“ملك الرحلات البحرية”.. وِحدة فخمة على أجمل سفن العالم
محمد موسى
“عندما يشيخ الإنسان يصبح غير مرئي، إذ يتلاشى ولا يكون محل اهتمام من أحد، أما أنا فلن أدع هذا يحدث لي، فأنا بارون أسكتلندي وعندي الكثير مما يجعلني مُثيرا بأعين الناس”. هكذا تحدث “رونالد بوش رايزنجر” في فيلم “ملك الرحلات البحرية” (King of the Cruise) الذي أخرجته الهولندية “صوفي دروس” وعُرض في مجموعة من المهرجانات السينمائية الدولية ووصل للعرض التجاري في هولندا أخيرا.
لم تكن لهجة رايزنجر الأمريكية تشير إلى أصله الأسكتلندي وعائلته العريقة، بيد أن قصة هذه اللهجة وغيرها من أسرار الرجل سيتكشف تدريجيا عبر زمن هذا الفيلم التسجيلي الغريب الذي صُوّر بالكامل على واحدة من السفن السياحية الخاصة بالأغنياء.
تعثرت المخرجة بشخصية فيلمها أثناء بحثها في عوالم الرحلات السياحية البحرية، إذ أثارها ما كُتب في منشور دعائي لشركة تنظم هذه الرحلات؛ عن ما يُمكن أن يصادفه المسافر من شخصيات مثيرة على البواخر الفخمة التي يركبها أمثال بارون من الأسر العريقة.
لم يكن اسم رايزنجر مكتوبا في المنشور، إلا أن المخرجة نجحت في الوصول إلى الشخص الذي كتب المنشور السياحي ذاك، وبعدها قابلت البارون نفسه عندها عرفت في قرارة نفسها –وكما صرحت في مقابلة للإعلام الهولندي– أنه أصبح لديها الموضوع المناسب لعمل فيلم تسجيلي.
قضت المخرجة أسبوعين مع رايزنجر (وهو الزمن الذي تأخذه الرحلة البحرية) ليبدأ الفيلم بالشخصية الرئيسية وهو يَجرّ جسمه الثقيل عبر الممرات الطويلة للوصول إلى السفينة، وينتهي به وهو يُغادر مع حقيبته الباخرة الفخمة.
“أنا بارون من أسكتلندا”.. يوميات الباخرة الفاخرة
يقضي رايزنجر الكثير من وقته في هذه الأسفار السياحية، فهي توفر له رفقة يفتقدها ورفاهية تعودها في حياته، فهذه السفن المزودة بجيش صغير من العاملين تعرف بالضبط احتياجات زبائنها من الأثرياء وبالخصوص المسنين، وتوفره لهم في الوقت الذي يمنح السفر بالبواخر عزلة مُحببة بعيدا عن متاعب العالم الحالي ومشاكله.
تقترب الكاميرا ببطء من عالم رايزنجر وحياته اليومية على الباخرة، فيبدأ الفيلم بمشاهد بعيدة تراقب عن بُعد يومياته، ومنها جلوسه لساعات على ظهر السفينة، بعدها تقترب أكثر لتصور تقاطعاته اليومية مع ركاب آخرين وتنقل محادثاتهم، في حين كانت الحوارات المصورة في غرفة نوم الشخصية حميمة وكاشفة نعرف من خلالها الكثير عن ماضيه ومحطاته المؤلمة التي تحدد مسارات حياته اليوم.
يباغت رايزنجر امرأة كانت تجلس على طاولته في المطعم الفاخر:”هل ستسألين من أكون؟” لم تكن لهجته متوسلة أو يائسة بل تقترب من الحدة والأمر، ترد المرأة الروسية الأصل بارتباك قليل: “طبعا، طبعا، من أنت؟” يجيبها وقد نجح في جذب اهتمامها أخيرا: “أنا بارون من أسكتلندا، عندي قصر كبير هناك”.
