التعذيب في السينما المصرية.. صرخة فنية أفلتت من سوط الرقيب

أحمد القاسمي
كثيرا ما كانت السينما عينا تنوب عنا لتدخل الغرف المظلمة وتخترق الحصون المنيعة، فتسعفنا بالصور المدهشة التي لا نطالها، لذلك مثلت الحروب العنيفة والمطاردات الخطيرة موضوعاتها الأثيرة، ولكن هل أشد من معتقلات عالمنا العربي ظلاما ومناعة، وهل أشد من التعذيب فيها خطرا وإثارة؟
فعلى أديمه يتقاطع الفن بالسياسة والمال، وفيه تتساكن رغبتنا الفطرية في التلصص على كل مخفيّ من مواقفنا الواعية الناقدة للواقع، ومن هنا مثلّ مبعثا للإدهاش وفكرة محفزة للمبدعين وجاذبة للجمهور العربي خاصّة، فقد كان مقصدا أثيرا لسينما “سنوات الرصاص” في المغرب، واستند إليه التونسي النوري بوزيد في رائعته “صفائح ذهب” ومحمود الجمني في الوثائقي “الحنظل”.
ولكن تبقى المدونة المصرية الأكبر والأهم بالنظر إلى تاريخ هذه السينما وتاريخ التعذيب هناك أيضا، فتسعفنا المكتبة المصرية بعدد من الأفلام مثل فيلم “زائر الفجر” في نسخته الأصلية وفيلم “إحنا بتوع الأتوبيس” وفيلم “البريء” وفيلم “عمارة يعقوبيان” وفيلم “هي فوضى”، ولأن هذه القضية ترتبط بشكل قوي بالسياسة وتقلباتها آثرنا أن ندرسها في السينما المصرية على فترتين، فتكون ثورة 25 يناير/كانون الثاني حدا فاصلا بينهما، ولضخامة المدونة وضيق المساحة آثرنا أن ننتقي فيلمين من كل فترة.
“كرنك”.. جريمة إبداء الرأي
يمكننا أن نعتبر فيلمي “الكرنك” (1975) و”وراء الشمس” (1978) عينة ممثلة لعامة هذه المرحلة، فقد انطلق علي بدر خان من رائعة نجيب محفوظ ليجعل المقهى الشعبي”الكرنك” ملتقى للطلبة المتحمسين للثورة المصرية، ففيها كان حلمي حمادة وإسماعيل الشيخ وزينب ذياب يجتمعون ببعض المثقفين لتبادل الأحلام بالغد المشرق، ولإبداء الرأي في قضايا الراهن.
ولكن إبداء الرأي عند الأجهزة الأمنية جريمة تستوجب الاعتقال بتهمة الانتماء إلى الإخوان حينا وإلى الشيوعيين حينا آخر، وفي المعتقل يتعرّضون إلى صنوف من التعذيب لإجبارهم على الاعتراف بجرائم لم يرتكبوها، وتُنتدب زينب المغتصبة المُهانة لتكون عين أجهزة الأمن على زملائها فتكتب التقارير عن أنشطتهم، ولا يزيدها الشعور بالذنب -بعد أن تتسبب وشايتها في مقتل حلمي- إلا رغبة في تدمير الذّات.
أما في فيلم “وراء الشمس” الذي أخرجه محمد راضي فيعمل أحد قادة الجيش على إجراء تحقيق لتبين سبب نكسة 1967، ولإصراره هذا يقوم مدير السجن الحربي الجعفري بتصفيته، ثم تنكل أجهزة النظام بابنيه، ويُزجّ بابنه منصور في السجن، وتغتصب ابنته سهير المعيدة بالجامعة، ثم تتحول إلى عميلة لأجهزة الأمن.
كما تكلف سهير مثل زينب في “الكرنك” بالتجسس على الطلبة وليد ويوسف وعصام وعلى أستاذها الدكتور حسام أيضا، ولكنها تنسج شبكة من العلاقات تخوّل لها الانتقام من قتلة والدها في نهاية الفيلم.
فن قهر الضحية.. تقاطعات عديدة عند مفترق طرق فيلمين
توجد بين فيلمي “كرنك” و”وراء الشمس” تقاطعات كثيرة، فقد اشتركا في توظيف مختلف أشكال التعذيب الجسدي كالضرب العنيف بالعصي أو السياط والتعليق بواسطة الحبال وشد الأطراف وتمزيقها والصعق بالكهرباء والغمس في الماء المغلي وقلع الأظافر وسلخ الجلد والسحل، وكثيرا ما يأخذ التعذيب منحى نفسيا فتُمنع الضحية من النوم وترهب بأذى يلحق العائلة.
