“الباعة الجائلون والاحتيال بالمقدس”.. أقرب الطرق إلى جنات النعيم والثراء

د. أمــل الجمل

“كوام” هو شاب من غانا توفيت أسرته في حادث سيارة فأصبح يعيش في كنف عمه وفي بيته، غير أن العم رجل متشدد في تدينه، إذ يُصر على تلاوة الصلوات مطولا قبل تناول الطعام، ويحث ابن أخيه على أن يعمل معه في ورشته بعد أن أتم دراسته، لكن “كوام” يُفضل أن يقوم بعمل مستقل بعيدا عن العم مهما كان أجره ضعيفا، ويكتفي بالوفاء بالالتزامات التي فرضها عليه العم، وهي أن يعود للبيت مبكرا وإلا لن  يسمح له بأن يبيت بالداخل مهما كانت الأعذار، وأن يُوصل الصبي الصغير إلى المدرسة كل صباح ويُعيده منها في نهاية اليوم، وذلك ضمن أحداث الفيلم الروائي “الباعة الجائلون والاحتيال بالمقدس” (DIVINE419 HAWKERS HUSTLE).

يعمل “كوام” كبائع متجول بشوارع أكرا في غانا، وبضاعته هى خليط من الأحزمة الرجالية والنسائية، وعندما ينتهي من البيع يترك باقي بضاعته بالكشك الخشبي الخاص بصديقه المقرب “جوش”، هناك يمرح معه قليلا وينطلقان في الضحك أحيانا، وفي إحدى المرات يتسلل “كوام” ويباغت صديقه من الخلف فيقوم بمحاولة خنقه بأحد الأحزمة بعنف شديد حتى تكاد عروقه تنفجر منها الدماء.

يُسارع عندها “جوش” بالإخبار عن مكان أمواله بداخل الكشك، متوهما أن “كوام” هو أحد المجرمين، ورغم أننا سريعا ما نُدرك أن الموقف ليس أكثر من دعابة، فإن ردة فعل “جوش” تشي بارتفاع معدل الجريمة من جراء الفقر في المدينة، كذلك ينتشر النصب والسرقة، وهو ما سيتأكد لاحقا بأشكال متباينة.

 

“هذا الفقر سوف يقتلنا”.. لعنة الحرمان من الأحلام

يستعيد الشابان ذكرياتهما أثناء سنوات الدراسة، حين كان “كوام” مشتركا بفريق التمثيل فَيُعرب عن حنينه لتلك الأيام، وأنه بالفعل يحلم بأن يمتهن التمثيل، لكنه لا يعرف الطريق ولا يعرف ما يجب أن يفعله، فيرشده “جوش” إلى مدرسة تمثيل فتحت أبوابها حديثا للطلاب في المدينة، فيسارعان بالتواصل معها، لكن “كوام” يكتشف أن مصاريفها باهظة جدا إذ تبلغ 4000 وحدة من عملة غانا (حوالي 680 دولار) في الفصل الدراسي الواحد فيصرخ قائلاً: هذا الفقر سوف يقتلنا، هذا ليس عدلا، كأنهم يقولون لنا إن أولاد الأغنياء فقط هم القادرون على التمثيل وعلى تأليف الموسيقى، أما نحن الفقراء فتبقى لنا الوظائف الدنيا والسيئة فقط.

يحاول صديقه “جوش” تهدئته ويقترح أن يذهبا سويا إلى كنيسة المعجزات من أجل الصلاة والدعاء، فينهره “كوام” قائلاً: “اخرس، أنت تعلم أنني لا أؤمن بهذه المعجزات التي لا معنى لها”، وينصرف ليواصل عمله المعتاد.

نرى خلال تجوال “كوام” شوارع المدينة المكتظة بالناس، والمفعمة بالحياة على فقرها، فنرى أشكالا من حركة البيع والشراء، وتتراءى أمامنا البضائع المادية على اختلافها وألوانها، كما نرى كذلك شابا يغني أغنية راب بجوار حافلة قديمة محطمة. تقول كلمات أغنيته: نحن الرجال لا نحتاج لأحد حتى نستند عليه، هناك وحوش يتربصون لنا في الليل، لا بد للإنسان من أن يقوم بانحناءات ودورانات أثناء حياته ليتفادى المخاطر، قد تبدو الأشياء بلا معنى، لكنني لم أختر هذه الأشياء أبدا، إنها هي التي تختارني، وأنا فقط أرى من خلالها.

