“رواندا ميراث الإبادة”.. عقدة الجيل الذي لم يشهد الحرب

د. أمــل الجمل

عندما شاهدت أمي تُعاني آثار الصدمة والاكتئاب شعرت بالخوف وبالحزن يسري بداخلي، فمن الصعب أن تتفهم حالتها، أو أن تجد الشفاء لجراحها وصدمتها المروعة. بالنسبة لأبي لا أستطيع أن لا أحبه، إنني أحبه فهذا حتمي، لكن حقيقة أنه شارك في الإبادة جعلني بعيدا عنه نفسيا، وعندما أكون معه أحاول أن لا أُظهر هذا الشعور، دائما أفعل كل شيء يطلبه مني، وأتحدث معه عن كل شيء ما عدا الإبادة، لأنها تجعلني أشعر بالعار والخجل والرعب.

إنها كلمات جان، الشاب الرواندي البالغ من العمر 16 عاما. شاب لم يعش الوقائع الفعلية لسنوات الحرب الرواندية ولا أشهر الإبادة، لكنه يحمل ميراثها الثقيل فهو ابن لأم من ضحايا التوتسي، ووالده كان أحد الهوتو المشاركين في حرب الإبادة عام 1994.

 

نكأ الجراح.. خطوة المصالحة الأولى

“جان” ليس الوحيد، بل هو أحد ستة من الشبان والشابات نشعر بوطأة مأساتهم ضمن أحداث الفيلم الوثائقي “رواندا ميراث الإبادة.. أصوات شابة” للمخرج “أندريه فريساليه”، كما أن هؤلاء الشباب الستة ليسوا الوحيدين أيضا، إنهم عينة فقط -تتراوح أعمارهم بين 16 و 25 سنة- تنتمي للجيل الرواندي الجديد الذي لم يعاصر هذه الأشهر من الإبادة، لكنه وُلد ليجد نفسه مُكبلا بميراثها الثقيل المؤلم نفسيا واجتماعيا، ميراث لا تراه العين المجردة، ويُنكره البعض أو يتجاهله البعض الآخر، بينما الحقيقة أنه لا زال يربض على الصدور بقسوة، رغم محاولات التصالح والطفرة الاقتصادية التي حققتها البلاد.

كثيرة هي الأفلام والبرامج التلفزيونية المنتجة عربيا وأوروبيا عن رواندا وجيرانها، ومن بينها عدة أفلام وبرامج متميزة أنتجتها الجزيرة الوثائقية عن المذابح في رواندا، حيث تناولت بعمق الأسباب التاريخية وراء نشأة النزاع، ودور الكنيسة ودور الإعلام الذي نثر بذور الكراهية ثم قام بتكريسها، مثلما أجج الحرب بين الأقلية المتمثلة في التوتسي والأغلبية من الهوتو.

ومع ذلك يبقى فيلم “رواندا ميراث الإبادة.. أصوات شابة” فيلما مؤلما وجميلا في آن واحد، عن تلك المأساة الإنسانية وفظائع الحرب والاقتتال بين قبائل الهوتو والتوتسي وحوادث الاغتصاب التي تعرضت لها نساء بالغات وقاصرات من التوتسي على يد رجال الهوتو، ويركز الفيلم على ميراث هذا الاغتصاب من خلال بعض اللقاءات مع الأبناء والبنات الذين ينتمون لأمهات من التوتسي نجت من تلك الإبادة، بينما آباءهم كانوا من الهوتو القتلة والمغتصبين.

فالفيلم لا يتطرق إلا لهذا الميراث النفسي الذي كاد أن يدمر العالم الداخلي لهؤلاء الشبان والشابات، وكأنه يسعى لفتح الجراح لإخراج ما بها، كأن صانع العمل يُدرك تماما أنه لا تصالح قبل أن يتحدث الناس عن ما في نفوسهم، فالكلام والحوار هو الخطوة الأولى على طريق الفهم والتصالح والغفران، وإن كانت بداية الحوار مهمة شاقة وصعبة للغاية.

صور تذكارية تجمع كافة ضحايا إبادة التوتسي التي حصلت في رواندا عام 1994 على أيدي الهوتو

 

“نحن الآن روانديون”.. إرث ثلاثة أشهر من القتل والتفكك

يبدأ الفيلم الوثائقي من فصل مدرسي لتعليم الصغار حيث تحدثهم المعلمة عن الإبادة التي وقعت للتوتسي على أيدي الهوتو عام 1994، ثم تخبرهم أن “ذلك الفصل انتهي، فالآن تُوجد مصالحة، لا يوجد هوتو ولا توتسي، نحن الآن روانديون” فيردد الأطفال بعدها بصوت جماعي: “نحن الآن روانديون”، وذلك قبل أن ينطلقوا من الفصول إلى الساحة الممتدة الممتلئة بالخضرة.