وقد يجمع بين التعذيب الجسدي والنفسي فيكون اغتصابا أو إخصاء أو اعتداء جنسيا على أفراد من عائلتها أمامها، فيجعل منه الجاني آلية لقهر الضحية وتدمير اعتدادها بنفسها وتقديرها لها حتى تكون بعدئذ ذليلة خاضعة طيّعة.
ولصناعة التعذيب بلاغته في الفيلمين، فقد كانت الكاميرا تبحث عن المشاهد المبتكرة التي تعرض أقصى ما يمكن من الفظاعة، وتبحث عن أكثر زوايا التصوير تأثيرا، فتميل إلى اللقطة الكبيرة أو تسطح اللقطة المتوسطة بتجريدها من عمق المجال، كأن يصورها أمام الجدران في الغرف أو الزنزانات أو أسوار معتقلات التّعذيب، أو يعزلها عن ما يحيط بها بواسطة الإضاءة، فتسعى إلى صرف انتباه المتفرج إلى ملامح الضحايا حتى يرصد الانهيار الذي تعانيه ويدرك شعورها بالضياع وهو يرتسم على المحيا.
وهكذا يتحوّل الفيلمان من الاحتفاء بفاعلية شبان يدافعون عن قيم المواطنة ويواجهون التحديات المختلفة إلى خاضعين مستسلمين لمشيئة جلاّديهم. تعمل هذه البلاغة في فيلم “الكرنك” على خلق التعاطف مع مأساة طلبة كانوا من الأبرياء قبل أن يقترفوا ذنب الحلم بتحقيق أهداف الثّورة أكثر من ما تفكّر في ما أصاب حلم الدولة الوطنيّة من إجهاض وتخوض في أسبابه العميقة.

نزعة الكرنكة.. مآثر السادات ومثالب عبد الناصر
لم يبرر فيلم “كرنك” نكسة 1967 بقمع النظام الناصري للشعب ومصادرته للحريات فقط، وإنما جعل الفترة الناصرية عامة نكسة في تاريخ مصر، وبالمقابل اختزلت نصر 1973 في ما اصطلح عليه بالحركة التصحيحية التي أطلقها السادات ضد ما عُرف وقتئذ بمراكز النفوذ، فكان الفيلم أساسا يتغنى بمآثر السّادات منقذ الوطن والإنسان في ذات الحين وهجاء للفترة النّاصريّة.
وهذا ما أسّس لنزعة “الكرنكة” حسب علي أبو شادي، ويقصد بالعبارة مجمل الأفلام التي كتب لها ممدوح الليثي سيناريوهاتها اقتباسا عن أعمال نجيب محفوظ مثل “الكرنك” و”ثرثرة فوق النيل” و”ميرامار”، وأنتجها بنفسه “ليبدي انحيازا للطّبقات التي حاولت الثورة تقليم أظافرها، وتعاليا مستفزا على الطبقات الكادحة المطحونة”.
ويربط ظهور الفيلم بهجوم السّادات على معاوني جمال عبد الناصر ووصفهم بمراكز القوى، فيرى أن هذا الأثر “يفيض كراهية للثورة، ويسير في الاتجاه المعاكس لمسيرتها، منحازا للقوى الرجعيّة المناهضة لها”، ويبعث برسالة أنّ دكتاتورية عبد الناصر أجهضت الثورة وأفرغتها من محتواها، وللعارف بأنّ هذه الثورة قد أممت ممتلكات عائلة الليثي الإقطاعية؛ أن يجد في الفيلم فضلا عن الموقف السياسي بعدا انتقاميا ثاويا.
“وراء الشمس”.. استنساخ مشوه لعمل ناجح
بقدر ما كان توظيف التعذيب في فيلم “الكرنك” أصيلا أيا كان المعنى الذي أنتجه، فقد جاء في فيلم “وراء الشمس” مصطنعا متكلفا يعمل على استنساخ جمالية الفظاعة التي أسسها الفيلم الأول، فكان ميلودراما بطلتها عميلة تخترق الدوائر المنيعة لكبار السّاسة ورجال المخابرات ومدراء السجون، وتصل وصلا مصطنعا بين الحلقات المتباعدة لخلق الصراع، وتتعسّف على الأحداث لتُمكن سهير من الانتقام لوالدها المقتول غدرا.
