“جيف بيزوس”.. نقاط مظلمة في مسيرة إمبراطور أمازون
قيس قاسم
قصة صعود الملياردير الأمريكي “جيف بيزوس” صاحب مؤسسة أمازون التجارية وهيمنته على قطاعات واسعة من الأسواق العالمية وبشكل خاص على حقل المبيعات عبر الإنترنت هي قصة ملفتة للانتباه، لذا يقترح المخرج “جيمس جاكوبي” نقلها على الشاشة من منظور نقدي استقصائي يبحث تبعات تأسيس إمبراطوريته الكونية.
لقد أزاحت هذه الإمبراطورية في طريق صعودها مؤسسات وشركات عملاقة، وتحولت في زمن قياسي من شركة تبيع كل شيء إلى شركة تعمل في كل شيء دون وجود منافس حقيقي لها، مما يثير أسئلة أخلاقية حول مبادئ التجارة الحُرة ومنع الاحتكار وحماية الحريات الشخصية عندما تنتهك بعض منتجاتها الخصوصية الفردية.
السؤال الأهم الذي ينشده فيلم “إمبراطورية أمازون صعود وهيمنة جيف بيزوس” هو هل هناك حد لطموح الإنسان ورغبته في السيطرة وأخذ كل شيء لنفسه؟
تجربة بيزوس.. ميلاد أعظم الإمبراطوريات الرقمية
يُقَدِر صانع الوثائقي تجربة المليادير جيف بيزوس الملهمة لكونه شخصا بدأ بسيطا، لم يولد و”في فمه ملعقة ذهب”، لذا فإن قدرته على الابتكار مذهلة ونظرته الشاملة ورؤيته للمستقبل مدعاة للتأمل، وقد صنعت كل تلك الصفات منه رجل أعمال ناجح من بين قلة في العالم استطاع إقامة إمبراطورية تجارية سيطرت على حقول واسعة من حقول التصنيع والتجارة.
كانت تلك الجوانب الإيجابية حاضرة في متن الوثائقي، لكنه لم يكن ينوي تقديم عمل سينمائي يتمحور مساره حولها فحسب، بل أراد تقديم تجربته بكل ما يحيطها من سلبيات وإيجابيات حتى يتمكن من طرح أسئلته الأكثر تعقيدا حول القيم الرأسمالية، ومفاهيم العصرنة ومدى انسجام سلوك الملياردير معها.
“وول ستريت”.. دخول معترك العالم الرقمي
انطلقت بداية حياة “بيزوس” العملية من مركز المال العالمي “وول ستريت” حيث عمل موظفا في صندوق التمويل المالي “دي أي شو”، ومن حسن حظه أنه كلف بجمع المعطيات والمعلومات المتعلقة بحركة الأموال عبر الإنترنت.
كان هذا في أول عهد ثورة المعلومات، ومنها استلهم لاحقا أفكاره التجارية بعد تيقنه الكامل أن من يملك قاعدة المعلومات ويصبح واحدا من مصادرها الأساسية سيكون بإمكانه التحكم بجزء مهم من عالم التجارة والأسواق المالية.
وجد “بيزوس” في العالم الرقمي سحرا جاذبا بعد أن لاحظ تضاعف أعداد مستخدمي الموقع الإلكتروني الخاص بالشركة خلال عام واحد آلاف المرات، وقد ألهمه ذلك العمل أفكارا تجارية جديدة ليشرع بتنفيذ واحدة منها.
مرآب صغير.. باكورة عمل بيع الكتب عبر الإنترنت
لاحظ “جيف بيزوس” أن البحث عن المقالات المختصة يأخذ حيزا كبيرا من اهتمام متصفحي الصفحات الإلكترونية، لهذا فكر في جمع أكبر عدد منها ووضعه في صفحة واحدة، وقد قادته هذه الفكرة لجمع أكبر عدد من الكتب والإصدارات في حيز واحد.
تبلورت فكرة بيع الكتب عبر الشبكة العنكبوتية في ذهنه أواسط التسعينيات من القرن المنصرم وشرع بحماسة لتحويلها إلى حقيقة، وقد سمَى مشروعه “ريلنتلس” (Relentless.com) أول الأمر، ثم بعد مدة قصيرة قرر تغييره إلى “أمازون” مستوحيا إياه من اسم النهر العظيم المتدفق طيلة الزمن، وقد تعاون “بيزوس” لتحقيق الفكرة مع “مكتبة مكنزي” الشهيرة، وكان مقر شركته الأول مدينة سياتل الأمريكية، أما مكتبه فكان عبارة عن مرآب صغير للسيارات.
