السينما والأوبئة.. توثيق حروب الإنسان الأزلية مع الفيروسات

قيس قاسم

اهتمت السينما طيلة تاريخها بالظواهر الطبيعية والأحداث الكبرى ذات المساس والتأثير المباشر على الإنسان كانتشار الأوبئة والكوارث الطبيعية مثل الفيضانات والهزات الأرضية، أو التراجيديات التاريخية كالحروب وغيرها.

وقد كان اختلاف التناول بين الوثائقي والروائي واضحا في السينما منذ البداية، ومنبعه في الأساس خصائص كل منهما، فالروائي يجنح للخيال في نقله للحدث الواقعي، مما يوفر له مساحات اشتغال فنية وجمالية تساعده على تحقيقها المؤثرات الخارجية، وغالبا ما تسهم في تصعيد وتيرة أحداث القصص المنقولة على الشاشة، وتزيد من درجة تفاعل المتفرج معها.

يفسر هذا ويضفي في الوقت نفسه مفارقة على المشهد السينمائي حين يراجع ما تناولته من قصص ذات علاقة بانتشار الأمراض والأوبئة، كوباء إيبولا وزيكا والطاعون والملاريا، فجل الأفلام الناجحة جماهيريا هي روائية معتمدة على سيناريوهات مرجعيات كتابتها علمية، لكن طريقة وأسلوب تناولها فيه حيز كبير للفانتازيا.

عجزت الأفلام الوثائقية عن مجاراة الأفلام الروائية، فظلت لهذا منشغلة بالجانب البحثي التحليلي والاستقصائي وقليل منها ذهب إلى الجانب التاريخي، أما حصة الجانب الجمالي فيها فقليلة جدا لم يستطع الاشتغال عليها سوى الشركات والمؤسسات الإنتاجية الكبيرة وبالتحديد القنوات التلفزيونية. وهذا يفسر بدوره أسباب قلة الجانب السينمائي الموجود فيها، ويتبيَّن ذلك من خلال مراجعة أهم الوثائقيات التي تناولت الأوبئة والأمراض المُعدية ومسبباتها على وجه الخصوص.

تخصص الوثائقيات وحرص بحثها على جانب واحد دون غيره مكنها من عرض تفاصيله بشكل دقيق، وبعضها أصبح لهذا السبب مرجعا بصريا فيما يخص الأمراض والأوبئة، مثل الوثائقي الأمريكي “إنفلونزا” للمخرج “روبرت كينر”.

 

“إنفلونزا 1918”.. شهادات حية

يُعد فيلم “إنفلونزا 1918” من أكثر الأفلام الوثائقية أهمية لأسلوبه الملحمي والتاريخي الذي يجسد مراحل ظهور الجائحة في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1918، وحصدها آلاف الأرواح كما فعلت في أوروبا وبقية العالم، وقد اعتبرت الأكبر في القرن العشرين لكثرة أعداد ضحاياها التي تجاوزت 50 مليونا.

أنتج الفيلم عام 1998، وقد استعان الفريق بأشخاص زامنوا ظهور الإنفلونزا حين كانوا أطفالا، ويستند في متنه الحكائي على ذكرياتهم، إلى جانب صور من الأرشيف وبعض اللقطات القليلة المأخوذة حينها بكاميرات بسيطة التقنية.

يمكن ملاحظة وجود قواسم مشتركة في الوثائقي ووثائقيات أخرى تناولت جائحات انتشار الفيروسات، لعل أبرزها طريقة نقل الفيروس من الإنسان إلى الإنسان مما يساعد على انتشار الوباء سريعا، وهذا ما أثبت في الوثائقي حين حدد ظهور أعراضه في ولاية تكساس الأمريكية أولا ثم انتقاله منها لبقية العالم عبر الجنود الذاهبين إلى أوروبا للمشاركة في الحرب العالمية الأولى مع الحلفاء، وقد أدى احتكاك هؤلاء الجنود بجنود آخرين ومكوثهم معا لفترات طويلة في الخنادق إلى تسريع انتقال العدوى بينهم.