كما تحشد بغير انسجام نكهات مختلفة من مخابرات وجوسسة ومغامرة وحركة وتعذيب وسياسة، فافتقر الأثر للهوية الخاصة والصدق الفني معا، وإجمالا لم يكن التشابه بين الفيلمين إلا وجها من وجوه تقاطع الأصيل بالهجين الجشع الهادف إلى السطو على جمهور الأول، وكأن صانعه لا يرى في السينما غير استثمار مربح.

سينما ما بعد الثورة.. حذر فني يفرضه الواقع
على خلاف مدونة ما قبل الثورة النازعة بجلاء لتوظيف قضية التعذيب بدت السينما بعد الثورة حذرة لا تكاد تلتفت إلى هذا الموضوع، ولعل ذلك يبدو مفهوما من مستويات عدة، فهامش الحرية التي تمتعت به المدونة الأولى كان يرد عامة في شكل غض طرف من النظام القائم على نقد النظام السابق له، ولم يكن السينمائي وهو ينقد السلطة يواجه اللحظة الحاضرة بقدر ما كان يحاسب فترة ولت ورحل رجالها.
أما الآن فعهد ما بعد الثورة ما يزال مستمرا، ومرحلة ما بعد 30 يوليو/تموز 2013 ما تزال قائمة برجالها ومؤسساتها، وأما حكم مرسي فلا يعتدّ به سينمائيا، فنظامه لم يعمّر كثيرا ولم يشكل موضوع تأمل سينمائي، وعليه فقد اقتصرت مدونتنا على فيلمين؛ أولهما روائي متوسط الطول بعنوان “بسبوسة بالقشطة” من إنتاج قناة مكملين التركية بالتعاون مع شركة (AtoZ)، وبطولة محمد شومان وهشام عبد الحميد، وتأليف أحمد زين، وإخراج عبادة البغدادي.
وثانيهما وثائقي للمخرجة الإيرلندية “أورلا غيرين”، وقد ورد بعنوان “سحق المعارضة في مصر” (Crushing Dissent in Egypt)، وبثته قناة هيئة “بي بي سي” عام 2016، وتعرضت فيه إلى وجوه تعامل النظام مع معارضيه، وسجلت شهادات حول فظاعة التعذيب، وتقتضي الدقة أن نبين أن الانتماء المصري منه يختزل في الموضوع وفي جنسية أصحاب الشهادات.
“بسبوسة بالقشطة”.. حيل متعددة لتدمير نفسية السجين
يصاب في فيلم “بسبوسة بالقشطة” حسام -وهو ابن محمد السجان- بسرطان الكبد وتتراخى إدارة المعتقل في علاجه، ولا يجد المساعدة إلا عند دكتور الفلسفة السجين بلا قضية، فيرسله إلى صديقه الطبيب المسيحي مايكل ماهر تدرس.
أما المقدم عاطف السنهوري مدير السجن فمنشغل بوضعية الدكتور فعلا، فهو لا يجد من العدل أن يظلّ الرجل في الانتظار خمس سنوات دون قضية ودون أن يحال على نيابة أو محكمة، وتسعفه البديهة بالحل السحري: أن يترك للسجين الحرية في ابتكار القضية التي يراها مناسبة لسلبه حريته.
إن الفيلم بالتأكيد فيلم ناقد لسياسة مصر الراهنة، ولكن هل يعتبر فيلم تعذيب؟ فقد ورد في المادة الأولى من اتفاقية مناهضة التعذيب الصادرة عن الجمعية العامة في ديسمبر/كانون الأول 1984 ما يلي:
“يقصد بالتعذيب أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد جسديا كان أم عقليا يلحق عمدا بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص أو من شخص ثالث على معلومات أو على اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه هو أو شخص ثالث أو تخويفه أو إرغامه هو أو أي شخص ثالث..”.
وعليه فقد نجد في قذارة الغرفة ودودها الذي يلاعبه الدكتور السجين وهو يسائله عن سبب اعتقاله أهو يا ترى “جنائي أم سياسي أم آداب؟” أو في منع الزيارة والدواء عنه رغبة في الإيذاء والمضايقة، ولكن هذه الممارسات لا ترتقي بحال إلى مستوى التعذيب، على الأقل في صيغته التي عهدناها في أفلام “الكرنكة”.
