“ابتلاع”.. هوس التهام ما ترميه الصدفة أمامك

إسراء إمام

خلال الشهور الماضية من السنة الجارية أنتجت شركة “نتفليكس” فيلما جديدا بعنوان “كل الأماكن المشرقة” (All The Bright Places)، وهو فيلم رومانسي يمكن وضعه تحت قائمة أفلام من نوعية “حياتي من قبلك” (Me Before You) وفيلم “النحس في طوالعنا” (The Fault in Our Stars)، وهي الأفلام التي اعتمدت نفس حبكة التفريق بين الحبيبين عن طريق مرض عضال.

ولكن في فيلم “نتفليكس” الجديد لم يكن هذا المرض عضويا، بل عقليا نفسيا مُتفرعا من أسرة الأمراض الاكتئابية، فقد كان البطل الشاب يعاني منه ويختفي عدة شهور حين يواجه إحدى نوباته التي لا يسعه مواجهتها إلا وحده، فعلى حد قوله لا أحد غيره يمكنه أن يلم بما يمر به حينها، حتى طبيبه الذي يخفق وسيخفق في مساعدته حتى النهاية.

ولأننا سنتحدث في هذه المقالة عن فيلم يتناول مرضا نفسيا فريدا من نوعه أيضا بعنوان “ابتلاع” (Swallow) (2019-2020)، كان علينا أن نتوقف عند هذه الظاهرة الفيلمية، ونتأمل انعكاس الوضع الذي يعيشه العالم الشاب حاليا على السينما، ومدى قلة حيلة أجيالنا في مواجهة مخاوفها وآلامها التي استفحلت لدرجة طورت من نفسها لتُجهِز علينا بطريقتها الخاصة، فأصبحت خطرا مستقِلا في حد ذاته لا يصح أن يستمر أحد في إنكاره أو اعتباره رفاهية تغالي هذه الأجيال في اختلاقها، أو تفشل في مواجهتها لسبب يرجع لضعف يكمن في سلوكياتها.

 

رحلة الجنون.. محطات الحاضر والماضي

“هانتر” زوجة وحيدة تعيش مع زوجها في منزل فخم، وقد نذرت نفسها لخدمة هذا الزوج وهذا البيت الفاره المُرفه، إذ تقضي يومها ما بين الاعتناء بالحديقة والطبخ وإعادة تدوير الديكورات المحاوطة ومحاولة الابتكار فيها لإضفاء بعض التجديد، ولكن من الواضح أن “هانتر” لا تنال هذا الجديد في حياتها أبدا، فهي تعيسة ممتلئة بالحزن لكنها لا تعترف بذلك، بل على العكس من ذلك تدعي السعادة والرضا دوما.

يُلفت السيناريو انتباهنا إلى ما تمثله “هانتر” لزوجها بعدة مواقف تلقائية، منها مشهد ينزعج فيه بشدة لأنها أخطأت في طريقة كي ربطة عنقه، فنراه عصبيا غير آبه بمجهودها، وإنما كل ما ينغصه هو ضرورة انتقائه لربطة عنق جديدة تلائم القميص الذي قرر أن يرتديه، فهو سعيد باقتناء الزوجة الشابة الجميلة والمطيعة لكنه لا يحبها. يكرر السيناريو الأمر عند تلخيص علاقة “هانتر” بأمها، فنراها تحاول اللجوء لها عند تطور أحداث الفيلم، لكنها تعتذر بحجة ازدحام منزلها إثر زيارة ابنتها الأخرى.

أفصحت “هانتر” عن ماض مشوه فيما بعد لطبيبتها النفسية، وهو حقيقة كونها ابنة غير شرعية جاءت إلى الحياة رغما عن إرادة الجميع بعدما اغتصب والدها والدتها، وبعدها تلقى عقوبة السجن، أما الأم فلتدينها لم تقم بعملية إجهاض، واختارت أن تلد “هانتر”، لكنها وفقا لإيحاءات السيناريو البالغة ظلت تعاملها بجفاء، وكأنها تذكرها دوما بواقعة مفجعة حدثت لها في حياتها.

هذا الماضي المؤلم وذلك الحاضر البليد المعذب الذي تحياه “هانتر” مع زوجها غير المبالي، كانا كفيلين بإفساد عقلها وإصابتها بمرض غريب الأطوار، يطمئن المريض فيه عندما يبتلع أي شيء يرغب في ابتلاعه، حتى ولو كان هذا الشيء حادا قاتلا وضخما ومميتا.