كان المرض في الولايات المتحدة يفتك بالسكان دون رحمة، فلم يُميّز بين طفل أو عجوز، وركز نشاطه في سن الشباب على وجه التحديد، مرض لا يشبه الإنفلونزا العادية التي عرفوها وعرفوا طرق معالجتها، إنه نوع مختلف تماما في شراسته وسرعة انتشاره، ويؤدي إلى وفاة المُصاب به خلال زمن وجيز حال ظهور أعراضه عليه.

“إنفلونزا 1918” يتحدث عن مناعة القطيع التي اكتسبها الأمريكيون حين عودتهم من الحرب العالمية الأولى واختلاطهم بالجماهير التي كانت بانتظارهم

 

عودة الجنود الأمريكية من الحرب.. نظرية مناعة القطيع

يتابع الوثائقي “إنفلونزا 1918” مراحل تطور وانتشار الوباء، كما يتابع معها سلوكيات وتصرفات رافقتها، فعلى المستوى العلمي عجز العلماء والأطباء عن فهم المرض، لأنهم ببساطة تعاملوا معه كمرض مُعدٍ تقف وراءه بكتيريا ما، ولكن لم يظهر تحت عدسات مجاهيرهم المُكَبرة أي شيء يشير إلى وجودها، فأعلنوا عجزهم عن معرفة السبب.

وبعد انتشار الوباء في بقية الولايات شاع الخوف بين الناس، ولجأ كثير منهم إلى التخاريف والتعاويذ لطرده، وبعضهم استعان بالأدوية التقليدية للحد منه، لكن كل ذلك لم يجد نفعا، وخسر الناس كثيرا من أحبائهم، وعانى الأطفال كثيرا بسبب فقدهم أولياء أمورهم وهم في سن كانوا يحتاجون وجودهم.

ينقل فيلم “إنفلونزا 1918” التأثيرات العاطفية لمن خسروا أحبتهم عبر شهادات وذكريات الشخصيات المشاركة فيه، حيث نقلت ما أحس به الناس وقتها وكيف شاع الحزن والقنوط في نفوسهم.

من المفاهيم العلمية المهمة التي يتوقف عندها الوثائقي مفهوم مناعة القطيع، فعند إعلان نهاية الحرب العالمية الأولى عاد آلاف الجنود الأمريكان إلى وطنهم أفواجا، وأقام الناس الاحتفالات ترحيبا بهم، واختلطوا بهم في الحشود الجماهيرية الكبيرة، فانتشر الفيروس بسرعة بين الناس وقاومته أجسادهم فاكتسبت مناعة ذاتية ستسهم بدور حاسم في الحد من انتشار الوباء، والتخلص منه تدريجيا.

صورة لمستشفى الثكنات في حرم كلية كولورادو الزراعية، حيث يجلس على الأسرّة ضحايا الإنفلونزا الإسبانية

 

أطفال شمال أوروبا.. وباءان فتاكان في وثائقي واحد

من المقاربات الخاصة بوباء “الإنفونزا الإسبانية” وثائقي سويدي تلفزيوني قصير يحمل نفس اسم المرض. ويوضح صانع الفيلم “ستيفان هيلدبران” في بدايته الالتباس الحاصل في التسمية ومصدرها، فكثير من الناس يظن أنها نابعة من البلد الذي انطلق منه المرض، في حين أن سبب إلحاق إسبانيا بالمرض جاء بسبب صحافتها، لأنها هي أول من نشر أخبار ظهوره وانتشاره في العالم.

وقد تأثر الوثائقي السويدي بالوثائقي الأمريكي “إنفلونزا 1918″، كما اعتمد أيضا على شهادات أطفال عايشوا فترة انتشاره في السويد وبقية دول شمال أوروبا، لكن التَميّز الأهم في هذا الوثائقي جاء من خارجه وأكسبه اليوم أهمية استثنائية، فقد أضاف التلفزيون السويدي -الجهة المنتجة- مقابلات جديدة إلى متنه تخص وباء كورونا، مما يفتح نقاشا حول الحق في توسيع الوثائقي وإضافة خامات جديدة إليه.