بعدها ينتقل المخرج إلى صور للضحايا معلقة بمشابك في مكان مخصص لحفظ ذاكرة هذا الحدث، لكن صور الضحايا هي صور تذكارية من حياتهم العادية قبل أن تندلع الحرب وأشهر الإبادة، هذا إلى جانب لقطات فوتوغرافية لمشاهد الضحايا بعد القتل، وأخرى في مخيمات اللاجئين في تنزانيا.

خلال ثلاثة أشهر كان البشر يتصرفون كالحيوانات في البرية، فلم يكن هناك سلطان على القتل الوحشي المتفشي في الدولة، حتى الأطفال الصغار لم يكن هناك سيطرة عليهم بعد أن وقع تجنيدهم، فكانوا يحملون السلاح ويسفكون الدماء دون رحمة، وإذا تساءل البعض عن دور الآباء في ردع الصغار ستجد مَنْ يقول: لم يكن هناك سلطان لأي أب علي أبنائه، لم يكن الصغار يعودون للبيت في أيام كثيرة بعد أن صاروا ضمن الجناح العسكري، كانت فترة مرعبة.

في ثلاثة أشهر فقط من الإبادة قتل ما يتراوح بين 800 ألف ومليون إنسان توتسي على أيدي الهوتو، لم تكن الإبادة عادية، بل كانت هناك حالات تزاوج ومصاهرة بين القوميتين، فطالب قادة الهوتو من الرجال المتزوجين بنساء التوتسي أن يقتلوا نساءهم وأولادهم، لكن بعضهم لم يجرؤ على فعل ذلك، واكتفى بطرد النساء والأبناء، ولا زال حتى اليوم لا يعترف بهم بعد أن بدأ حياة جديدة مع أسرة جديدة متناسيا ماضيه، تاركا وراءه أسرة من التوتسي لا يسأل عنها ولا يعترف بوجودها، بل يصفها بنفس الأوصاف السيئة التي كان يرددها إعلام الأغلبية.

لكن البعض الآخر كان مخلصاً لزوجته وأبناءه فلم يضحِّ بهم، بل قام بتهريبهم أو إخفائهم في المزارع، لكن من اكتشف أمره منهم كان عقابه القتل مع أسرته، هذا ما نعرفه من سرد أبطال الفيلم ورثة الإبادة من الأصوات الشابة.

الطفل جان وُلد بعد الإبادة لأم من التوتسي وأب من الهوتو المشاركين في الإبادة

 

أيديولوجيا الإبادة.. تهرب من فتح جرح لم يندمل

يقول “جان”: ولدت بعد الإبادة، ولا أعرف كيف التقي أبي وأمي، ولا أعرف كيف منحوني سر الحياة والميلاد، لكن من أعماقي أعرف أنني ولدت لأم من التوتسي نجت من الإبادة بعد أن قُتلت عائلتها، وأبي من الهوتو شارك في الإبادة، وقضى أحد عشر عاماً خلف أسوار السجن، زرته خلالها مرتين فقط. أنا مرعوب من فكرة أن أساله. علي أي حال الأسئلة التي يُمكن أن أوجهها إليه هي: هل شارك في عمليات القتل وإراقة الدماء أثناء الإبادة أم لا؟ ماذا كان يدور في عقله آنذاك؟ ماذا كان يعتقد وفيم كان يفكر؟ لكني لا أدري من أين أبدأ.

بينما يقدم لنا “جوليان” -البالغ 21 سنة- نفسه على أنه ابن لامرأة ناجية من التوتسي وأب من الهوتو، يشير إلى أول مرة سمع فيها كلمة “الإبادة” في المدرسة عندما طلبوا منه كتابة بحث معمق عن الإبادة، فوجه السؤال لوالده الذي أحاله على الأم، وكذلك فعلت الأم نفس الشيء. كان كل منهما يتهرب ويحيله إلى الآخر، وكأنهما لا يجرآن على فتح هذا الجرح الذي يبدو أنه لم يندمل.

وهذا أيضا ما تؤكده كلمات الفتاة “أنج” التي تبلغ 25 عاما، ففي المدرسة لا يزال بعض الطلبة متورطين في أيديولوجيا الإبادة، مؤكدة أن الكراهية لا تزال موجودة، فبرغم أن المدرسين يحاولون تحقيق المصالحة، فإن بعض الأهالي خصوصا من الهوتو يمنعون أطفالهم من اللعب أو التعامل مع أبناء التوتسي، ولا يزال بعضهم يصف التوتسي ببعض الأوصاف السيئة التي كان الإعلام يستخدمها وقت الإبادة وخلال السنوات الحرب.

