“زيمبلا”.. محاكمة إسرائيل في القضاء الهولندي

محمد موسى

“أين يُمكن في العالم أن تحاكم الدولة الإسرائيلية على جرائمها بحق الفلسطينيين؟” يُشَّكل هذا السؤال الأساس الذي ستنطلق منه الحلقة الأخيرة من برنامج “زيمبلا” التسجيلي التلفزيوني الهولندي التي حملت عنوان “غزة: المحاكمة”.

يُتابع البرنامج جهود رجل فلسطيني اسمه إسماعيل زيادة لمحاسبة إسرائيل على قتلها لأفراد من ثلاثة أجيال من عائلته في عدوانها على مدينة غزة (2014)، وهي الجهود التي ستصل في نهاية عام 2019 إلى القضاء في هولندا، البلد الأوروبي التي يحمل إسماعيل جنسيته.

ستوجه دعوى إسماعيل القضائية التهمة لقائدين عسكرين إسرائيليين بقتل عائلته، وهما: “أمير إيشيل” و”بيني غانتس”، وقد انتقل “غانتس” إلى العمل السياسي في الأعوام الماضية، ويتشارك اليوم مع “بنيامين نتنياهو” منصب رئيس الوزراء في الدولة العبرية.

 

عدوان 2014.. مصرع ثلاثة أجيال من العائلة

يعيش إسماعيل مع زوجته الهولندية -التي تعرف عليها في غزة في عام 1997- في العاصمة العمانية مسقط حيث يعملان هناك، بيد أن حياة الرجل الفلسطيني ستنقلب رأسا على عقب في العدوان الإسرائيلي على غزة (2014)، إذ سيقتل صاروخ إسرائيلي والدة إسماعيل وثلاثة من إخوته، وزوجة وابنا لأحد الإخوة المقتولين.

تتذكر زوجة إسماعيل الهولندية الأيام التي سبقت سماعهم بالخبر الكارثة حيث تقول: كنا في عطلة في هولندا أثناء العدوان الإسرائيلي الأخير، وكان إسماعيل يتابع على طول اليوم أخبار الحرب الدائرة في غزة.

يُتابع إسماعيل تذكر تفاصيل اليوم الذي سمع فيه بمقتل ثلاثة أجيال من عائلته قائلا: كنت على اتصال عبر الإنترنت مع أخ لي يعيش في غزة، لكن ليس في بيت العائلة، وأثناء الاتصال سمعت أن ابنة أخي تلقت للتو رسالة من صديقة لها تخبرها أن منزل العائلة الكبير الذي يقع في أحد مخيمات غزة قد دمره صاروخ إسرائيلي بالكامل. يصمت إسماعيل بينما كان يلتقط أنفاسه، بينما تمكن الوجوم الشديد من وجهه.

لم يستطع إسماعيل العودة إلى غزة ليحضر جنازة أهله، ذلك أن السلطات الإسرائيلية تمنع تقريبا فلسطينيي الخارج من العودة إليها، وسينتظر الرجل الفلسطيني خمس سنوات قبل أن يرفع دعوى قضائية غير مسبوقة لمحاسبة السلطات الإسرائيلية المسؤولة عن قتل عائلته.

لم تكن الدعوى القضائية في محكمة العدل الدولية التي تتخذ من هولندا مقرا لها، بل اختار إسماعيل محكمة هولندية عادية لرفع دعواه، فهو يحمل الجنسية الهولندية، ويُمكنه أن يشتكي ضد من يشاء حسب القانون الهولندي.

إسماعيل زيادة الذي فقد ثلاثة أجيال من عائلته في العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014

 

أروقة القضاء الهولندي.. سقف باهظ الظل

تهتم الدقائق الأولى من البرنامج الوثائقي -الذي يعرض منذ سنوات طويلة على شاشة التلفزيون الهولندي الحكومي- بشرح تعقيد التوجه إلى القضاء في هولندا بقضية كالتي رفعها الرجل الفلسطيني، والتكلفة المادية الكبيرة لهذه القضايا، خاصة في هولندا التي تتميز بارتفاع تكاليف المحامين فيها.

تكشف زوجة إسماعيل أنهم فكروا كثيرا بالآثار المترتبة على هذه القضية، وبالخصوص على مستقبل العائلة وأطفالها الثلاثة، وإذا كانت العائلة غير قادرة لوحدها على تحمل هذا العبء، فستتلقى دعما ماليا غير متوقع من المغني وعضو فريق “بينك فلويد” الإنجليزي “روجر ووترز” المعروف بمؤازرته لحقوق الشعب الفلسطيني.