فجلي أن صنّاع الفيلم يعملون على تباين تلك الكلاسيكيات التي ابتذلت بالاستعمال وفقدت قدرتها على مفاجأة المتفرّج، فلا يحيلون على التعذيب إلا إيحاء من خلال صور القضبان والأفضية المغلقة وصورة الحنفية التي تقطر ماء، ومعلوم أن إيقاعها الرتيب المعاد لفترات زمنية طويلة يعدّ من الوسائل المعتمدة لإرباك السجناء وتدميرهم نفسيا.
“لم أفعل شيئا”.. سيناريو ابتكار أفضل قضية لسلب الحرية
يبدأ فيلم “بسبوسة بالقشطة” بمونتاج متواز يعرض السجان والمسجون وهما يأكلان، فكلاهما يتلمظ ويغطس يده في الطعام القميء لتذوقه، وكلاهما محاط بالقضبان ملازم للأفضية المغلقة، ومن منطلقه يعرض علاقة بين رجلين يعيش كلاهما أسره على طريقته.
فالأول معتقل دون محاكمة لأن السلطات تتوقع منه ردة فعل على الأوضاع، ويرد هذا الاعتراف على لسان السجان نفسه في نبرة وسط بين الهزل والجد نحو “ما لهمش حق، كان المفروض يحطوك في أي قضية” أو “كانوا خايفين منكم”، فيجيب السجين “لم أفعل شيئا”، فيرد المدير “كلهم يقولون ذلك لأنهم فعلا لم يفعلوا شيئا”.
يكشف الحوار بسخرية عن الاستهتار بمعنى الحرية، وتفقد فيه العدالة معناها لتتحول إلى ضرب من العبث وانعدام المنطق، ولعل ما يؤكد فهمنا هو طلب المدير من السجناء الستة الذين اعتقلوا دون قضية الطلب نفسه، ألا وهو ابتكار القضية الملائمة، والفائز هو من يختلق القضية الملائمة، ويبتكر التهمة الفريدة التي عجز عنها مدبرو المكائد، ويمنح نفسه الدور الأفضل في هذا السيناريو.
فإذا بنا أمام ستة سجناء يبحثون عن قضية لاعتقالهم، مما يذكرنا بمسرحية الكاتب الإيطالي “لويجي بيرانديلو” الشهيرة “ست شخصيات تبحث عن مؤلف” (Sei Personaggi in Cerca d’Autore)، صحيح أنّ المخرج يدعي أنه لا يشير إلى فترة بعينها، ولكن متى كنّا نصدق المبدعين وهم يتحدثون عن إبداعهم؟ فالراديو في مطبخ السيدة أم حسام يشير إلى أحداث تقع بعد سنة 2013 ويفضح سر المخرج و”يكشف نواياه”.
ومقابل العزوف عن المألوف في السينما السياسية المصرية يحاول الفيلم التركيز على الأبعاد النفسية للسجان، فيعرضه جلادا منعدم الضمير يجعل مصلحته بوصلة تحديد قيمه: فـ”ما فيش ظلم”، والسجين عنده مسؤول عن وضعيته في عالم وسخ، ومن ثمة لا بد أن يفعل ما تأمره به الحكومة.
وفي الآن نفسه يصوّره ضحية مستلبا، فابنه حسام مريض بسرطان الكبد، والمدير يربط معالجته على نفقة الدولة في مستشفى الضباط بنصب كمين للدكتور السجين يورطه في قضية مناسبة ترفع الحرج عن السلطات، فيحقق النقد السياسي ويبعث بالرسالة المباشرة، ولكنه يبقى بعيدا عن عمق الفن وسحره.
“سحق المعارضة في مصر”.. شهادات حيَة من وحشية النظام
يتجه الفيلم الثاني “سحق المعارضة في مصر” وجهة مغايرة تماما، فهو وثائقي يعرض حالات تعذيب فعلية، فيستند إلى شهادة منى محمود حول اعتقال ابنتها زبيدة بتهمة المشاركة في مظاهرات داعمة للإخوان سنة 2014، واتهامها للأجهزة الأمنية بإخفائها قسريا وتعريضها للاغتصاب والتعذيب أثناء اعتقالها، ويستند إلى شهادة محمود حسين المعروف إعلاميا بمعتقل التيشيرت الذي أكد صعقه في مناطق حساسة من جسده، وتعرضه لتعنيف شديد استوجب عمليات جراحية عدة بعد خروجه من السجن.