“هانتر” تجلس في منزلها الفخم تلتهم أوراق الكتاب الذي تقرأه، لإن ذلك يعطيها إحساسا بالسيطرة والاطمئنان

 

حَمل فاقم الأزمة.. “هانتر” والمواجهة الحتمية

كان من الذكاء أن يضع السيناريو تدريجا محكما لتفاقم الأزمة حتى يبلغ بها طريقا مسدودا لا تفلح معه أنصاف الحلول، ومن ثم تُجبَر “هانتر”على المواجهة التي تخشاها منذ أمد، سواء مواجهتها لنفسها حيث وجب عليها الاعتراف أخيرا أنها في أسوأ حالاتها الإنسانية على عكس ما تدعي دوما، وأن علاقتها بأمها هي أهم أسباب زعزعة أمانها النفسي، وقد ظل الرعب الناجم عن ذلك مكبوتا يعتمل داخلها حتى وجد طريقته الخاصة في التنفيس عن نفسه في صورة علة عقلية مضنية.

ظهرت الأعراض على “هانتر” إثر معرفتها بخبر حملها، إذ نلاحظ حقيقة ارتباكها وذعرها منه وهي منفردة بنفسها، فالحمل سيربطها أكثر بهذا الزوج الجشع، ويؤكد وجودها داخل إطار حياتها معه إلى الأبد، لكنها لم تكن واعية بموقفها هذا ولا تجرؤ على مصارحة نفسها به، لذا نجدها تشرع في ابتلاع الأشياء خاصة الحاد الشائك منها، ويمكننا تخمين أن اختيارها له علاقة برغبة خفية في قتل الجنين.

يكتشف زوجها وأهله فعلتها فيحاولون منعها خوفا على الجنين الذي تحمله، وبعد معاناة تبدأ في التعلق بطبيبتها النفسية، وتبوح لها بحقيقة مجيئها إلى الحياة باعتبارها ابنة اغتصاب يندم عليه الجميع.

 

تشبث بالحنان الزائف.. الغدر الذي فجر الأحداث

بما أن “هانتر” نشأت منزوعة الاحتضان محرومة من حقها الطبيعي في الحب، فمن البديهي أن تصبح عُرضة للتعلق بأي حنان يُقدَم لها كلما تقدمت في السن، سواء كان بالصدفة أو عن عمد، بل إنها قادرة على تفخيم أي مشاعر تعاطف عادية وتحميلها فوق معناها لترتبط بها وتشعر حيالها بالأمان.

وهذا ما حدث بينها وبين طبيبتها النفسية، فوجود تلك الطبيبة وفر لها الأمان الذي تبحث عنه حينما تبتلع الأشياء، جعلها تشعر بإحساس مُقارِب لإحساس السيطرة والاطمئنان الذي يعطيه لها ملمس الخردة في فمها، وقدرتها على ابتلاعها مهما كان الأمر صعبا.

لكن السيناريو لا يقف عند تلك النقطة الهادئة، بل يختار أن يُصعد الحدث فيهدم ملاذ الطبيبة، ويجعلها في تصرف غبي تفشي سر “هانتر” للزوج من باب محاولة العمل الجماعي لتحسين حالتها، وبمجرد معرفة “هانتر” بالصدفة لهذه الخيانة تتطور حالتها، مما يؤدي لمزيد من الاشتباكات بينها وبين عائلة زوجها لدرجة هروبها منهم.

ثم يتماهى السيناريو في عرقلة طريق “هانتر” نحو أي حل وسط، ويدفعها مجبورة إلى مقابلة والدها، ذلك الأب الذي كانت تدعي أنها لا تفكر فيه، وأنه لا يمثل لها شيئا بينما كانت تحتفظ بصورته في حقيبتها دوما، وتذهب بها إلى كل مكان، ومن بعد ذلك المشهد البسيط البديع الذي يجمعها بوالدها نشعر وكأن هذا هو التصرف الصحيح الذي كان ينبغي أن تقوم به منذ سنوات طوال، ومن هنا يبدأ طريق العلاج الحقيقي.

