“جريمة على القارب”.. رحلة أخيرة لعاشقة البحر الذي قتلها

في سلسلة “جرائم منسية” التي بثتها قناة الجزيرة الفضائية، نفتح اليوم قصة جريمة غريبة الأطوار حدثت في مدينة صغيرة في “ماساتشوستس” بالولايات المتحدة، وقد استعانت الشرطة فيها بأمر لا يخطر على بال، من أجل محاولة تفكيك رموزها وحل ألغازها.

كان تتبع خيوط الجريمة وتقصي حلقاتها المتصلة يكشف عن كثير من الأسرار التي كذب أصحابها بشأنها وأنكروها في محاولة لحماية سمعتهم أو الإفلات من التلبس بالجرم، لكن رائحة الحقيقة كانت تقود أنوف المحققين إلى حيث يجب أن يكونوا.

ندع للقارئ الكريم الاستمتاع بالقصة، كما يمكنه مشاهدة الفيلم تحت عنوان “جريمة على القارب”.

عشق البحر.. ومن الحب ما قتل

انتقلت “مارثا بريلسفورد” ذات الـ37 ربيعا، إلى مدينة سيلم في ولاية “ماساتشوستس” في نهاية الثمانينات، وهي تنحدر من سلالة “روجر كوننت” الذي أسس مدينة سيلم، وقد أحبت المنطقة لأنها كانت تريد أن تكون قريبة من البحر، لقد كانت تشعر بالبحر في أعماق روحها، وعندما التقت بزوجها -الذي كان يحب البحر أيضا- حصل انسجام تام بينهما.

 

أما “براين بريلسفورد”، زوج “مارثا”، فهو قبطان عَبَّارة في بوستن، وكثيرا ما كان عمله يتطلب منه أن يكون في البحر لفترات طويلة، بعيدا عن زوجته التي ارتبط بها منذ تسع سنوات، لكن في هذه الليلة كانت “مارثا” هي من تأخرت عن العودة إلى البيت، وقد حاول “براين” الاتصال بالمستشفى، لكنهم أخبروه أن لم يدخل أحد بمواصفات زوجته تلك الليلة، ثم اتصل بشقيقتها التوأم “ميريل”، فأخبرته أنها تواصلت معها في الصباح، وقالت إنها متوجهة للتنزه في جزيرة “وينتر”.

قالت “ميريل”: إنه مسارها اليومي المعتاد، سأحضر حالا.

ولكن “براين” حاول التهوين من الأمر، وقال لها: لا تخافي “مارثا” قوية، أنا سأتدبر الأمر.

في تمام الواحدة بعد منتصف الليل بدأ “براين” يتتبع أثر زوجته “مارثا” في المتنزه البحري، وأثناء سيره سمع صوت همهمات وضحكات قريبة، فحاول تتبُّع الصوت، وفجأة ظهر له خيالان تبين له فيما بعد أنهما مراهقان يتنزهان، ثم استمر في بحثه حتى الصباح، وسلك كل الطرق في المتنزه وعلى الشاطئ التي يمكن أن تسلكها زوجته أثناء نزهتها.

مرفأ القوارب.. مصيدة عاشق النساء الوسيم

في تمام الثامنة صباحا توجه “براين” إلى مركز الشرطة، وهناك هوَنوا عليه الأمر، وأخبروه بأن الوقت ما زال مبكرا للتبليغ عن جريمة أو ما شابه، فربما كانت غاضبة من شيء ما، ولكن بعد يومين من اختفائها أصر “براين” أن يتقدم ببلاغ رسمي للشرطة عن فقدان زوجته.

الشاب الوسيم “توم” يستدرج النساء على قاربه الجميل، لكن خطته لم تنجح مع “مارثا”

تولى الملازم “كونراد بروزنلوفسكي” ملف اختفاء “مارثا”، وطلب من “براين” أن يتحدث معه على انفراد، وكانت غايته أن يسأل عن طبيعة العلاقة التي تربطه بزوجته “مارثا”، وعن ما إذا كانت أمورهما المالية مستقرة، أو ما إذا كان لدى أي منهما صديق حميم، وقد كانت إجابات “براين” طبيعية ولا تشي بأي سوء في العلاقة بينهما.

هنا تطوعت جارتها “ماغي” وقالت للمحقق: أريد أن أتحدث إليك على انفراد، أنا أعرف أين ذهبت “مارثا”، لقد تحدثت إلي هذا الصباح، ثم ذهبت برفقة صديق لها يدعى “توم” في رحلة إبحار طوال اليوم، لم أرغب بقول هذا أمام “براين”.