ربما يكون الحدث الآني والمعلومات الجديدة التي تغني متنه وتشجع الإقبال عليه وبخاصة بعد وضعه بين المواد الثابتة الخاصة بالتغطيات اليومية للوباء، هما ما يجعلان منه مرجعا تثقيفيا يفيد المتلقي ويزيد من معارفه.

 

“الموت الأسود”.. أعظم أوبئة التاريخ

تُعد إنجازات هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” الخاصة بالأوبئة والأمراض الخطيرة بَينة نظرا للجهد المبذول في إعدادها ولضخامة ميزانياتها وهذا يمكن ملاحظته في وثائقها التاريخي والتحليلي عن وباء الطاعون “الموت الأسود”.

يكرس الوثائقي جهدا تقنيا وفنيا لسرد تاريخ المرض عبر إعادة تمثيل المراحل التاريخية التي مر بها وانتشاره بشكل خاص في أوروبا، ومن بين ما يهتم به البيئة الحاضنة له، معيدا التذكير بالجوانب الاجتماعية والاقتصادية التي سادت خلال القرون الوسطى وحركة الناس بين الدول، ويحيل الأسباب إلى سوء أحوال العامة وكثرة أمراضهم وضعف بُنيتهم الجسمانية التي ساعدت على انتشاره بينهم.

الملفت في هذا الفيلم تبرئته الجرذان من تهمة الناقل الأول والرئيسي له، فالدراسات التي قام بها العلماء بينت أن سبب سرعة انتقاله تعود إلى الإنسان، فعدوى انتقال المرض من إنسان إلى آخر ساعد في تفشيه، وأن البراغيث والبعوض هما من كانا وراء نقله إلى الإنسان لا الفئران كما أُشيع وظن الناس لقرون.

 

هياكل عظمية تحت الأرض.. “عودة للموت الأسود”

يميل منتجو “بي بي سي” عند معالجتهم قضايا ذات طابع شمولي إلى إيجاد مقاربات جديدة، ويمكن تلمس ذلك بسهولة عند اشتغالها على الأوبئة ومحاولتهم معاينتها برؤية حداثية غير تقليدية، وهذا ما سنلاحظه خلال عودتهم لمرض الطاعون عبر مقاربة جديدة حملت عنوان “عودة للموت الأسود” ربطوا فيها بين انتشار المرض في مدينة لندن وبين ما تركته تبعاته عليها بعد قرون.

وقد استلهم “كيني سكوت” فكرته بعد سماعه خبر عثور عمال مشروع توسيع قطارات الأنفاق في مدينة لندن عام 2012 على هياكل عظمية مطمورة تحت الأرض يعتقد أنها كانت مقبرة جماعية.

تبيَن بعد تحليل الهياكل من طرف علماء الآثار أنها تعود لأشخاص ماتوا بسبب مرض الطاعون أو ما يطلق عليه “الموت الأسود” الذي انتشر في المدينة عام 1348 وقضى على 60% من سكانها تقريبا.

بوستر فيلم “عودة للموت الاسود” الذي أنتجته “بي بي سي” عن وباء الطاعون

 

مركزية لندن.. نبش في ظروف انتشار المرض

لم يذهب البحث السينمائي إلى تاريخ المرض وانتشاره فحسب، بل تعداه إلى الربط بين المدينة وفهم ظروف عيش سكانها في تلك الحقبة، مستعينا بعلمي الاجتماع والأنثروبولوجيا، ومن خلالهما يحلل العلماء البريطانيون الظروف التي عاش فيها أجدادهم اللندنيون والسر وراء تفشي المرض.

