فيلم “1917”.. نظرة إلى الحرب بعين الإنسان لا بفوهة المدفعية

تستغرق أحداث الفيلم ساعات قليلة من الحيز الفاصل بين يومي السادس والسابع من أبريل/نيسان سنة 1917، حين يتوهم العقيد “ماكينزي” قائد الكتيبة الثامنة من الجيش البريطاني إبان الحرب العالمية الأولى؛ أن الألمان يفرون من قصف كتيبته، وأنهم ينهارون ويندحرون إلى الخلف، فيجهز قواته لمطاردتهم وإلحاق الهزيمة بهم.
ولكن الوقائع كانت على غير ما يظن، فما تراجعوا إلا لإعادة الانتشار وللاحتماء بمواقع دفاعية محصنة بنيت حديثا، وهناك أخذوا يتربصون بالقوات البريطانية ويستدرجونها، ولأن الألمان دمروا تجهيزات الهاتف والتلغراف فقد عز على القيادة العليا البريطانية المتمركزة في فرنسا الاتصال بالكتيبة لتحذيرها من الفخ الذي ينصب لقوتها -وقوامها 1600 جندي- فيهدد حياة رجالها، ولم يبق لها من حلّ غير الاتصال بها فعليا.
يكلف ضمن هذه الخلفية الجنديان “بليك” (Blake) و”سكوفيلد” (Schofield) لتسليم قائدها رسالة تحذره من الكمين الذي ينتظره وتطلب منه إلغاء الهجوم، ولكنّ الطريق تقتضي المرور بخنادق الألمان والوقت يستنزف، فصباح الغد سيشرع العقيد “ماكينزي” في الهجوم القاتل.
في الطريق يلقى “بليك” حتفه متأثرا بإصابته بعد أن طعنه جندي ألماني، ويضطر “سكوفيلد” إلى إكمال رحلته وحيدا وقد أضحت المسؤولية مضاعفة، ففضلا عن تسليم الرسالة الأولى يحمّله “بليك” المحتضر رسالة أخرى إلى أمه.
هذا هو الملخص الموجز لفيلم “1917” الأمريكي/البريطاني الذي كتب قصته وأخرجه “سام منديس” (Sam Mendes) وعُرض أول مرة سنة 2019.
لقطة متوالية واحدة.. درب الواقعية الإيطالية
يكتسب الفيلم أهميته من توظيف اختياراته الجمالية للتحكم في ردود أفعال المتفرج وتوجيه فهمه الوجهة التي يريد المخرج طبعا، فقصته بسيطة للغاية تختزل في سباق مع الزمن لإنقاذ أرواح بشرية من موت محقق، وهذا البناء الدرامي متواتر في مئات أفلام المغامرة والإثارة، ولكن تصوير الفيلم بأسره في لقطة متوالية واحدة (sequence shot) منح هذه القصة قيمتها المضاعفة.
وتُعرّف اللقطة تعريفا تقنيا، فهي المادة المصورة من بداية الضغط على زر التسجيل إلى نهايته دون قطع، أما اللقطة المتوالية فتختزل المشهد بأسره الذي يصور في لقطات كثيرة عادة في لقطة واحدة.
ولأن اعتماد هذا الاختيار الجمالي على قدر من الصعوبة يجده البعض عنوانا للتفرّد الأسلوبي والبحث عن لزوم ما لا يلزم، وهو تقدير وجيه، فمن أجل أن نصور فيلما بأسره في لقطة واحدة فلا بد من تنسيق بالغ الدّقة لمصادر الإضاءة، ولا بد من دراسة دقيقة لمواضع الكاميرا المحمولة حتى يُنوع سلّم اللّقطات تنويعا وظيفيّا حتى كأن المخرج يقوم بعملية المونتاج داخل اللقطة وأثناء التصوير لا بعده، ولا بد من ممثلين مهرة قادرين على تنفيذ ما يطلب منهم بمنتهى الحرفية.
عنصر اللقطات المتوالية.. تاريخ من البلاغة السينمائية
لاعتماد اللقطة المتوالية في السينما عامة تاريخ ونماذج راسخة، فقد مثلت عنصر بلاغة أظهر عبقرية “أرسون ويلز” (Orson Welles) في الفيلم المصنف كأفضل فيلم في تاريخ السينما “المواطن كين” (Citizen Kane) سنة 1941 ثم في فيلم “أمبرسون الرائعون” (The Magnificent Ambersons) سنة 1942.
ثم أخرج “ألفريد هيتشكوك” فيلم “الحبل” (The Rope) في ثماني لقطات متوالية تدوم كل واحدة منها عشر دقائق، ومثلت نزعة جلية في أفلام الواقعية الإيطالية الجديدة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كما اتجه فيلم “القاهرة 30” لصلاح أبو سيف اتجاها صريحا لاعتماد الكاميرا المتحرّكة واللّقطة الطّويلة التي كثيرا ما تستغرق المشهد كلّه وتغدو لقطة متوالية.