على مرفأ القوارب كانت “مارثا” تقف إلى جانب شاب وسيم، ودار بينهما الحوار التالي:

–         هيا، استعدي للصعود.

–         أوه، إنه جميل، كم حجمه؟ 32 قدماً؟

–         لا بل 36، ويتمتع بخط مستوى جيد وعارضة طويلة، وغرفة تحت السطح، بها سرير ملكي مزدوج.

–         جميل للغاية.

إذا كانت “مارثا” قد ذهبت برفقة هذا الشاب “توم”، فما مدى صداقتهما؟ وما اسم عائلة هذا الشاب؟ هذا ما دعا المحقق “كونراد” لتتبع هذا الخط عسى أن يرشده إلى شيء، ولاحقا عرف أن هذا الشاب يدعى “توم مايموني”.

يقول مراقب مرفإ القوارب الذي يستخدمه “توم” لإرساء قاربه: جاء “توم” إلى هذه البلدة حديثا، وغالبا ما يُرى وحيدا، فقد توفيت زوجته بالسرطان منذ مدة قريبة، وقد كان حزينا جدا عليها، وهو رجل صالح وعالِم أيضا، ويبدو أنه كان يعمل في ناسا.

ساحرة المدينة.. خزعبلات في خدمة العدالة

بعد شهادة مراقب المرفأ توجه المحقق “كونراد” إلى “توم” فوجده قريبا من قاربه، وبادره بالسؤال عن “مارثا”، فأجابه “توم”: “نعم أعرفها، إنها صديقة جيدة، غالبا ما نلتقي في المتنزه ونحن نتمشى مع كلبينا، لقد رأيتها الأسبوع الفائت، أعتقد أنه كان يوم ثلاثاء”، وهنا سأله المحقق إن كان رآها خلال اليومين الفائتين، أو اصطحبها في رحلة بالقارب، فتغير لون “توم” وبدا عليه الاستغراب وقال: في القارب؟ رحلة؟ لا لم يحدث هذا، ولم أرها.

في المجتمعات الريفية يؤمن الكثيرون بالمشعوذات وقدرتهن على كشف بعض الألغاز

بدا توم شابا جذابا، ولا شك أن النساء مفتونات به، ويبدو أن بينه وبين “مارثا” شيئا ما لا يريدان الإفصاح عنه، أو على الأقل لا يريد هو الإفصاح عنه.

مضى أكثر من خمسة أيام على فقدان “مارثا”، وبدأ أهل مدينة سيلم بالقلق الجاد عليها، فهي سيدة محبوبة في هذه المنطقة، وهي كذك لطيفة وودودة، ومع مرور الوقت أصبح الجميع مهتما بالبحث عن “مارثا”، من الشرطة وخفر السواحل وأصحاب القوارب والأهالي جميعا.

ومع مرور الوقت اضطرت الشرطه لطرق باب غير اعتيادي من أجل العثور على “مارثا”، فتوجه المحققون إلى ساحرة مدينة سيلم ليسألوها إن كان بإمكانها الكشف عن مكان وجود “مارثا”، وعن ما إذا كانت قدراتها الروحية يمكن أن تضيق مساحة البحث. نحن يمكننا أن نجد السحر والساحرات في القصص فقط، ولكنها تعد شيئا واقعا في سيلم بولاية ماساتشوستس.

ألمحت الساحرة “لوري” من خلال تمتماتها، وطقوسها الغريبة، أن “مارثا” موجودة في مكان ما تحت الماء، وأنه (هو) من فعل بها هذا، ولكن من (هو) الذي تتحدث عنه الساحرة؟

حديث إلى الزوجة الميتة.. بداية خيوط الجريمة

توجه المحقق “كونراد” إلى منزل “توم” ليعيد عليه السؤال عن ما إذا كان قد التقى “مارثا” على قاربه، وعندما طرق الباب فوجئ بسيدة تفتح له، فسألها عن هويتها، فأجابت بأنها زوجة “توم”، وهو الأمر الذي أحدث صدمة قوية للمحقق “كونراد”، وقد يغير مجرى القضية كليا.

المحقق “كونراد” الذي أصر على كشف خيوط الجريمة يحقق مع المتهم “توم”

كان “توم” حينها يعمل في حديقته، وعندما رأى المحقق أصابه الارتباك، حتى أن زوجته رأت ذلك في وجهه، وقد طلب منها بكلمات لطيفة أن تعود إلى داخل المنزل، وبدأ يتمشى مع المحقق في الحديقة وهو يحاوره قائلا:

–         أعتقد أن حالة زوجتك أفضل بكثير من أن تكون ميتة.