تكرر المشهد السابق في مناسبات عديدة في الفيلم أحيانا مع طاقم السفينة نفسه، وينزعج “رايزنجر” إذا لم يفهم شريكه في المحادثة ماذا يعني “بارون”، فعندما لم تجب إحدى العاملات في السفينة سريعا عن سؤاله عن ما يعنيه لقب البارون بدا الانزعاج واضحا عليه، إذ تحول هذا اللقب إلى الهوية الأهم له، وبدونه سيتلاشى وسط مئات الناس العاديين في السفينة التي كانت تحملهم في رحلتهم السياحية.
“سوف أتركك”.. كومة ذكريات مؤلمة
يمرّ الوقت بطيئا على الباخرة، وينقسم بالعادة بين والمطاعم والمسابح العديدة، ويصور الفيلم “رايزنجر” في كوادر سينمائية ثابتة تقترب من الضجر ويطبعها مرور الوقت البطيء، وخاصة تلك التي تلتقطه وحيدا في القاعات أو المداخل مثل مشهد جلوسه في قاعة كبيرة بينما كان أحد عمال النظافة يكنس بمكنسة كهربائية أرض القاعة، ويلبس الزي الأسكتلندي التقليدي حينا وأحيانا أخرى يلبس ما كان يرتديه نبلاء القرن الثامن عشر، ليزيد هذا من غرابة حضوره على الباخرة.
تسير يوميات الرجل دون تغييرات كبيرة عن رحلات سابقة له باستثناء الأزمة الصحية التي مرَّ بها، واستدعت نقله إلى غرفة العناية الصحية في الباخرة، عدا أيضا البوح الخاص به، ويحدث في وقت متأخر في زمن الرحلة البحرية بعد أن تقربت المخرجة من شخصيتها إلى الحد الذي مهد لاستعادة ذكريات قديمة جميعها مؤلم، وقد أثر لحدود كبيرة على حياة الثري البريطاني.
وُلد “رايزنجر” في الولايات المتحدة التي لجأت إليها عائلته الأسكتلندية النبيلة هربا من نيران الحرب العالمية الثانية، وفي وقت ما تركت أمه العائلة، وهذا ما ترك ندبا غائرا في روح الطفل، وطبع علاقاته مع النساء في حياته وبالعالم، لا يعرف “رايزنجر” الأسباب التي جعلت والدته تترك عائلتها وابنها الرضيع وقتها، كما لا يعرف أسباب ترك زوجته له في زمن لاحق، حيث يكشف بنبرة حزن كبيرة ما قالته له قبل يوم من حزم حقائبها: “سوف أتركك”.
“لماذا تتزوج واحدا على شاكلتي؟”.. صفعة تجاهل الآخر
تبدو خيبة “رايزنجر” من البشر واضحة كثيرا حتى في تعاملاته مع ركاب الرحلة السياحية إذ إنه يرغب بإعجابهم، لكنه لا يعبأ كثيرا بمعرفتهم، ولا يستثمر في صداقات جديدة، وحتى أنه ينظر إلى زواجه الثاني بارتياب.
يعترف للمخرجة غير عابئ بتمجيد الأنا الذاتية: قال لي أصدقائي إن زوجتي الشابة تزوجتني من أجل مالي، طبعا هي امرأة ليست غبية، لماذا تتزوج واحدا على شاكلتي إذا لم يكن من أجل المال.
لا يضع البارون الأسكتلندي قناعا على وجهه ولا يكترث بالصوابية الاجتماعية السائدة، فقد وصل إلى سن وخبرات تجعله لا يُعير الآخرين اهتماما كبيرا، يتحدث للكاميرا قائلا: “ولدت غنيا وفي فمي ملعقة ذهبية، وقد عشت حياتي كلها غنيا”، بيد أن ما يجرحه تجاهل الآخرين له كما حدث عندما غادر الطاولة أحد الغرباء الذين قابلهم على الباخرة أثناء سرده لإحدى القصص العديدة عن ثراه.