هانتر تحتضن شابا عربيا من سوريا أحضره زوجها ليمكث معها في فترات غيابه

 

تعاطف الرقيب العربي.. نظرة الأجيال السابقة للاحقة

نأتي لجزء مهم في هذا السيناريو وهو تعاطف الرقيب الذي أحضره زوجها ليمكث معها في فترات غيابه، وليحول بينها وبين ابتلاع الأشياء في فترة ما قبل هروبها من البيت، وقد كان هذا الرجل عربي الجنسية وتحديدا من سوريا، وقد صارح “هانتر” في مرة أنه يجد مرضها نوعا من الرفاهية التي لا تتاح لأمثاله ممن تخوض بلادهم حربا مريرة، فهي في نظره مجرد فتاة ثرية فارغة لم تجد ما يكدر عليها عيشها لدرجة الملل، فابتدعت معاناتها الخاصة.

والحقيقة أن هذه هي النظرة العامة من كافة الأجيال السابقة لمعاناة الشباب العقلية والنفسية في السنوات الأخيرة، وقد تعمد السيناريو أن ينتصر لصالح الحقيقة، ويجبر الرقيب السوري في النهاية على القتال لصالح “هانتر” بعدما استشعر بنفسه مدى جدية أزمتها، وهو ما يعتبر تأكيدا سينمائيا موفقا على ضرورة احتواء هذه الأزمات المُستحدثة التي يمر الشباب، ويلفظها كبار الأجيال الماضية ساخرين منها ومقللين من شأنها.

 

توجيه دفة القارب.. بصمة “كارلو ميرابيلا ديفيز”

بينما نرى الابتسامة الواسعة ترتسم على وجه “هانتر” وعلامات الرضا الدائم تتبدى في إذعانها وصوتها الهادئ الزائف؛ يمكننا ببساطة أن نلمح الضجر الذي يُلِم بنفسها، ونلمس شعورها الخفي بالتعاسة، وهذا مزيج يصعب التحكم به في الشخصية إلا إذا ما وُجد مخرج جيد.

ولأن المخرج هنا “كارلو ميرابيلا ديفيز” هو أيضا الكاتب فإنه كان موفقا في توجيه الممثلة “هالي بينيت” حتى بدت متألقة في أدائها واعية لذلك التعقيد الذي لا بد أن تلمسه في شخصية “هانتر”، والحقيقة أن “هالي” هنا تثبت أنها ممثلة جديرة بالاهتمام بعد أدوارها السابقة الملفتة، ومن أهمها دورها في فيلم “فتاة القطار” (The Girl on The Train) عام 2016.

كما أن “ديفيز” كان حريصا على أن يبدو مظهر “هانتر” في بداية الفيلم محاكيا لشكل زوجات الأحلام اللاتي نراهن في الإعلانات التجارية، وهن أولئك الزوجات المثاليات قصيرات الشعر اللواتي يرتدين الفساتين الخمسينية القصيرة المنفوشة، ويصبغن وجوههن دائما بمساحيق التجميل على أتم وجه، وهذا المظهر كان قادرا على إضفاء شيء من البلاستيكية سواء على الحياة التي تحياها “هانتر” أو على ردات فعلها الكاذبة دوما تجاه تصالحها مع كل شيء يحدث حولها.

هانتر تقف في منتصف شرفة منزلها الزجاجية الشافة وحيدة تائهة تواجه العالم

 

مواجهة العالم الواسع.. مشاهد التيه والارتباك

ساهم المخرج والكاتب “كارلو ميرابيلا ديفيز” أيضا في إنماء إحساسنا بحزن وفراغ “هانتر” العميق من خلال عدة لقطات بصرية ذكية رأيناها فيها واقفة في منتصف شرفة منزلها الزجاجية الشفافة، وأمامها المنظر واسع وكأنه العالم بينما تواجهه هي وحيدة تائهة.

كما أنه استخدم أساليب موفقة في التصوير ساهمت في تعميق شعورنا بارتباك “هانتر” في أكثر من موقف، وخصوصا ذلك المشهد الذي قررت فيه بسرعة وبدون تفكير ابتلاع الخردة الشائكة التي أخفقت في ابتلاعها سابقا.

وقد استخدم المخرج “ديفيز” حينها أسلوب الكاميرا المهتزة بينما كان يلتقط مشية “هانتر” من مكانها إلى حيث مكان الخردة يبدو عليها العزم، ولكن الكادر لا يخلو من عدم اتزان وحركة غير مستقرة، مما يوحي بما يدور في نفسها من فزع وخوف.


إعلان