–         أرجو المعذرة أيها المحقق، لم يكن الظرف يحتمل أن أخبرك الحقيقة.

–         ماذا كانت “مارثا” تفعل معك على القارب؟

–         المعذرة ثانية أيها المحقق، ما كنت لأستطيع القول إن امرأة متزوجة كانت معي على ظهر القارب، كانت زوجتي ستجنّ.

–         إذن ذهبتما في رحلة بحرية؟ كم استمرت؟ وأين تركتَ “مارثا”؟

–         هذا صحيح أيها المحقق، كانت الرحلة بحدود الساعتين، رجعنا بعدها إلى جزيرة “وينتر”، وتركتها هناك، قالت أنها ستتمشى.

–         إذن هذه روايتك؟

–         روايتي؟! إنها الحقيقة أيها المحقق.

جزيرة “وينتر” منطقة جميلة يرتادها الناس بشكل يومي، وهي متصلة بالبلدة عن طريق ممر ضيق، ولو كانت “مارثا” نزلت هناك لكان من السهل عليها العودة إلى البيت مشيا، إذن فهناك شيء غير منطقي في كلام “توم”.

“لا جثة، إذن لا جريمة”.. اعترافات الضحايا

مع انتشار الخبر، ووصوله إلى الصحافة ووسائل الإعلام، بدأت خيوط جديدة تتكشف في مسار القضية، لقد اتصل عدد من النساء بمركز الشرطة، وقلن إنهن رافقن “توم” على ظهر ذلك القارب.

“روزماري” هي واحدة من أولئك النسوة، وقد طلبت مقابلة المحقق في سيارتها، وقالت له إن البلدة صغيرة والناس يحبون الكلام. بادرها المحقق بالسؤال عن رحلات القارب، فأخبرته أنها ذهبت برفقة “توم” في رحلتين بحريتين، الأولى كانت مليئة بالمرح والمتعة، “قضينا وقتا رائعا”.

“روزماري” واحدة من اللاتي خضن مع “توم” تجربة البحر، اعترفت بتصرفاته الغريبة على القارب

أما الثانية فكانت بمثابة كابوس، فقد تحول ذلك الشاب اللطيف الفاتن في لحظة إلى وحش مفترس، حتى ظننت أنه سيقتلني، ولو كنت أظن أنني سأنجو لقفزت من القارب وسبحت، ثم فجأة رأيته يغير دفة القارب ويعود أدراجه إلى الشاطئ وأنزلني هناك، وعاد في لحظة إلى “توم” اللطيف الفاتن.

سألها المحقق إن كانت تقدمت بشكوى أو أخبرت أحدا، فأجابت بالنفي، وقالت أريد فقط أن أنسى كل ما حصل، ولكنني عندما سمعت عما حصل لـ”مارثا” قررت أن أقول شيئا، فلعله أعادها أو أنزلها في مكان ما. ولكن أين هي الآن؟ ألف سؤال وسؤال يدور في أذهان المحققين، ولكن كما يقولون: لا جثة، إذن لا جريمة، كما أنهم لا يستطيعون اتهام توم بأي تهمة مع أنهم يعرفون أنه يكذب، وزاد لديهم احتمال أن لا تعود “مارثا” أبدا.

ساق في الأعماق.. سفاح وسيم في قبضة العدالة

تحولت الأمور فجأة عندما استدعيت الشرطة إلى مرفأ “ماربيل هيد”، على بعد عشر دقائق من مدينة سيلم، فالتقوا هناك مع صياد يدعى “هوبر”، حيث أخبرهم أنه بينما كان يرفع شباك مع مساعده وجدوا ساقا بشرية معلقة بالشباك، ثم تبين لهم لاحقا أنه جسد بشري مكتمل.

هكذا انتهى البحث عن “مارثا” بمأساة حقيقية، ولدى الكشف على ما تبقى من الجثة، وعن طريق الاستعانة بطبيب أسنان “مارثا”، تبين أن هذه الجثة جثتها، وأنها تحمل دليلا قويا لإدانة “توم”، فقد كانت الجثة مربوطة بمرساة وبثقل كبير، في إشارة إلى أن الجاني أراد أن تبقى الجثة في الأعماق.