ينقل أحد مشاهد البرنامج التسجيلي الحوار الذي أجرته عائلة إسماعيل مع “ووترز” عبر الإنترنت، ويكشف تأثر المطرب البريطاني العميق بما حدث لإسماعيل، كما بيَّن أهمية ما يقوم به إسماعيل، والقيمة الرمزية التي ينطوي عليها تحركه، وكذلك أهميته المستقبلية في محاسبة إسرائيل على ما تقوم به من أفعال.

الغزيّ إسماعيل زيادة يُطلع مقدمة البرنامج على صور عائلته التي فقدها في غزة بسبب الحرب

 

العودة إلى غزة.. حكايات من رحم المعاناة الفلسطينية

تقفز الحلقة التسجيلية الهولندية قفزة جغرافية وزمنية، فبعد أن كان مربعها الأول يتابع مسار الجهود القضائية -التي وصلت أخيرا إلى المحكمة الهولندية وستقرر إذا كانت ستقبل القضية أم لا- انتقلت الحلقة إلى غزة التي كان البرنامج التسجيلي الهولندي العريق قد زارها في عام 2015، أي بعد عام فقط من العدوان الإسرائيلي عليها عام 2014.

تقابل مقدمة البرنامج في غزة أخا لإسماعيل، ويأخذها إلى المقبرة حيث دفنت عائلته التي قتلت في عام 2014، ويشير الشاب الفلسطيني إلى القبور من حوله قائلا: جميع هذه القبور لفلسطينيين قتلوا في عدوان 2014. ثم يُكمل وهو يقف على قبر والدته التي قتلت بالصاروخ الإسرائيلي: كنت مُدللا كثيرا عند أمي، رغم أني لم أكن أصغر العائلة أو أكبرها.

كما تقابل مُقدمة البرنامج ابنة أخي إسماعيل، وقد قتل والداها وأخوها الصغير في ضربة الصاروخ ذاته، لكنها نجت لأنها كانت في مكان آخر حينها، تتذكر الفتاة عائلتها كثيرا، وحتى عندما حصلت مع ما بقي من إخوتها على بيت جديد بني محل البيت القديم بدعم قطري، ولكن العائلة لم تشعر بفرحة حقيقية، فالحزن على الوالدين والأخ الراحل ما زال يُهمين على من بقي من أفراد العائلة، بيد أن الفتاة نفسها تشعر بالفخر أنها حققت أمنية والديها، ونجحت في الدراسة، وأصبحت مُبرمجة إلكترونية مُحترفة.

الصبي الفلسطيني منتصر بكر الذي نجا من طلقات رصاص قناص إسرائيلي حين كان يلعب مع أبناء عمه على شاطئ بحر غزة

 

منتصر بكر.. طفل أفلت من رصاص القناص

تعاود مُقدمة البرنامج مقابلة الفلسطينيين أنفسهم الذين قابلتهم في رحلتها قبل خمسة أعوام، ومنهم الصبي الفلسطيني منتصر بكر الذي نجا من طلقات رصاص قناص إسرائيلي عندما كان يلعب مع أبناء عمه على شاطئ بحر غزة، بينما قتل ثلاثة من الذين كان معهم في حادثة استأثرت حينها على اهتمام وغضب كبيرين في العالم.

يستعيد البرنامج بمشاهد أرشيفية صورها عام 2015 اللقاء الذي أجراه مع منتصر بكر بعد عام من الحادثة، وكيف كان يشرح بجمل مفككة الأثر النفسي الذي تركه مقتل أبناء عمه أمام عينيه، وها قد كبر الصبي قليلا اليوم، لكن الحيرة والتشوش ما زالا غالبين على تصرفاته، كما بدا في اللقاء الأخير الذي أجراه البرنامج قبل أشهر.

يشير والد منتصر إلى ابنه الذي يعاني من مشاكل نفسية وجسدية عديدة، ويتحدث بينما يجلس مع ابنه على شاطئ غزة ليس بعيدا كثيرا من المكان الذي وقعت فيه حادثة قتل الأطفال، إذ يقول: ما الذي يمكن أن يعمله هذا الصبي، ما الذي ينتظر هذا الصبي في هذا المجتمع حيث كل شيء مدمر، ونحن كآبائهم مدمرون أيضا.