بارون على حلبة القصة.. غياب ميزان التحقق في الفيلم
غاب التعليق الصوتي بالكامل عن الفيلم، كما لم تشأ المخرجة التحقيق في صحة القصص التي كانت ترويها الشخصية الرئيسية عبر زمن الرحلة، فلم ترغب المخرجة أن تستقصي في تاريخ الرجل الطويل الحافل أو أن تسأله سؤالا واحدا، إلا أن أحد ركاب الرحلة قام بالبحث في الإنترنت عن أصول للقصص العديدة التي كان “رايزنجر” يرويها ليكتشف أن الكثير منها محض خيال.
واجه هذا الرجل “رايزنجر” بما وصل إليه، بيد أن هذا لم يهز البارون ولم يدفعه إلى الدفاع عن نفسه، ورد بلهجة غير مبالية بأن هذا هراء، فهو يعرف أنه بارون، وأنه يملك قصرا لا يعرف عدد غرف نومه لكثرتها، وهو أيضا ملك مملكة أفريقية صغيرة وأمواله لا عد لها.
اهتمت المخرجة بحال شخصية الفيلم ووحدتها وانعكاس هذه الوحدة على تفاصيل حياته اليومية، فبدت مفتونة بعلاقة “رايزنجر” بمحيط الباخرة الفاخرة، حيث تحولت الباخرة بكل مباهجها وثرائها إلى استعارة فاقعة عن الوحدة، ولعل أكثر لحظات الفيلم خصوصية تلك التي تُظهر “رايزنجر” يواجه بجسمه الثقيل كثيرا تبعات السن المتقدم، مثل مشاهده العادية وهو يتحرك في غرفة نومه الفاخرة، أو فشله في القيام من كرسيه الذي كان يجلس عليه في إحدى قاعات الباخرة.
لا تتخلى المخرجة عن هدفها الأول وهو عوالم الرحلات السياحية البحرية الغالية كثيرا فتوليه بعضا من الاهتمام، فهناك مشاهد عديدة تراقب بدون أحكام مسبقة هذا العالم الذي يبدو للبعض غريبا، إذ يجبر الوجود في مكان محدود المساحة الركاب على التعايش معا لأسابيع حيث ينشغلون بالترفيه غير المنقطع الذي توفره لهم الباخرة.
إغواء الكاميرا.. حدود العلاقة بين المخرج وشخصياته
تصور المخرجة الباخرة من الجو عبر طائرات الدرون، كما يحفل الفيلم بالكثير من المشاهد المبتكرة والجميلة للحياة اليومية في الباخرة مثل الحياة الليلية فيها، حيث كان الركاب ومعظمهم قد تجاوز منتصف العمر مشغولين بالرقص ومستمتعين على ما يبدو بخلو المكان من فئة الشباب ومن نظرات الانتقاد أو الاستهزاء التي قد تصدر من هؤلاء نحوهم.
يُعيد هذا الفيلم التسجيلي طرح إشكالية العلاقة بين المخرجين وشخصياتهم الرئيسية والإغواء الذي يحصل أحيانا عندما تضع الكاميرا أمام أي شخصية، فمن أغوى من في فيلم “ملك الرحلات البحرية”، هل المخرجة الهولندية وقعت في حبال “رايزنجر”، ونجح أن يضيفها إلى جموع المستمعين له فيصل عبر فيلمها إلى جمهور أوسع؟
أم إن المخرجة استغلت وحدة الرجل وضعفه وهشاشته رغم ما يبدو عليه من صلابة وجعلته يبوح بتفاصيل ربما كان يجب أن لا تُقال أو تصل إلى جمهور واسع؟ ولعل الإشكالية الأخيرة هي أكثر ما يؤرق الكثير من المخرجين التسجيلين، فمتى يجب على المخرج أن يحمي شخصياته من نفسها، ويعرف حدود الناس الذين يتعامل معهم ولا يتجاوزها حفاظا على خصوصياتهم بالدرجة الأساس؟