ولكن ظل هذا الاختيار مشروطا بطول بكرة الشريط المغناطيسي المعتمد وقتئذ الذي لا يتجاوز العشرة دقائق تقريبا، ومع ظهور التخزين الرقمي غير المحدود بمدة معينة تمكن “أليكساندر سوكيروف” (Aleksandr Sokurov) على سبيل المثال من أن يجعل فيلم “التابوت الروسي” (l’arche russe) بأسره في لقطة متوالية واحدة.

“خطوة خطوة”.. حضور في عمق الشخصية
الحقّ أن اللقطة المتوالية تظل إلى اليوم اختيارا جماليّا فائق الصعوبة، فاعتمادها يمكن أن يسقط السرد السينمائي في الرتابة خاصة أنّ قطاعا واسعا من الإنتاج السينمائي والتلفزيوني أضحى يعتمد مونتاج القطع الذي لا تزيد مدته عن 15 ثانية وفرض تجارب ذائعة تشكل الذائقة العامة.
وعليه فقد اجتهد المخرج “سام مينديز” كثيرا في خلق وجوه من التفاعل بين حركة الممثلين وحركة الكاميرا، وإن أحسن التصرف في المؤثرات الدرامية الناشئة عن حركتهما وتبادلهما للمواقع بين الواجهة والقطاع الأوسط والخلفية.
ففي لحظات الخطر كانت الكاميرا تبتعد عن الممثل بمقدار لترصد لنا لقطة متوسطة تفرض علينا قراءة حركية للصورة، وتجعلنا نشد الأنفاس تطلعا لما سيحدث، ثم تقترب من وجه الممثّل لتلتقط المؤثر أوان انتشاره على وجهه، فيدفعنا دفعا إلى قراءة الصورة قراءة وجدانية وينتزع منا تعاطفنا مع الشابين انتزاعا.
وجدير بنا أن نشير إلى أنّ الفيلم يمنح الانطباع بأنه صوّر في لقطة متوالية، وأنه في حقيقة الأمر لا يعدو أن يكون لقطات طويلة جرى صهرها بعناية فائقة لتوهمنا بأن الفيلم صور في عملية تسجيل واحدة من بدايته إلى نهايته ولمدة ساعتين تقريبا.
فقد اعتمد فريق الإنتاج على آخر الابتكارات التقنية وعلى الحيل الفنية للمونتاج للإيهام بهذا الانطباع، وأمكن له بالنتيجة أن يجعل المتفرّج قريبا من الأحداث، وقريبا من حالات الشخصيتين الروحية والنفسية وهما يواجهان الموت في حرب لا يجدان لها من معنى.
يقول المخرج: لقد أردت أن أتبع هذين الرجلين خطوة بخطوة، لأتنفس معهما الهواء الذي يستنشقانه.
معركة الخنادق.. مزج التاريخ بالخيال السينمائي
يصدر المخرج “سام” -وفق تصريحاته-عن أصداء ضبابية في ذاكرته لحكاية عن هذه الحرب كان جده “ألفريد منديس” (Alfred Mendes) -البرتغالي المحارب في صفوف الجيش البريطاني- قد رواها له، ومدارها على رسالة هامة يجب أن تسلّم في أقرب وقت.
منح المخرج القصة سحر السينما ليستدعي من التاريخ معركة “فلاندور” التي دارت صيف 1917 قرب المنطقة الفلمنكية في بلجيكا، ويشار إليها أيضا بمعركة أيبرس الثالثة (Ypres)، فقد حققت القوات البريطانية نجاحا معتبرا في معركة مسين الثانية (Messines) الواقعة في المنطقة نفسها بداية صيف1917 ضد الجيش الألماني، مما جعل قادتها يفكرون في اختراق أهم قبل بداية موسم الأمطار والأوحال للحد من الخسائر التي أضحت تكلفها القوات الألمانية للاقتصاد البريطاني.
اختار البريطانيون إقليم أيبرس ميدانا للمعركة، على أن يكون الهجوم سريعا وخاطفا، ولكنها اصطدمت بعوائق مناخية غير متوقعة، فقد هطلت أمطار غزيرة أثقلت حركة الجيش ليتحول الهجوم الخاطف إلى معركة استمرت نصف سنة تقريبا.
وقد خاض الجيش البريطاني هذه الحرب مدعوما بطلائع من الجيشين الفرنسي والكندي ضد الجيش الألماني، ولأن المنطقة منبسطة فقد كان على الجنود في الطرفين إفناء الجهد في حفر الخنادق لتوفير التحصينات الضرورية، ومن ثم سميت بحرب الخنادق.
حكايات الريف الفرنسي.. لحظات الهدوء الذي يسبق العاصفة
يستدعي المخرج من التاريخ إذن هذه التفاصيل لينزل ضمنها مغامرة الشابين وليجعلها خلفية لها، فلا تكون غير ذريعة لخلق حكاية مؤثرة، ويختار يوم 6 من إبريل/نيسان 1917 منطلقا لها، فيجعلها ذات بناء ثلاثي، أوله افتتاح بالبداية الهادئة.