انتفاء القيمة المضافة.. كسب ود الجمهور
يعتبر عماد مشروع أمازون هو الأسعار الرخيصة وسرعة وصول البضاعة إلى بيت المستهلك والاستجابة السريعة لمتطلباته، ولمعرفة ذلك كان لا بد من دراسة سلوك المستهلك عبر صفحات الإنترنت، وتَقصي ماذا يحب وأي الكتب يريد، وأسهل الطرق التي يريد أن تصل إليه بها.
لم يضع “بيزوس” الربح هدفا أساسيا في بداية المشروع، بل على العكس انتهج سياسة الخسارة القليلة مقابل كسب أكبر عدد من الزبائن، كان الهدف الأساسي من استراتيجيته التجارية تلك إبعاد المنافسين، فكلما كانت الأسعار أرخص عجز منافسوه عن مجاراته واضطروا لترك الساحة له.
ويكمن سر رُخص البضاعة من غياب القيمة المضافة، فالبيع عبر الإنترنت يخلصه منها، وبالتالي سيتمكن من عرضها على المستهلك عبر موقع “أمازون” بأسعار رخيصة مقارنة بأسعارها في بقية المكتبات التقليدية.
بيع كل شيء.. مشروع التوسع الانفجاري
لقد حدث تغيير مهم في سلوك الزبون يؤشر على نجاح خطته، فقد صار يأتي إلى المكتبات بنفسه يعاين الكتب وأسعارها ثم يذهب إلى البيت ليحجز عبر الإنترنت الكتاب الذي يريده من أمازون، وبذلك زاد الطلب على كتبه خلال مدة قصيرة، وتوسعت تجارته إلى حدود واسعة تطلبت زيادة عدد العمال العاملين في مخازنه.
لم يكتفِ “أمازون” ببيع الكتب بل وسع معروضاته لتشمل برامج الحواسيب والألعاب الإلكترونية، وفي مراحل لاحقة سيقوم ببيع كل شيء تقريبا.
دعا في حقل المكتبات أصحاب دور النشر الكبيرة والصغيرة للانضمام إلى موقعه ليعرضوا من خلاله بضاعتهم وبيعها مباشرة إلى الزبائن، فصار بذلك موقع أمازون مثل سوق “وولماركت” الشهير الذي يجتمع فيه عدد من الشركات والماركات التجارية العالمية بفارق أن سوقه موجود على الشبكة العنكبوتية لا على الأرض.
طُعم أعداد الزوار المتزايد.. هيمنة على الشارع التجاري
كان عدد زوار موقع “أمازون” الإلكتروني المتزايد باضطراد بمثابة الطُعم الذي يغوي به “جيف بيزوس” الشركات التجارية للانضمام إلى شبكته بعدما بلغ عشرات الملايين، إلى جانب توفره على قاعدة معلومات خاصة به تسهل عليه معرفة حركة السوق ومؤشراته ودراسة سلوك وحاجيات المستهلك المُتغيّرة.
كان صاحب “أمازون” يحصل مقابل ما كان يقدمه للشركات على جزء من أرباحها ويضمن في الوقت نفسه سيطرته عليها وضمان عدم تحركها خارج موقعه الآخذ بالتوسع الانفجاري. ويُشبه أحد الخبراء الذي استعان به الوثائقي لتحليل نشاط “بيزوس” بتاجر كبير تمكن من السيطرة على الشارع التجاري الرئيسي في المدينة، لم يمتلك زاوية أو بناية واحدة فيه فحسب بل هيمن عليه بالكامل.
“شاشة القراءة الإلكترونية”.. مشروع الغزالة والنمر
أطلق الخبراء الاقتصاديون على استراتيجية “بيزوس” اسم “مشروع الغزالة”، ويتضمن معناه عنصرين هما الغزالة والنمر، أما النمر فهو “بيزوس، وأما بقية الشركات فهي غزلان يستطيع النمر افتراسها متى شاء، وينتقل مسار الوثائقي عند وصوله إلى ذلك المفصل -الذي يشي بسلوك يهدف إلى الإزاحة والسيطرة- إلى الاستقصاء والتحري بعد أن قطع شوطا في عرضه التاريخي للمراحل الأولى من صعود “جيف بيزوس” وتكريس نفسه كواحد من أكبر المهيمنين على سوق المبيعات في العالم.
