“داخل مكة”.. هكذا يرى المسلمون الأعاجم فريضة الحج
تنحدر المخرجة السينمائية أنيسة مهدي من أب عراقي وأم كندية، لكنّ رؤيتها الإخراجية عالمية بامتياز، وقد حقّق فيلمها الوثائقي الذي أنتجتهُ قناة ناشيونال جيوغرافيك “داخل مكة” حضورًا متفردًا في المشهد السينمائي العالمي، بسبب القصة الرصينة المؤثرة والتصوير المُبهِر والأداء الطبيعي السلس الذي يخلو من التوتر والانفعالات غير المبرّرة، الأمر الذي يترك تأثيره القوي على عقل المُشاهِد وقلبه في آن معا.
يتكئ الفيلم على سيناريو محكم كتبته أنيسة مهدي بالاشتراك مع “جون بريدار”، ولعل هذا النفس الاحترافي الذي يتمتعان به هو الذي زوّد الفيلم بقصة متميزة يتابعها المتلقي بشغف، فعلى الرغم من أن موضوع الحج مكرر فإن زاوية النظر لكاتبي السيناريو مختلفة، فقد أرادا أن يقدما لنا فريضة الحج من زاوية الطرف الآخر سواء أكان ماليزيا أو أفريقيا أو أمريكا، فالعربي يعرف هذه الفريضة لكننا نتلهف لمعرفة آراء الآخرين القادمين من بلدان أخرى مثل إسماعيل محبوب رجل الأعمال الماليزي، أو خليل مندلازي الصحفي الجنوب أفريقي، أو “فيديلما أوليري” البروفيسورة الأمريكية المختصة بعلم الأعصاب التي تُدرِّس في جامعة سانت أدواردز في مدينة أوستن، إضافة إلى الشخصيات الثلاث الأُخر التي تعلق على عدة مواقف تأتي عليها الشخصيات الرئيسة في سياقها السردي، لتسلّط الضوء على بعض الأفكار المبهمة التي تستدعي الشرح والتأويل.
لا تنجح الأفلام الوثائقية التي لا تتوفر على قصة في الأعمّ الأغلب لأنّ السرد القصصي يُتيح للمُشاهِد أن يرصد خيوط الحبكة ويعرف الأحداث ويتتبّع نموّ الشخصيات، بل إن سردية هذا الفيلم القصصية والبصرية تُهيّئ المتلّقي لأن يفهم قصة كل شخصية على انفراد، ويوفِّر لنا بالنتيجة ثلاث قصص مفيدة يمكن أن نأخذ منها العِبَر والدروس.
“يوم لا ينفع مال ولا بنون”.. بحث عن الثراء الروحي
تُعرِّفنا المُخرجة بالماليزي إسماعيل محبوب، وهو رجل رجل أعمال ميسور الحال متزوج من السيدة أسماء التي تنوي السفر معه لتأدية فريضة الحج لكنهما سوف يتركان من ورائهما أربعة أبناء مع قائمة طويلة بالأشياء المسموحة والممنوعة.
وعلى الرغم من الحياة الرغيدة التي تعيشها أسرة إسماعيل فإنه يبحث عن أشياء تشبع حاجاته الروحية التي يفتقر إليها هو وزوجته، لذلك فهو يتحدث عن الإحرام الذي يصفه باللباس المتقشف الذي يتألف من قطعتين؛ واحدة تُغطّي القسم العلوي من الجسد، والثانية تستر القسم السفلي منه. والشخص الذي ينوي الدخول في الحج أو العُمرة يتوجب عليه أن يمتنع عن لبس المخيط من الثياب والصيد والنكاح والتطيب، وإسماعيل متناغم مع اشتراطات هذه الفريضة التي يعدها خلاصا من الخطيئة وتسديدا للدين الذي يطوق عنق المسلم.