إلى جانب تأكيد الفيلم حقيقة أن البراغيث والقُمل هما من ساعد على انتشاره بين الناس لا الفئران، فإن عوامل أخرى أسهمت فيها ليس أقلها أهمية المدينة، فالمرض جاء أولا من خارج حدودها وبالتحديد من آسيا عبر مسافرين وصلوا إلى لندن المركز التجاري المهم وقتها، لكن ما كان له أن ينتشر بالسرعة الفظيعة لولا وجود البيئة الملائمة لتحوله إلى وباء قاتل.

السؤال الملح والمهم الذي يطرحه الوثائقي هو كيف ينبغي للبشرية العمل على عدم عودته ثانية، بينما هناك مؤشرات تؤكد إمكانية ذلك ومن بينها ظهوره قبل سنوات قليلة في “تاهيتي”.

 

“زيكا وإيبولا وما بعدهما”.. أخطر الأوبئة التي عرفتها البشرية

موضوعيا وبحكم اهتمام الوثائقي بكل الظواهر ذات الصلة المباشرة بالحياة الواقعية؛ اهتم بالأمراض الخطيرة والأوبئة، وغالبا ما كان يركز إنتاجه بعد تفشيها مباشرة وخلالها في بعض الأحيان.

من بين الأعمال الوثائقية المهمة “تداعيات.. زيكا وإيبولا وما بعدهما” للمخرج “جيمس بارات” الذي يمنحه طابعه الموسوعي بُعدا ملحميا علميا، ويسلط الضوء على تفاصيل أخطر الأوبئة التي عرفتها البشرية في وقتنا الحالي.

كما يهتم بحقائق متعلقة بجوانب سياسية واقتصادية وثقافية ذات صلة بمسببات انتشارها في بيئات معينة، فأفريقيا مثلا أضحت موطنا لأوبئة خطيرة، ومن بين العوامل المساعدة في ظهورها ضعف البنية التحتية لدولها وقلة اهتمام العالم بمصائبها.

ممرضة تحقن طفلا في الكونغو ليشفى من مرض “إيبولا”

 

إيبولا.. جائحة الموت الأفريقية

يمثل مرض “إيبولا” مثالا واقعيا ينطلق منه الوثائقي ليقدم صورة كاملة عنه وعن الظروف المساعدة على انتشاره وبشكل خاص في دول غرب أفريقيا.

يبدأ الوثائقي في عرض تاريخي لظهور المرض ويؤشر إلى موت إحدى الراهبات في الكونغو كأولى ضحاياه، وبفضل المكروسكوبات الإلكترونية المتطورة ومساعدة علماء بلجيكيين توصلوا إلى نوع الفيروس المسبب لموتها، تبين شدة الشبه بينه وبين فيروس “ماربوغ” الذي اكتشف قبل عشر سنوات تقريبا، وتسبب في موت حوالي 90% من المصابين به.

ذهبت بعثة علمية إلى منطقة يامبوكو لتقصي الوسائل الناقلة، وقد اعتقدوا أول الأمر أن البعوض وبعض أنواع القمل هي الأكثر ترجيحا، لكن البحث الميداني اللاحق أوصلهم إلى حقيقة مفادها أن سرعة انتشاره متأتية من احتكاك الناس بالحيوانات أولا واحتكاك بعضهم ببعض ثانيا.

أطلق العلماء على عملية انتقال الفيروس من الحيوان الحامل إلى الإنسان مصطلح “زوناليك”، كتعبير شامل عن عملية انتقال الفيروسات إلى الإنسان عبر وسيط حيواني، ويحدث هذا في أمراض وأوبئة كثيرة تنتقل عبر الطيور والخفافيش والقردة والخنازيز وغيرها، مثل نقص المناعة المكتسبة “الإيدز” و”زيكا” و”إنفلونزا الطيور” و”إيبولا”.

نهر إيبولا الذي يجري في غرب أفريقيا، والذي سُمي وباء إيبولا باسمه

 

نهر إيبولا.. ميلاد أشد الفيروسات ذكاء

من أولى المعلومات المثيرة للاهتمام هو أن اسم “إيبولا” جاء من اسم النهر الذي يجري في غرب أفريقيا، فلم يرد العلماء تسمية الوباء باسم القرية التي ظهر فيها أول الأمر خشية من اقترانها في أذهان الناس بوباء مميت.