يتولى مخرج الفيلم “جيمس جاكوبي” بنفسه مهمة التحقق من التهم الموجهة لموقع “أمازون” عبر مقابلته لكل الأطراف ذات الشأن، وأكثر المشتكين من أساليب الهيمنة هم أصحاب دور النشر، بعد أن شعر عدد غير قليل منهم بفقدان خصوصيتهم، وادعوا أنهم عمليا قد تحولوا إلى مجرد عمال عند صاحب شركة أمازون.
أحس بعض أصحاب دور النشر بالتهديد الكامل عندما بدأ صاحبه بتشغيل نظام (Kindle.com) أو ما يسمى “شاشة القراءة الإلكترونية”، وبواسطة الاختراع الجديد سيتمكن المستهلك من قراءة الكتب المحملة على الشاشة الصغيرة.
شكاوى في الظل ومدح في العلن
أدت خطوة “بيزوس” بإطلاق مشروع “شاشة القراءة الإلكترونية” إلى خفض أسعار الكتب الورقية إلى درجة كبيرة، وقد لاحظ المحقق أن قسما من هؤلاء يعلن أمامه شكواه وعدم رضاه من ممارسات “بيزوس” لكنه في العلن يمتدحه أو يتجنب نقده، هل هو الخوف من العقوبة؟ سيُبقي الوثائقي هذا السؤال مضمرا ليتوصل بنفسه إلى جواب عليه.
مع إطلاق “بيزوس” مشروع “أمازون برايم” (Amazon Prime) ازداد حذر أصحاب المكتبات ودور النشر من إعلان موقفهم صراحة من خطوة كرست سيطرته بالكامل تقريبا على سوق مبيعات الكتب والأنظمة المكتبية وتعدتها إلى بقية البضائع.
تتلخص فكرة المشروع في دفع المستهلك اشتراكا سنويا قدره 79 دولارا يحصل مقابله على خدمة توصيل طلباته إليه خلال يومين فقط من دون دفع ثمن البريد، وقد وصل عدد المشتركين في خدمة التوصيل المجاني خلال عام واحد إلى قرابة 150 مليون مشترك، وسيزداد بعد خطوة لاحقة يعلن فيها الموقع إمكانية توصيل أي بضاعة كانت خلال يوم واحد فقط.
“لقد أصبحنا نحن أيضا روبوتات”.. سوء أوضاع العمال
كان مشروع التوسع الروبوتي الطموح مكلفا، لكن الشركة حققت به صعودا هائلا في حركة الطلب، فصار الناس يُقبِلون على الشراء بازدياد ويطلبون بضائع مختلفة ومنوعة، وقد شجع الإقبال على شراء البضائع “بيزوس” على المضي في توسيع شركته، فوسع مساحات مخازنه وأماكنها، ووظف عمالا أكثر، وقد رافق زيادة الطلب ضغط على عمال الشركة وبشكل خاص عمال المخازن الذين زادت شكواهم من سوء تبريدها وزيادة ساعات العمل وشدة المراقبة المفروضة عليهم.
من بين مبادئ عمل “بيزوس” المثيرة للجدل رفضه التام لإدخال النقابات وممثليها إلى أقسام شركته، وقد أثار هذا الرفض ردود فعل النقابات الأمريكية والعمال معا، ويقابل الوثائقي ممثلي بعض فروعها ويوثق شكاوى العمال، لكن لإيقاف هذه الشكاوى أدخل “بيزوس” بعض الروبوتات إلى مخازنه لتقوم بتنظيم وتوزيع البضائع إلى جانب العمال.
لم يحل وجود هذه الربوتات سوء ظروف العمل فظلت العلاقة متوترة بينه وبين عماله، وبشكل خاص بعد أن قرر وضع كاميرات مراقبة داخل المخازن وطبق نظام تسجيل “سْكان” عدد الصناديق التي يحملها كل واحد منهم خلال زمن محدد، كانت تتردد خلال المقابلات عبارة “لقد أصبحنا نحن أيضا روبوتات”.
شكاوى المستهلك والعمال.. تساؤلات أخلاقية
من بين الشكاوى التي رفعت ضد بيزوس زيادة حوادث سيارات التوزيع التابعة للشركة بعد أن تعرض قسم كبير من السائقين لحوادث مرورية أُحيلت أسبابها إلى شدة التوتر وضغط العمل الهائل، ولكن لتخليص نفسه من كل مسؤولية أحدث نظاما جديدا للتوزيع تمثل بتكليفه شركات توزيع خارجية لتتولى بنفسها المهمة، مثل شركة “فيدأكس” و “يو بي أس” وغيرها، ولإبقاء صورته ناصعة طفق يزيد من إنتاج الأفلام الدعائية التي تظهره كواحد من أفضل أرباب العمل على مستوى ضمان صحة عماله وسلامتهم.