ولكن الفيلم إجمالا يشكو من فقر موارده البصرية ومن هيمنة صوت السارد، فلا يبقى له من فضل إلا اختراق طبقة الصمت الذي يحيط بالحياة السياسية والحقوقية المصرية، عدا ذلك فالمنجز أقرب إلى التقرير الصحفي المباشر، لذلك كان وقعه سياسيا وحقوقيا قبل أن يكون فنيا.
وقد جرى القبض على “أم زبيدة” بعد عرض الفيلم بتهمة “نشر وإذاعة أخبار كاذبة من شأنها الإضرار بالمصالح الوطنية للبلاد، والانضمام لجماعة أسست على خلاف القانون”، وحبست على ذمة التحقيق، وعمدت السلطات إلى محاصرة وسائل التواصل “التي تبث أخبارا أو بيانات أو إشاعات كاذبة من شأنها تكدير الأمن العام أو إلقاء الرعب في نفوس أفراد المجتمع، أو يترتب عليها إلحاق الضرر بالمصلحة العامة للدولة المصرية”.

تكرار مشاهد التعذيب في السينما.. ترويض المتفرج على قبول العنف
لا شك أنّ المدار الأول للسؤال هو على مدى خدمة مشاهد التعذيب في السينما للغاية الحقوقية السامية المتمثلة في مناهضته، فالإفراط في إظهاره يخرق قاعدة اللياقة واللباقة التي عليها عماد الفن الكلاسيكي، فمنظرو المسرح الكلاسيكي مثلا يرفضون الانجرار وراء ما يثير اشمئزاز المتفرّج أو يصدمه أو يخدش حياءه أو يثير رعبه وفزعه، ويعتقدون أن الصادم والفظيع لا يجب أن يقدم إلى الجمهور، وأنّ وقوعه في الأذن يكون أفضل من وقوعه أمام العين كسمل “أوديب” لعينيه مثلا.
ويهدف هذا الإفراط إلى صدم المتفرّج وتحريره من سلبيته إزاء هذه الجريمة، ودون أن نكون محافظين جماليا نعتقد أن نتائجه تكون عكسية، فالمبالغة في إظهار مشاهد التعذيب تروض المتفرّج على قبوله وتهوّنه له وتفقد وقعه عليه وتبتذله، ونقدّر أن الإسراف في اعتماده يخفي عادة فقرا فنيا، ويزيح من أمام المبدع خيارات كثيرة للوقوع على الجانب الإنساني في معاناة السجين.
فعلم النفس مثلا يسعفنا بمعارف كثيرة حول سيكولوجيا السجان وأسباب انصياعه الأعمى لسلوك المؤسسة السجنية المارقة، وسيكولوجيا الضحية توجهنا إلى البحث في ما يخلفه التعذيب في نفسيتها من تقهقر وتدمير يجعلانها غير قادرة على مواجهة الأزمات والمواقف المحبطة أو على التواصل السليم والسلس مع المحيطين بها نتيجة للشعور العميق بالعار وفقدان الكبرياء وعزة النفس.

سطوة الرقيب.. هشاشة الخارج وقيود الداخل
يمكن للسينما أن تعمق تناولها للتعذيب من خلال عرض مختلف أنماط العلاقات التي يمكن أن تنشأ بين الجلاد والضحية، مثل متلازمة ستوكهولم التي تقوي الارتباط العاطفي بينهما ظاهريا، وتكشف باطنيا أنها سلوك دفاعي لا واع يلجأ إليه السجين.
لا يخدم الإسراف في عرض مشاهد التعذيب مناهضته دائما ولا يخدم الفيلم فنيّا غالبا، ولكن غيابه من السينما المصرية اليوم ليس عاملا صحيا بالضرورة، وليس اختيارا فنيا بقدر ما هو خضوع لقوة قاهرة بلغة أهل القانون، بعد أن تراجع هامش الحرية.
ولعل تحفز وسائل الإعلام المصرية الرسمية لمهاجمة كل إشارة إليه هو ما يؤكد هذه القوة القاهرة، ولكن المؤسف في المسألة أن هذه السينما “البديلة” التي تنشأ في الخارج تظل ضعيفة فنيّا رغم هامش الحرية الواسع المتاح أمامها مما لا تتمتع به سينما الداخل المبدعة أحيانا والمحاصرة غالبا، وهذا ما يفتح بابا واسعا على الجدل بين الحرية والإبداع.