يشرع صناع الفيلم بتقديم كم كبير من المعلومات المُعينة على فهم كلمة “فيروس” واختلافه عن بكتيريا، ويقف عند حقيقة أن الفيروس المسبب لوباء “إيبولا” هو من أخطرها لشدة ذكائه وقدرته على التحول وإنتاج أنواع جديدة منه، فخلال مدة ليست طويلة استطاع إنتاج خمس أنواع، كل نوع يختلف في خصائصه الجينية عن الآخر، مما صعب على العلماء إيجاد حل نهائي له.

يرجع الوثائقي إلى تاريخ ظهور المرض في عام 2014، وكيف ساعد ضعف البنية التحتية لدول غرب أفريقيا على انتشاره في نطاق واسع، وقد اكتشف العلماء أن الخفافيش هي الناقل الأنشط له، وساعد الفقر والحروب الأهلية على سرعة تفشيه، كما أن قلة الوعي الصحي كانت من بين أشد المعوقات لمنع انتشاره بين دول القارة.

 

“زيكا”.. فيروس غريب يضرب أطفال البرازيل

بينما كان العالم مشغولا بإيبولا كان وباء “تشيكونغونيا” ينتشر في جنوب القارة اللاتينية، وأصاب منها حوالي مليون شخص، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة، وفي عام 2015 بالتحديد ظهر مرض غريب في البرازيل يصيب الأطفال حديثي الولادة بتشوهات في الجُمجمة ويعيق أدمغتهم عن النمو الطبيعي، إنه مرض “زيكا” اللعين.

يدرج العلماء مرض “زيكا” ضمن قائمة أمراض “زانوتيك بسبب انتشاره بواسطة البعوض، ويهتم الوثائقي بالتوقف عند المصطلح ومعرفة الجوانب الحياتية الملموسة المتعلقة به، فمع أن البعوض هو الناقل له إلا أن انتشار الفيروس يعود أصلا إلى شدة اقتراب البشر من الحيوانات، ومن بين أكثر مظاهره إقامة المشاريع الزارعية بالقرب من الغابات الطبيعية.

يقرب هذا النشاط العاملين في مجال الزراعة من حيوانات الغابة ويسهم ذلك في انتقال أمراضها إليهم، ويضاف إلى ذلك كثافة المدن وزيادة عدد سكانها، مما يزيد من شدة الاحتكاك بين سكانها في الشوارع والمحلات والأزقة ووسائل النقل العامة، ناهيك عن رداءة البنية التحتية وقلة النظافة التي تساعد كثيرا على تكاثر البعوض في المياه الآسنة والمستنقعات.

مرض “نيباه” الذي انتشر في بنغلادش، وسببه فيروس قاتل ينتقل عبر لُعاب الخفافيش إلى الإنسان

 

“نيباه”.. عسل التمر البنغالي القاتل

لا يختلف الأمر في آسيا كثيرا عن أمريكا اللاتينية وأفريقيا فقبل أكثر من عشرين سنة من ظهور مرض “إيبولا” انتشر في بنغلادش مرض “نيباه” ومسببه فيروس قاتل ينتقل عبر لُعاب الخفافيش إلى الإنسان.

قضى المرض على نسبة 75% من المصابين به، وكان العامل المساعد على انتشاره -كما توصل العلماء- هو عسل شجرة نخيل “بالما”، ففي الفترة ما بين ديسمبر/ كانون الأول، ومارس/ آذار من كل عام يقوم الفلاحون باستخراج عسل التمر من أشجار النخيل، ويُعد عصيره المنعش والطيب من أكثر العصائر الحلوة رخصا وشعبية في البلد.