رافق كثرة البضائع المباعة عبر “أمازون” وتنوع مصادرها بروز مشكلات جديدة من بينها وجود بضائع غير خاضعة لمواصفات السلامة، وقد تسبب بعضها في حرائق، وأخرى ألحقت إصابات جسدية بمستهلكين وبشكل خاص الأطفال منهم، وقد أثار جانب عدم مراعاة سلامة المستهلك أسئلة حول مسؤوليته الأخلاقية كطرف رئيس في عملية البيع والشراء، وأحاط ادعاءه بأنه “يضع مصلحة المستهلك قبل كل شيء” بهالة من الشكوك.
ملياردير البيت الأبيض.. دعاية تجسيد الحلم الأمريكي
يستمع معد الوثائقي ومخرجه بسبب سيطرة “بيزوس” شبه الكاملة على سوق المبيعات عبر الإنترنت، إلى شكاوى من منافسيه واتهامات له بخرق قوانين المنافسة الحرة وانجرافه نحو هيمنة مطلقة تدرج ضمن مفهوم الاحتكار “منوبول”، كما يستمع أيضا إلى كلام مديري أقسامه الرئيسية وتكذيبهم لكل التهم الموجهة إلى شركتهم العملاقة ونكرانهم وجود أي استغلال أو استحواذ على السوق.
حرص “بيزوس” على طول الخط على إقامة علاقة جيدة مع السياسيين وأصحاب القرار في البيت الأبيض، فخصص جزءا من ماليته لتشكيل لوبي داخله مهمته تسهيل الموافقة على مشاريعه وتصويره كواحد من أعظم من جسد فكرة الحلم الأمريكي.
يستقصي الوثائقي تلك العلاقة ويلاحظ أن المليادير قد أشرك بعضا من مستشاري أصحاب القرار ضمن مشاريعه الكبيرة ومن بينها امتلاك عقارات أهم المناطق في واشنطن ونيويورك، خصص أحد بيوته الجميلة في العاصمة لمقابلة كبار المسؤولين وتمضية أوقات ممتعة معهم.
بين “أوباما و”ترامب”.. تسيد أغنى رجال العالم
يثبت الوثائقي تطورا ملحوظا في علاقة “بيزوس” مع الرئيس السابق “أوباما”، كما يبرز في المرحلة الأخيرة سوء علاقته مع الرئيس الحالي “ترامب” بسبب امتلاك المليادير الأمريكي صحيفة “واشنطن بوست” المعروفة بمواقفها المناهضة لسياسات “ترامب”.
رغم خسارته مشروعات عملاقة تابعة للدولة لم يوافق الرئيس “ترامب” على منحها له، ورغم ارتفاع أصوات كثيرة لمشاريعه الخاصة بتشغيل برامج الحماية وأنظمة الأمن الإلكتروني ومنها “المساعد الشخصي” وكاميرات المراقبة المنزلية، ونظام “رينغ” للتعرف على الوجوه الذي طوره ليدخل ضمن مجالات عمل الشرطة؛ فإن أخطر كل ذلك هو غيمة المعلومات التي تتضمن تقديم معلومات حساسة عن الزبائن والمستهلكين لأجهزة المخابرات ومن بينها “سي آي أي”.
أبقت كل تلك المشاريع ونفوذ اللوبي الخاص به “بيزوس” متسيدا على حقول تجارية وصناعية كبيرة، ولم تقلل الانتقادات من شأن “أمازون” ولا من أرباحها ليغدو بفضلها واحدا من أغنى رجال العالم، وأكثرهم طموحا لدرجة أنه ما عاد يفكر بالأرض بل راح يخطط لاقتحام الفضاء وعوالمه الغامضة.
غزو الفضاء.. نهج التفرد والهيمنة
يكرس الوثائقي الجزء الأخير من زمنه لعرض طموح “بيزوس” الفضائي وكيف أنه مولع منذ صغره بأفلام الخيال العلمي وبشكل خاص فيلم “ستارتريك”، وأنه أراد أن يعيش ذلك العالم حقيقة، وهذا هو ما يفكر به اليوم جديا.
وقد شرع بالفعل كما يكشف الوثائقي الرائع والشامل بالتوجه العملي نحو صناعة الفضاء ومحاولة امتلاك جزء مهم منها مستقبلا، وربما سيمضي خلال تنفيذها في نفس أسلوبه التجاري الذي يعتمد على استراتيجة ثابتة، وهي إبعاد المنافسة وتكريس الهيمنة والتفرد، وهذا ما تأكد منه المُحقق الوثائقي وأثبته بوقائع.