لا يبحث إسماعيل عن المنافع المادية ومباهج الحياة الزائلة بسبب ثرائه ورغد العيش الذي ترفل فيه أسرته، وإنما يبحث عن ثراء الروح وغناها الذي لا يتحقق إلا بالإيمان وسكينة القلب، وعلى الرغم من الثلاثة ملايين من الحجاج الذين يحيطون به من مختلف الجهات فإن إسماعيل يجد نفسه وحيدا أمام الله مستذكرا الآيتين الكريمتين: “يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم”. فلا غرابة أن يسأل الله الرحمة والخلاص من الذنوب والآثام التي ارتكبها، فهو يشعر في قرارة نفسه أنه تحت وطأة حمل ثقيل، لذلك نراه خاشعا باكيا يذرف دموعه الحرى وهو يقف وحيدًا أمام الله الذي هو وحده “يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور”.
“إن أكرمكم عند الله أتقاكم”.. رحلة من بلد العنصرية إلى البلد الأمين
أما الشخصية الثانية فهو خليل مندلازي القادم من قرية صغيرة تقع شرق بريتوريا، ويعمل في الصحافة والإعلام، ويقدّم كل أسبوع برنامجا إذاعيا على الهواء مباشرة يدعو الناس فيه إلى الإسلام، فهو أشبه بالداعية والناشط السياسي الذي يقارع سياسة التمييز العنصري في جنوب أفريقيا وفي كل مكان.
ولعلّ زياراته المتكررة لمكة المكرّمة والمدينة المنوّرة هي تعزيز لفكرة المساواة التي يناضل من أجلها فهو يرى في فريضة الحج عالمًا مثاليًا للمساواة بين البشر، فلا فرق بين غني أو فقير وقوي أو ضعيف وأسود أو أبيض، مُسترشدًا بالآية الكريمة: “إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم”.
ومن آرائه ومفاهيمه الأخرى التي تتكرر كثيرا على لسانه الأخوّة بين المسلمين سواء أكانوا رجالا أم نساء، فتيانا أم فتيات، لأن الله لا ينظر إلى الجسد أو العِرق البشري، وإنما ينظر إلى أرواح الناس وقلوبهم ويأمر عباده أن يكونوا متسامحين يحب بعضهم بعضا.
من الظلمات إلى النور.. أمريكية تحيّي الحجاج بتحية الإسلام
أمّا الشخصية الثالثة في الفيلم فهي “فيديلما أوليري”، وهي الأكثر إشكالية بين شخصيات الفيلم الرئيسة والثانوية، فهي بروفيسورة في علم الأعصاب، وتدرس في جامعة سانت أدواردز في أوستن، وتنحدر من عائلة كاثوليكية، لكنها تحوّلت إلى الإسلام بقناعتها الشخصية، وإن كان هذا التحول قد آذى أبويها وأثر قليلا على ابنها وابنتها لجهة خروجها عن المسيحية.
لقد آثرت “فيديلما” الإسلام على المسيحية إثر سماعها لبرنامج حواري ديني أوقد في داخلها شمعة أنارت لها حياتها المعتمة، خاصة أنها مُطلّقة انفصلت عن زوجها من دون أن نعرف الأسباب، ولم تزل سنوات طوالا تتجه نحو الكعبة المقدسة لتؤدي صلواتها اليومية الخمس.
وبما أنّ الحج طقس معقّد بالنسبة للأجانب الذين لم يمارسوا هذه الشعائر الإسلامية فقد انضمت إلى جمعية إسلامية فيها عدد غير قليل من النساء من مختلف الأعمار، وربما تكون أمينة هي الأنموذج الأقرب إلى “فيديلما” من حيث الجانب المعرفي، فهي امرأة مثقفة وملمة بتعاليم الدين الإسلامي الحنيف، وهي تلتقي بصديقتها “فيديلما” مرتين أو أكثر في الأسبوع، وتتناقش معها حول فريضة الحج وشعائرها والقصص الكثيرة التي تتعلّق ببناء الكعبة المشرفة ووضع الحجر الأسود وتدفّق مياه بئر زمزم وما إلى ذلك.