البائع الكيني المتجول “كوام” يتحدث مع صديقه الذي ينصحه بالمتاجرة في أجهزة الراديو بدلا من الأحزمة

 

أجهزة الراديو.. حفلة المشروع الجديد

تتوفر التجارة الروحية بكثرة في أسواق أكرا وشوارعها، فأحد الرجال المسنين وقف يبيع الدين والأدعية، وكان يهتف في الميكروفون مشيرا إلى الإنجيل أمامه قائلا: لو كان إيمانك أيها الإنسان قويا، وكنت تُؤمن بالإنجيل، وكنت تصدق بكل ما جاء فيه سيتحقق لك كل شيء تتمناه، لو كنت تؤمن بالمسيح حقا فإن كل مكان تذهب إليه سيكون المسيح حاضرا فيه، وسيقضي لك كل أمورك، وتذكر أن هذه الأرض ليست أرضك، أنت فقط مجرد عابر سبيل فيها.

الملاحظ أن حركة البيع والشراء المادي تتراجع أمام التجارة الروحية، فالشاب “كوام” لا يجد أحدا يشتري منه حزاما واحدا أثناء مروره على تلك المنطقة إذ ينصت الناس لرجل الدين وحديثه الروحي كأنهم مأخوذون بكلامه، أو كأنهم في حالة تنويم مغناطيسي، وتشي اللقطات الفيلمية هنا بأن الاحتيال باسم الدين هو تجارة مربحة مضمونة، بينما البحث عن العمل الجاد وممارسته أصبح أمرا شاقا جدا وغير مربح.

عندما يُدرك “كوام” هذه الحقيقة يبدو التجهم والضيق واضحين على وجهه فينصرف يائسا لاعنا الكون، وأثناء ذلك يلمحه أحد أصدقائه فينادي عليه، ليدور بينهما حديث ويعرض عليه مساعدته ماديا، لكن عندما يكتشف ضخامة المبلغ المطلوب للدراسة ينصحه بضرورة البحث الجدي عن عمل مربح، وأن يتخلى عن بيع الأحزمة، ثم يقترح عليه بيع أجهزة الراديو الصغيرة فالربح فيها كبير، يقتنع “كوام” وينفق كل مدخراته منذ انتهى من دراسته في شراء عدد من أجهزة الراديو ليبدأ مشروعه الجديد، ثم يتركها بكشك صديقه “جوش”، ويحتفلان بالبداية الجديدة والربح المنتظر.

يبدو كل ما سبق وكأنه تمهيد من المخرج لطرح فكرته الرئيسة، وهي لماذا يتجه الناس للمتاجرة بالدين والمقدس؟ إذ يُدين المجتمع الذي لا يوفر عملا لائقا للناس، ثم يدين هؤلاء أنفسهم لأنهم يريدون تحقيق الأرباح وجني الأموال بشكل سريع حتى لو كان هذا من خلال بيع الوهم للفقراء والمهمشين والبسطاء.

بوستر فيلم “الباعة الجائلون والاحتيال بالمقدس” الذي يعالج استغلال الدين والكتب السماوية لتحقيق مكاسب شخصية

 

بيع المعجزات.. دخول عالم الاحتيال من أوسع أبوابه

لا ندري على وجه اليقين لماذا وافق “كوام” أن يذهب إلى الكنيسة مع صديقه للصلاة والاعتراف بالندم، هل السبب سعادته بعد شراء أجهزة الراديو والأمل الذي يملأه بمستقبل جديد، أم أنه الوفاء لوعد أخذه على نفسه أمام عمه في الليلة السابقة، إذ أصر العم على أن يبيت “كوام” خارج البيت يصلي ويستغفر بسبب تأخره وعدم قيامه بالتزاماته.

لكن المفاجأة أنه بالتوازي مع ممارسة الصديقين للصلاة والاستغفار والندم في الكنيسة كانت تجري عملية سرقة ممتلكات هذين الشابين، ففي تلك الليلة يعلم أحد اللصوص بغياب صاحب الكشك فيحطمه ويسرق كل شيء، ليجد “كوام” و”جوش” أنفسهما على قارعة الطريق وهما لا يملكان أي شيء، كذلك يطرد العم “كوام” ويرفض مساعدته ماديا خصوصا عندما يعلم أنه يُريد دراسة فن التمثيل.

حينها تولد الفكرة في ذهن “كوام” في لحظة اليأس الكبرى، فعندما يُلقي صديقه بكتاب الإنجيل في النار يلتقطه “كوام” وينظفه، ويقرر أن يبيع كلام الإنجيل للناس، وأن يمتهن التجارة الروحية فهي الأكثر ربحا، مشيرا إلى أن مشكلة غانا أنه ليس بها عدد كافي من الرُسل والمبشرين، ثم يعقد مقارنة بين الباعة الجائلين وبين المحتالين أو من يدعون أنهم رسل ومبشرون.

