى تظهر ذئبة بيضاء تُغريه بالاقتراب منها وتشمّمها إلى حد الاعتناق، وفي أوقات غيابها يذهب “باك” لصيد الطيور البرية وأسماك السلمون التي يضجّ بها النهر الفضي الرقراق.
لم يكن مجيء “هال” مصادفة وإنما كان يتعقّبه ويقتفي أثره حتى وصل إلى الكوخ المهجور وكاد أن يقتل “جون” لولا تدخّل “باك” الذي دفعه إلى داخل الكوخ المحترق ووضع حدا لحياته المليئة بالعبث والصفاقة والجنون.

في أكناف الموطن الأصلي.. أحجار متلألئة في النهر
كان “جون” في الدقائق الأخيرة من الفيلم يتأمل شريط حياته الماضية، ويفكِّر بكلبه الوفي “باك” الذي سافر مثله لمسافات طويلة كي يجد موطنه الأصلي وبيئته التي يجب أن يتربى في كَنَفها، فلا غرابة أن يجاذبه أطراف الحديث ويطلب منه الذهاب إلى حاضنته والبقاء فيها، كي يتزاوج وينجب ويصبح سيد نفسه وهو يؤسس سلالته الجديدة التي تبسط نفوذها على هذه المضارب النائية التي تتكسّر عند عتباتها كل أشكال العُزلة والتوحد.
أما “جون” الذي يبحث عن الذهب أصلا فقد نثر الأحجار المتلألئة في النهر، واحتفظ بعدد قليل منها يكفيه لدفع ثمن البقالة لما بقي له من سنوات معدودة، قبل أن يواجه مصيره المحتوم مُلبيا نداء العالم الآخر الذي يجهله الكائن البشري.
لا بد من الإشارة إلى أنّ كل لقطات ومَشاهد الكلب “باك” وغيره من الحيوانات الأخرى قد أعدت بواسطة الكومبيوتر (CGI) ولكنها بدت مُقنعة جدا وخالية من المبالغات الكبيرة. لقد أراد المخرج “غريس ساندرز” أن يضفي مخايل الذكاء على “باك”، وقد نجح في ذلك بحيث جعلنا كمشاهدين نحب هذا الكلب ونتعاطف معه، ونتأمل سلوكه الغريزي الذي أفضى به إلى نهاية اجتماعية حميمة وممتعة ومقبولة.