المُلاحظ أن “فيديلما” الأمريكية تتحدث بعفوية تجذب المُشاهدين خاصة عندما تُشير إلى طلب الإذن من ابنها كي تسافر إلى مكة المكرمة وهو ما لم تعتدهُ في أمريكا ولم تمارسه أبدا، أو عندما تنتقي الثياب المناسبة لامرأة حاجة، وبالرغم من أنها اختارت ثيابا محتشمة وغطت شعرها، فإنها ظهرت في إحدى اللقطات بثوب أحمر صارخ، الأمر الذي دفع الحجاج لأن يسألوها أهي مسلمة حقا أم لا؟ فحتى اسمها لا يوحي باسم إسلامي، كما أنّ مظهرها الخارجي الجميل كان يجعلها في مرمى النظرات المدهوشة وهي تحيّي الآخرين بتحية الإسلام.
عاصمة الإسلام.. قبلة ملايين الحجاج سنويا
تستعين المُخرجة أنيسة أمين بثلاث شخصيات أخرى تُسلّط الضوء على فريضة الحج وهم: إياد المدني وزير الحج في المملكة العربية السعودية، والدكتور عمر عبد الله الباحث الإسلامي، وديزي خان العضوة في جمعية الصوفيين المسلمين الأمريكية، ومن خلال إطلالاتهم المتكررة نتفهّم أكثر فريضة الحج، ونتوسّع في معرفة طقوسها ومضامينها.
يتمحور كلام وزير الحج على الاستعدادات الدائمة لهذه الفريضة المقدسة حيث يصل عدد الحجاج سنويا إلى أكثر من مليوني حاج تقريبا، وهذا العدد مُعرّض للزيادة والنقصان، فلا غرابة أن تبدأ الاستعدادات قبل الحج وفي أثنائه وبعد الحج مباشرة لكي تكون الخدمات بمستوى هذا العدد الكبير من زوار بيت الله الحرام.
أما الباحث الإسلامي الدكتور عمر عبد الله الذي يؤكد بأنّ كل العقائد الدينية لها مراكز محددة تمثل توجهها الديني والروحاني، ومركز الإسلام هو مكة المكرّمة، وتتوسطها الكعبة المشرّفة التي يتوجّه إليها كل المسلمين في صلواتهم.
“وأذن في الناس بالحج”.. حنيفية إبراهيم التي جددها الإسلام
بينما تعرِّج “ديزي خان” -العضوة في جمعية الصوفيين المسلمين الأمريكية- على فريضة الحج التي كانت تمارَس قبل الإسلام وهدفها الخضوع لله الواحد الأحد، كما تتوقف عند قصة النبي إبراهيم عليه السلام الذي ترك زوجته وابنه إسماعيل عليهما السلام في وادٍ غير ذي زرع وظلت زوجته هاجر تسعى بين جبلي الصفا والمروة بحثا عن الماء لابنها الذي أوشك أن يقتله العطش إلى أن هبط الملك جبريل وضرب الأرض بجناحه، فتدفق الماء العذب من بئر زمزم وأنقذ الأم وابنها من موت محقق.
ثم جاء النبي إبراهيم عليه السلام وشيّد الكعبة ونادى في الناس لتأدية فريضة الحج، وظلت الأجيال اللاحقة تعبد الله، لكن مع مرور الوقت هيمنت عبادة الأصنام التي ملأت الكعبة، إلى أن جاء النبي محمد ﷺ وحطّم الأصنام كلها ونقل البشرية من الضلالة إلى النور.
كسوة الملك فيصل للكعبة.. لقب “خادم الحرمين الشريفين”
لا بدّ من الإشارة إلى أن السرد الخارجي (Voice over) تبنّاه “كيث ديفيد” الذي شرح في مواقف عديدة أهمية الزيارة التي قام بها الملك فيصل ليؤدي طقوس غسل الكعبة المشرّفة عام 1967، ومنذ ذلك الحين غابت صفة الجلالة، وبات يُطلق على الملك لقب “خادم الحرمين الشريفين”.