تزور الحلقة التسجيلية عائلة فقدت والدها في عام 2014، وانتقلت إلى عائلة الجد بعد تدمير منزلهم، ويستعيد البرنامج مشاهد أرشيفية من عام 2015 عندما تعرف البرنامج عليهم للمرة الأولى، كانت العائلة في تلك المشاهد الأرشيفية ما زالت في وسط الحزن على الوالد الذي رحل، وتحاول أن تتأقلم مع حياتها الجديدة في منزل الجد الذي تعيش فيه، يروي الجد كيف أن حفيده الطفل وابن ابنه المقتول سأله إذا كان يُمكن أن يناديه بأبي؟ يجيب الجد باختصار بينما كان يحاول أن يغالب دموعه: نعم يمكن ذلك.

مشهد لسماء مدينة غزة يتصاعد منها الدخان أثناء العدوان الاسرائيلي عليها عام 2014

 

المحامي العسكري العام.. قطع الطريق أمام المحاسبة

يحقق البرنامج الهولندي من غزة عن الإمكانات المتاحة لمحاسبة السلطات الإسرائيلية العسكرية أو الأمنية عن جرائمهما بحق الفلسطينيين، ويقابل البرنامج في هذا الخصوص عاملين في منظمة الميزان لحقوق الإنسان الفلسطينية في غزة، وبمنظمة “بتسليم” الإسرائيلية التي تعنى بحقوق الإنسان في المناطق الفلسطينية المحتلة، لكن محاولات البرنامج الحديث مع جهات إسرائيلية رسمية قد باءت بالفشل، إذ رفضت التعاون مع البرنامج دون شرح الأسباب.

أجمع الذين تحدثوا للبرنامج أن إسرائيل عقدت تماما أي محاولات فلسطينية لمحاسبة الدولة الإسرائيلية في إسرائيل، فإسرائيل تنظر إلى سكان غزة كأعداء، وهذا ما قطع الطريق أمام فلسطينيي غزة للتوجه إلى القضاء في إسرائيل، حتى أن الدائرة العسكرية الإسرائيلية التي تعرف بـ”المحامي العسكري العام” -وهي الوحيدة التي يُمكن أن تكون الواسطة نظريا لأي محاكمات عسكرية- تُغلق منذ سنوات الباب فعليا أمام أي محاولات فلسطينية لأخذ قادة أو جنود إسرائيليين إلى القضاء.

صور لوالدة إسماعيل وثلاثة من إخوته الذين فقدهم خلال العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014

 

عذر أقبح من ذنب.. هشاشة الرواية الإسرائيلية

يكشف البرنامج هشاشة الرواية الإسرائيلية الرسمية التقليدية التي تقول إنها تضرب فقط الفلسطينيين المسلحين والمنتمين لأحد الأحزاب الإسلامية مثل حماس وغيرها، فهناك عشرات الحوادث لمقتل أطفال ونساء ليس لهم علاقة بالحركات المسلحة.

كما أن الرواية العسكرية ذاتها تنطوي على تناقض، فهي من جهة تشيد بقدرة أجهزتها العسكرية على إصابة أهدافها بدقة، ومن الجهة الأخرى يذهب في كل عدوان جديد مئات الضحايا الأبرياء.

وعندما عثرت مقدمة البرنامج على وثيقة إسرائيلية رسمية تقول إن قصف عائلة زيادة جرى لأن أحد أفرادها ينتمي رسميا لحركة حماس، لم ينف إسماعيل من مكانه في هولندا هذه الرواية، فالكل يعرف علاقة أحد إخوته بحماس، لكن هذا لا يبرر قتل الأبرياء في العائلة، مثل الأم ذات الـ73 عاما، والطفل الصغير الذي قتل مع والديه.

شعار البرنامج التلفزيوني التسجيلي الهولندي “زيمبلا”، والذي يُقاضي في حلقته إسرائيل

 

قضية عصية على التبني.. قرار المحكمة الحاسم

عندما يعود البرنامج الهولندي إلى مدينة لاهاي يجد إسماعيل ينتظر بترقب تفاصيل إعلان المحكمة الهولندية الذي سيكون مُقتضبا وحاسما، إذ أعلنت القاضية إنه من غير الممكن لهذه المحكمة تولي قضية من هذا النوع، لأنها لا تملك الأدوات القانونية اللازمة.

وهكذا انتهى جهد وتعب إسماعيل وفريقه الدفاعي، بيد أن الفلسطيني لم يشأ أن ينهي حديثه للبرنامج بنغمة يائسة، إذ وعد أن يواصل جهوده لمحاكمة قاتلي أهله، وأن ينتظر ويبحث عن أي فرصة لكي يعاود نشاطه السلمي القانوني بأخذ الجهة التي تقف وراء إطلاق الصاروخ في عام 2014، فأنهت حياة وأحلام ثلاثة أجيال من الفلسطينيين كانوا يعيشون في بيت واحد في غزة.