بدلا من صيد وفير في الشبكة، تعلقت جثة “مارثا” بشبكة الصياد “هوبر” ليبدأ لغز مقتلها بالتفكك

على الفور توجهت قوة من الشرطة إلى منزل “توم”، ولكنها وجدت زوجته “باتريشيا” فقط، إذ يبدو أنه سمع بطريقة أو بأخرى عن عثورهم على الجثة فهرب، وقد تحدث المحقق “كونراد” مع زوجة المتهم وحذرها من التستر على مكان “توم”، وأنها لا تزال في مأمن ما دامت متعاونة مع الشرطة وتزودهم بما تعلمه عن تحركاته.

بعد أن اطمأنت “باتريشيا” قليلا، أخذت تتحدث إلى المحقق عن الكثير من الأمور، إذ يبدو أن “توم” كان يكذب عليها في أشياء كثيرة عن تركه لعمله، وعن علاقاته بنساء كثيرات، وعن التحاقة بالخدمة العسكرية، وكذلك عن الشهادات المزيفة الكثيرة التي يقتنيها، ومنها شهادة الدكتوراه، حتى أنه كان قد تزوج أربع مرات قبلها.

بعد يومين من العثور على جثة “مارثا” تلقت الشرطة اتصالا من شرطة ولاية ماين، فقد عثروا على “توم” نائما في سيارته بالقرب من كوخ مهجور، وقبضوا عليه بتهمة محاولة السطو، وبعد الكشف عن اسمه في الحاسوب، تبين أنه مطلوب بجريمة قتل في ولاية “ماساتشوستس”، ثم جرى تسليمه إليها.

عاصفة قوية في بحر هادئ.. جزاء السجن المؤبد

اتهم “توم” رسميا بقتل “مارثا”، وبدأت محاكمته في فبراير/شباط من عام 1993، ومِن على منصة الشهود أخبر “توم” المحلفين عن هبوب عاصفة قوية أسقطت “مارثا” من على ظهر القارب ثم غرقت، رغم أن تقارير اللأرصاد الجوية أثبتت أن الجو كان معتدلا والبحر هادئاً في ذلك اليوم، وأنه ببراعته كبحار أعاد الجثة إلى المركب وحاول إنعاشها.

أثناء تمدده في سيارته خارج المدينة، ألفت الشرطة القبض على القاتل “توم” واكتشفت بأن له سجل سوابق

لكن الادعاء رسم صورة مغايرة تماما لما قاله “توم”، فهذا الرجل يحتال بدهائه ووسامته على النساء، ويأخذهن في القارب، وأثناء الرحلة يدفعهن إلى مكان ضيق في القارب، بحيث يتمكن منهن ويستغلهن، ثم يعيدهن إلى الشاطئ، أما “مارثا” فيبدو أنها تصدت له ومنعته من النيل منها، وعندما أعاد التفكير في المسألة وتخيَّل الفضيحة التي سيواجهها عند عودته إلى سيلم، قرر أن يتخلص من “مارثا”، فربطها بمرساة وثقل معدني وألقى بها في البحر.

يقول المحقق “كونراد”: صدر الحكم على “توم” بالسجن المؤبد، وخلال مسيرتي المهنية البالغة 36 عاما مع الشرطة، لا يزال توم يتصدر لائحة المختلّين سلوكيا، وقد قابلت الكثير منهم، لقد كذب بخصوص كل شيء، كل شيء.

تضخم (الأنا).. سمعة أغلى من الأرواح

لقد تضخمت (الأنا) عند “توم” حين ارتكابه للجريمة، بحيث أنه لم يعد يشعر بما يفعل، بل كان كل همه أن لا تخدش سمعته أمام زوجته وأمام المجتمع، فقد كان كل من في المدينة ينظر إليه على أنه رجل متميز في علمه وعمله وناجح في حياته الزوجية، وهو يريد أن يبقى على هذه الصورة أمام الناس، حتى أعماه شعوره بالأنانية عن التفكير بأرواح الآخرين وحياتهم.

مارثا” كانت ضحية عشقها للبحر ورفضها أن تقع فريسة لمجرم يعشق اللهو مع النساء

سبّب “توم” جراحا لكثير من الناس بسبب كذبه وسلوكه المنحرف، وأفسد على الكثير من النساء حياتهن وعائلاتهن، وفي النهاية سلب من “مارثا” روحها وحياتها التي هي أغلى ما تملك، وحرم عائلتها وأهل بلدتها ابتسامتها الودودة ومساهمتها في إسعاد الآخرين، من فعل كل هذا يستحق أكثر من السجن المؤبد، ويستحق أن يعاني ويتألم بقدر ما سبّب لغيره من الألم والمعاناة.


إعلان