لكن المشكلة ليست في العسل نفسه بل في الخفافيش التي تأتي إلى نفس الأشجار وتشرب من عسلها فتنقل بعض الفيروسات الموجودة في لعابها إليه. كما لاحظ العلماء أن أسباب انتقال الفيروس لا يكون دوما بشكل مباشر عبر عسل التمر، بل في حالات كثيرة عبر بعض الكلاب التي ينقل الخفافيش إليها المرض ثم تنقله الكلاب للناس.

 

“برديك”.. مشروع ردع الفيروسات في عصر السرعة

من العوامل المساعدة على انتشار الأوبئة في وقتنا الحاضر سهولة التنقل عبر وسائل متطورة مثل الطائرات والقطارات، إذ يتابع الوثائقي انتقال مريض مصاب بفيروس “إيبولا” من غرب أفريقيا إلى لاغوس في نيجيريا، فخلال أيام قليلة نقل مرضه إلى عدد كبير من سكانها، ولكن بفضل استعدادتها الجيدة استطاعت نيجيريا تجنب انتشار الوباء في أراضيها.

تشجع هذه التجربة العلماء على البدء بمشروع “برديك” الطموح لتشخيص أكثر الفيروسات خطورة في العالم والبحث عن أنجع الطرق لمكافحتها، وفي مقدمتها إيجاد لقاحات فعالة تقضي عليها.

يشير الوثائقي في ختام مسيرته إلى حقيقة تتعلق بالتضحيات الجسام والشجاعة التي يتحلى بها العاملون في الحقول الطبية وبشكل خاص في الدول الفقيرة ذات الإمكانات البسيطة، ويُذكر أن أكثر من 900 من هؤلاء العاملين في غرب أفريقيا قد قضوا نحبهم نتيجة لعملهم بين المرضى المصابين.

 

“صراع ضد إيبولا”.. أطباء بوسائل طبية بدائية

يعود الوثائقي الأمريكي “صراع ضد إيبولا” للتذكير بالأبطال الذين يعملون في ظروف قاهرة لمواجهة أمراض خطيرة. ويرافق مصوروه منتجه الصحفي “داني غرين” خلال ذهابه لتغطية الحملة الطبية التي أمر بإرسالها الرئيس الأمريكي “أوباما” إلى ليبريا لمكافحة وباء “إيبولا” الذي اجتاحها وقتل مئات الآلاف من سكانها.

يقترب الصحفي من مناطق الخطر ويدخل بيوتا صفت جثث الموتى فوق بعضها، وينقل حالة الهلع بسبب قلة الإمكانيات الطبية والشكوى من ضعف استجابة الجهات الطبية لنداءت الإغاثة التي يطلقونها، ومن جهة أخرى يقابل عاملين في المستشفيات يعملون ليل نهار معرضين حياتهم للخطر.

من أكبر المشاكل التي شخصها الوثائقي خلال جائحة ليبيريا عام 2014 قلة توفر سيارات الإسعاف، وقلة عدد الأسرّة المخصصة للمصابين والمحتاجين للرعاية المُركزة. يعبر واحد من سائقي الإسعاف عن تضامنه وحماسته لإنقاذ مواطني بلده، ويحرص الوثائقي على تثبيتها لما فيها من قوة تعبير عن الشعور بالمسؤولية.

كما يقابل أيضا ممرضات وأطباء يعملون في ظروف غاية في الصعوبة والتعقيد، ومن بين ما يشخصه الوثائقي قلة استعداد الدولة الفقيرة لمجابهة الكوارث، فكل شيء فيها متروك للحظته، وقد أدى غياب التخطيط إلى ارتفاع الضغط على مستشفيات تعاني في الأصل من قلة الإمكانيات، ومع ذلك لا يتردد العاملون فيها عن مواصلة عملهم بأكثر الوسائل الطبية بدائية.