هياكل عظمية وجماجم لضحايا التوتسي الذين تمت إبادتهم عام 1994 على أيدي الهوتو

 

مصادر قوة الوثائقي.. لغة سينمائية بامتياز

قد يدعي البعض أن الفيلم تليفزيوني محاولين بذلك التقليل من شأنه، لأنه يعتمد على الحوارات مع الأصوات الشابة وهم جالسين بدون حركة، بينما الحقيقة عكس ذلك تماما، فهذا فيلم ينتهج لغة سينمائية بامتياز، فيلم لا يعتمد على البهرجة ولا الإبهار الخارجي، وذلك رغم أنه يتميز بتصوير جيد للطبيعة، والكاميرا موضوعة في أماكنها المناسبة تماما، تتحرك حركة عرضية شمالا أو يسارا وقت الضرورة القصوى لمتابعة رد فعل أحد طرفي الحوار.

كما يتمتع الفيلم بتوظيفه للميتافور (الاستعارة) في لمحات خاطفة تعبيرا عن الحالة النفسية للأبطال مثل نظرات كلب محبوس في الحظيرة يحاول أن يُطل بإحدى عينيه من خلف السياج الخشبي، أو لقطات الأيدي بحركتها المعبرة عن التوتر الداخلي، أو نظرات العيون وإيماءات الوجه رغم الصمت، لكنها تكشف قدرا من الجحيم الداخلي للشخصيات، أو صوت الرعد قبيل سقوط الأمطار التي وظفها المخرج ردا على جملة أحد الشباب أنه مرعوب من فكرة أن يفتح النقاش مع والده، وتُعبر عن هذا الجيل فجميعهم لم يتحدث مع أسرته، وكأن فتح القضية أصبح من المحرمات أو ضد القانون، كما أنه مثار في الأناشيد وفي بحوث الطلبة.

معسكر للاجئيين الروانديين في تنزانيا

 

بطولة الفيلم.. نقطة التقاء سيل الآلام المرتطمة

تتوزع بطولة الفيلم بين ثلاث مصادر، بين محررة الفيديو “ماريون شاتنج” التي قامت بنسج كافة التفاصيل والمشاهد بحساسية كبيرة، وحققت ترابطا عضويا بإيقاع يُعضد التوتر الداخلي للشخصيات، ومنحت كلا منهم الفرصة الكافية للتعبير عن دواخله، فكانت تتوقف في لحظات نشعر أنها تحتاج للتنفس والاستراحة من شحنة الألم أو للتأمل، ثم تعود لنفس الشخصية مجددا لتكمل حديثها.

البطل الثاني هو المخرج الذي كثف قضيته في زاوية محددة بالغة الخطورة، وهو من اختار البطل الثالث بالفيلم، وهى النماذج المتنوعة لأصوات شابة تتلاقى في آلامها، لكن لكل منهم تجربته المختلفة، فبعضهم كان محملا باليأس والشكوى ولديه ضعف بإرادته الشخصية قاده للإدمان والرسوب في دراسته قبل أن يعود مجددا للطريق الصائب، وبعضهم لم يستسلم منذ البداية، وبعض آخر يؤرقه وصف الناس له بأنه ابن القتلة، حتى أن أمه في بعض أوقات غضبها ربما نادته بابن القتلة، وبعضهم يؤرقه أنه لا يعرف أباه ولا يمتلك صورة له ولا يعرف شكله، فالأم نفسها لا تتذكر ملامحه، لأنها من شدة الذعر لم تكن تراه عندما كان يجري اغتصابها في كل مرة.

 

“لا تريدين النظر في عيوني؟”.. ألم رابض فوق الصدر

مع ذلك فهناك فتاة لا تزال تفخر بأن والدها رفض التضحية بها وبأمها، رغم أنه قُتل بسبب ذلك، بينما هناك فتاة أخرى تسائل أباها الذي قضى سنوات خلف القضبان إن كان تورط في إراقة الدماء، فينفي ذلك لكنه يعترف بأنه “كان يتبع القتلة، ويعترف بذنبه وبأنه كان مخطئ ونادم على ذلك” لكن عندما لا تنظر إليه ابنته مباشرة في عيونه أثناء حوارهما يسألها: “هل تشعرين بالخجل مما فعلت لذلك لا تريدين النظر في عيوني؟”، ثم تحتقن عيونه بالدموع وكأن ذلك الفعل أشد ألما من سنوات السجن.

تتضاعف أهمية الفيلم الوثائقي “رواندا ميراث الإبادة.. أصوات شابة”، لأنه أثناء مناقشة قضية إبادة نحو مليون مواطن في ثلاثة أشهر فقط، فإنه يطرح أمامنا آثار الحروب الأهلية ومخلفاتها على أرواح ونفوس البشر رجالا ونساء وأطفالا، فما يحكي أبطال هذا الفيلم وما يُعانيه كل منهم مما يربض فوق صدورهم من معاناة نفسية ستجده يكاد ينطبق على كافة ضحايا الحروب الأهلية والقومية كما حدث في البوسنة والهرسك على يد صربيا وغيرها من بلدان العالم التي لجأت إلى الإبادة، وأثناء ذلك كانت تقوم باغتصاب النساء بطرق مروعة شديدة الوحشية.


إعلان