ففي نظره أن الباعة المتجولين يحاولون بيع أشياء مادية يتملكها الإنسان، بينما المبشرون يتاجرون في البضاعة الروحية، ثم يسأل صديقه: ألم يكن إجمالي مبيعاتك أسبوعيا 100 سيدي (عملة غانا)، بينما دفعت منهم 90 ثمنا للبضاعة، أي أن مكسبك هو فقط عشرة سيديات فقط، دعنا نعمل في بيع المجردات والأشياء الروحية، دعنا نبيع الآمال في تحقيق المعجزات.

هكذا يبدأ الصديقان في وضع مخطط لاستخدام المسيحية والمعجزات كغطاء لخداع الأشخاص الذين لا يراودهم الشك ويبحثون عن المخلص، يحفظ “كوام” آيات من الإنجيل ويُلقيها بأداء حماسي فيه ورع، بينما يرتدي زيا مناسبا يُضفي عليه مزيدا من الوقار، فيتحول إلى أحد المبشرين الجدد الحداثيين، ثم يستعين بصديقه أثناء العرض الديني الذي يقدمه، فهو بحاجة لإثبات تحقيق المعجزة، يدعي “جوش” ذات مرة أنه مصاب بكسر في ساقه، ومرة أخرى أنه كفيف، وثالثة أنه أصم، والناس تحتشد وتصدق بعد رؤية العلاج السحري، فتتساقط عليهما الأموال.

أحد الباعة الذين يروجون للخرافات والأوهام باسم الدين

 

“كان علينا أن نبدأ من التلفاز”

يظل السؤال المطروح هل ينخدع الناس بسهولة بمثل هذه الألاعيب فتساعد المحتالين في مهمتهم، هل السبب أن الناس الباحثة عن الوهم تريد أن تصدق، أم السبب أنهم يحلمون بالمعجزات وبالشفاء من الأمراض، لذلك يستسلمون بسهولة للخديعة؟ فحتى عندما يقع المحتال في مأزق إذ تطلب منه سيدة أن يشفي زوجها المقعد المشلول، فلن يكون من الصعب على “كوام” أن يعثر على ثغرة للإفلات، فقد تعلم الدهاء وأصبح يجيد الاحتيال.

لذلك أخبر “كوام” السيدة أن زوجها قد سبب في الماضي الأذى لشخص ما، ويطلب منها أن تُحضر هذا الشخص للتصالح معه ثم معالجة الزوج، فتصمت المرأة ويفلت المحتال الشاب مؤقتا، لكن سرعان ما تنكشف حقيقتهما عندما تراهما بالصدفة امرأة شابة سبق أن رأتهما في مكان آخر فتُخبر الناس بحقيقتهما، عندها تقوم الجموع بمطاردتهما إلى أن يختبئا في أحد المقاهي.

وبينما هما مختبئان في المقهى يشاهدان نقلا لاحتفال بالكنيسة على شاشة التلفاز، فيقول “كوام” لصاحبه: لقد اخترنا الطريق الخطأ، كان علينا أن نبدأ من هنا، من التلفاز، ليس صدفة أن كل مجموعة بشرية لها كنيستها، وكل مجموعة لها القنوات الخاصة بها.

المخرج جوهانس كروغ مع بطلي الفيلم فيفي نيزار وإيفان إيغان خلال إحدى ليالي “صعود أفريقيا”

 

استغلال الدين في عالم الاحتيال.. نهاية مفتوحة

يختتم المخرج جوهانس كروغ -الذي كتب قصة وسيناريو الفيلم- عمله من دون أن يؤكد خطوتهما التالية، ومن دون أن يقدم حلولا، ويكتفي بفتح عين المشاهد على مدى الاستعداد الذي وصل إليه “كوام” للتمادي في عملية الاحتيال لأجل تحقيق المال والنجاح بأي ثمن، من دون أن يفكر في العواقب والعقاب، من دون أي وازع أخلاقي، فقد أصبح كالمهووس بالفكرة التي ستكون وسيلته لجني المزيد من الأموال.

تترك ذروة الفيلم الأشياء دون حل، وقد يتساءل البعض عما ستكون عليه الخطوة التالية للشابين ومدى استعدادهما للتمادي في عملية الاحتيال إلى أقصى مدى، فمن خلال هذين الشابين، ومن خلال 35 دقيقة فقط يعمل المخرج بشكل رائع على إثارة الأفكار حول المسيحية والدين عموما.

فبدلا من أن يلعب الدين دورا إيجابيا في جعل حياتنا أفضل وحث الناس على الأخذ بالأسباب، يقوم آخرون بالترويج للخرافات والأوهام والاتكال، وذلك عبر استغلال الدين والكتب السماوية بشكل سيء لتحقيق مكاسب شخصية، إنه أحد الأعمال عن الاحتيال باسم المقدس، لكن الظريف بالفيلم أنه يعالج موضوعا حساسا بطريقة فيها سخرية وخفة ظل.


إعلان