لقطة من فيلم “صراع ضد إيبولا” تُظهر أحد الممرضين الذي ذهب لمتابعة مرضاه في بيوتهم

 

بطولات الممرضين الانتحارية.. دعوة لإيقاظ ضمائر العالم

من القرارات الصعبة التي اتخذتها إدارات المستشفيات في العاصمة “مونروفيا” إبقاء المرضى في بيوتهم وإرسال ممرضين يتابعون حالتهم فيها، يصف الصحفي زيارة الممرضين لتلك البيوت بعملية انتحارية، ومع شدة مخاطرها على حياتهم لا يترددون في مواصلة عملهم.

يقابل الصحفي رئيس الأطباء داخل مستشفى طارئ بُني على عجل لاستقبال أشد المرضى حاجة للرعاية العاجلة، وبقدر ما يشتكي من ضعف ما هو متوفر عنده ومناشدته للأمم المتحدة وكل دول العالم لتقديم مساعدات عاجلة إليهم فإن قوة الأمل عنده على مواجهة الوباء مدعاة للتأمل.

يسأله الصحفي إذا كان بإمكانه زيارة المرضى ومقابلة بعضهم؟ فيجيبه الطبيب بالرفض حفاظا على سلامته، بينما يهم هو في طريقه للدخول إلى القاعة لتقديم يد العون لمرضاه.

 

مع الإنسان.. صرخة إعلامية لمساعدة عاجلة

من بين من يُشير الصحفي إلى شجاعتهم عاملون متطوعون في منظمات إنسانية قدِمت من أنحاء متفرقة من العالم لتقديم المساعدة مثل منظمة “مور ذان مي” و”الصليب الأحمر” وغيرها، إذ يقف هؤلاء في الصفوف الأمامية ولا يخافون من انتقال المرض إليهم، فقناعتهم راسخة بأن البشر عليهم أن يتحدوا وقت المحن.

يذهب الصحفي بناء على نصيحة ممرضة إلى مناطق العاصمة الفقيرة لمعرفة الأسباب المساعدة على تفشي المرض وصعوبة محاصرته، وستدفعه جولته للوقوف أمام الكاميرا وتوجيه نداء للبشرية من أجل الإسراع بتقديم المساعدة العاجلة.

يعرض الوثائقي دون تبجح من خلال تجربة الصحفي الميدانية جانبا من شجاعة رجال الإعلام حين يقدمون على الدخول إلى أكثر المناطق خطورة من أجل نقل ما يجري فيها إلى العالم، وحتى يوقظوا الرحمة في قلوبهم لمد يد العون لمن يحتاج المساعدة اللازمة.

 

“نار في الدم”.. وجه شركات الأدوية القبيح

يحيل الجانب الإنساني والشجاع للصحفي إلى جانب بشع متناقض معها يتعلق بسلوك شركات الأدوية وأصحابها الذين لا يهمهم سوى الربح.

كرس الوثائقي الهندي “نار في الدم” جهده لفضحها وتعرية مواقف بعض شركات الأدوية العملاقة الرافضة لإنتاج أمصال ولقاحات رخيصة الثمن لمعالجة مرض نقص المناعة “الأيدز”، إذ ليس بإمكان الدول الفقيرة توفيرها للمرضى من مواطنيها بالأسعار التي تقررها الشركات، وقد أصرت هذه الشركات على بيع منتجاتها بأسعار غالية، مما أدى إلى إطالة عمر المرض وموت الملايين من المرضى بسببه، وبشكل خاص في الدول النامية.

ارتفعت أصوات وضغطت على شركات الأدوية لتوفير اللقاحات والأدوية بأسعار معقولة رحمة بالمرضى وبالإنسانية، ويتوقف الوثائقي عند المساهمات الفردية الشجاعة ومواقف قادة وسياسيين مثل الرئيس الأمريكي السابق “كلينتون” ورئيس أساقفة جنوب أفريقيا الحائز على جائزة نوبل للسلام “ديزموند توتو” وغيرهم ممن ضغطوا على الشركات لتغيير موقفها، وشجعوا دولا مثل الهند على إنتاج لقاحات رخيصة ساهمت عمليا في الحد من انتشار المرض.


إعلان