وعلى الرغم من كثرة المعالم الموجودة في الكعبة المشرّفة التي تحمل أسماء عدة مثل المسجد الحرام أو البيت العتيق، فإن تركيز المُخرجة قد انصبّ على الحجر الأسود، والكسوة الجديدة للكعبة التي بلغت تكلفتها خمسة ملايين دولار أمريكي بينما لم تركز على المعالم الأخرى مثل الباب والأركان الأربعة وما سواها من أشياء لافتة للنظر.
أيام الحج الستة.. طقوس الطهارة الروحية ورجم الشر
تتجه شخصيات الفيلم الثلاث من ماليزيا وجنوب أفريقيا وأمريكا، وتلتقي في مكة المكرمة لأداء فريضة الحج خلال ستة أيام تبدأ باليوم الثامن من شهر ذي الحجة وتنتهي في اليوم الثالث عشر منه، وهي على التوالي: يوم التروية، ثم يوم الوقوف على عرفة، ثم يوم النحر، ثم أيام التشريق الثلاثة التي تتضمن رمي الجمرات وتنتهي بطواف الوداع.
تُركِّز المخرجة أنيسة مهدي على جميع شعائر الحج، لكنها تتوقف طويلا عند البعض منها مثل يوم عرفة، لأنّ الحاج يقف بحسناته وسيئاته أمام الله حتى أنهم يطلقون عليه يوم الحساب، كما ركزت كذلك على أيام التشريق الثلاثة التي يرجم فيها كل حاج الشيطانَ بـ 70 حصاة، وفي هذه الشعيرة لا تركز المخرجة على الجمرات التي يقذفها الحجاج على الشيطان فقط، بل على الأشياء الأخرى التي تقذف جراء الغضب والانفعال مثل النعال والطرابيش والأحذية وما إلى ذلك.
لا تفوّت المخرجة أيضا فرصة قصّ الشعر أو حلاقته بالكامل، كما تلتفت إلى الأضاحي التي يصل عددها إلى 800 ألف أضحية انتُدب لها ألفان من القصابين المحترفين يذبحون الأضاحي، ثم تُشحن وتُوزّع لحومها على الفقراء في مختلف أنحاء العالم.
حزن على مغادرة الكعبة.. رشاقة التصوير والمونتاج
يقتني الحجاج هداياهم من أسواق مكة المكرمة لأهلهم وأصدقائهم، وبعضهم يشعر بالحزن لأنه سيغادر بيت الله الحرام وربما لن يراه مرة ثانية، لكن طعم هذه الزيارة سوف يعلق في ذاكرتهم إلى الأبد، وتقتصر المشاهد الأخيرة على شخصية “فيديلما” لأنّ قصتها أكثر إثارة من إسماعيل محبوب وخليل مندلازي، فهي من جهة مُطلّقة لكنها بدأت تبحث عن زوج مؤمن يحب الله ويحبها في الوقت ذاته، كما تتمنى أن تنسجم معه في أشياء أساسية كثيرة ولا بأس من بعض الاختلافات العابرة.
ورغم أن بعض الحجاج يشكّون في إسلامها فإن البعض منهم كان يسألها:
أمريكية؟
نعم.
ومسلمة؟
نعم.
فيأتي الرد سريعًا: “الحمد لله”، وحينها تشعر في أعماقها أنها مرحب بها وسط هذه الجموع الإسلامية الكبيرة التي تحج لبيت الله الحرام وتصلي لله الواحد الأحد.
وفي الختام لا بد من الإشارة إلى خمسة مصورين أُسندت إليهم مهمة تصوير الفيلم الذي بلغت مدته 56 دقيقة وهم تاغي أميراني وحُسام عبد الماجد وياسر خان وديفيد غولدنغ وعمر فاروق آقصوي، بينما قامت بالمونتاج تراسي زامبوتي التي قدّمت في النهاية فيلما رشيقا خاليا من الترهل والثرثرة البصرية.