ترصد الكاميرا حقول الأزهار الشاسعة الساحرة، وتجعلنا نتطلع إلى حكاية عاطفية من حكايات الريف الفرنسي، ولكنها تتحرك بعدئذ لتعرض تكليف الجنديين بالمهمة، ثم تنطلق رحلة المخاطر التي لا تنتهي إلا بتسليم الرسالة إلى قائد الكتيبة في اللحظات الأخيرة من الفيلم.
وقد اختار “سام منديز” البداية والنهاية بهذا القصر حتى يوسّع فصل الوسط ما أمكن وحتى يأخذ المتفرّج نحو أقصى قدر من الإثارة، فالرحلة تمر عبر الخنادق والطرقات المزرعة بالألغام والكمائن والأوحال التي تعيق العربات والجسور المدمرة، وبين فلول القوات الألمانية في القرية المدمرة.
لحظات “بليك” الأخيرة.. وتيرة أحداث متسارعة
يجد المتفرج نفسه أمام سيناريو فيلم مغامرة كلاسيكي من تلك الأفلام التي تُشَبه عادة بسباق الحواجز، فيكون الصراع الدرامي عتيدا وتكون المعوقات عناصر مادية خارجية، وكلما تجاوز البطل أحدها اصدم بآخر، وحتى يزود المخرج بطليه بالحماسة الضرورية لمواصلة الرحلة الشاقة يخلق لهما الحوافز النفسية.
صحيح أنّ “بليك” يعمل على إنقاذ كتيبة كاملة من الهلاك المؤكد، وهذا مبرر كاف ليجدّ في تنفيذ المهمة، ولكن ما يجعل حماسته مضاعفة هو وجود شقيقه الأكبر “جوزيف” بين أفراد الكتيبة المهددة، وفي مواقع الألمان ينقذ زميله بشجاعة من موت محقق ويخرجه من بين الأنقاض، وهذا ما يجعل “سكوفيلد” مدينا له، ويجعل مهمته تحديا شخصيا له بعد أن لقي “بليك” حتفه، فيعمل على الوصول إلى الكتيبة أولا وعلى إبلاغ رسالة زميله إلى أمه لاحقا.
تتطور الأحداث ضمن هذا البناء المنطقي وتتجه نحو الغاية القصوى، وتتحرك الكاميرا وفق تأطير تغلب عليه الحركة المتوسطة التي تضع الجسد في تحد ضمن الفضاء الخارجي عليه أن يتجاوزه، وفضلا عن هذا الاختيار الرئيسي كثيرا ما عمل الفيلم على توليد الهزل من خلال حكايات “بليك” الطريفة ودعاباته شأن قصة الجندي الذي قضم الجرذ أذنه.
كما عمل كثيرا على توليد المؤثر العاطفي عبر حكايات فرعية تمنح للحكاية الأم أهميتها الخاصة، من ذلك لحظات احتضار “بليك” وهو يوصي “سكوفيلد” بتبليغ رسالته إلى أمه، أو لقاء “سكوفيلد” لاحقا بالمرأة الشابة التي تقضي ليلها في العراء مع رضيعها الجائع وتنازله لها عما أصاب من حليب في المزرعة المهجورة.

“عندما تكون الحرب عرضا”.. تكريس صورة البطل الفذ
تعد أفلام الحرب نمطا أثيرا للسينما الأمريكية خصوصا، فهي تمنح المخرجين كل المنكهات التي يبحثون عنها لاستقطاب الجمهور المتطلع للإثارة؛ من المواجهات الضارية التي يتخذ فيها الصراع بعدا جسديا مباشرا، ومن المشهدية التي تغني المتفرّج عن هذر الحوارات، ومن العروض التي تعتمد أحدث المؤثرات والخدع السينمائية لتسحر الجمهور المتعطش للحكايات المدهشة، أوليست الحرب عرضا بصريا مدهشا بدورها؟
وحين تتقاطع الحرب بالسينما فلا بد إذن – كما يقول “نوربار مولتو” في أثره “عندما تكون الحرب عرضا”- أن تصدر طلقات نار حقيقيّة في القاعات حتى يقترب المتفرجون من الشعور بالرعب الذي تولّده الحرب، وغالبا ما تحب السينما الحرب، وحينما تفتقر الصّناعة السينمائيّة إلى المواضيع الجيّدة فإنها تعود دائما إليها.
ومما تَكرّس من بلاغة هذا النمط السينمائي صورة البطل الفذّ الذي يبلي البلاء الحسن في المبارزات الثّنائيّة وروح الجماعة المتضامنة والمتكافلة والمؤمنة بوحدة المصير، ولكن صورة الحرب في “1917” شأن آخر.
صحيح أن البطلين كليهما أبليا البلاء الحسن، وصحيح أن “سكوفيلد” يواجه في المدينة المدمرة فلول القوات الألمانية وحيدا ويضطر إلى استخدام مهارته القصوى في القنص، ويخوض المعارك الثنائية الضارية، ولكن لا تستدعى الحرب هنا إلاّ لإدانة الحرب ذاتها، فلا نجد لدى الشابين إيمانا بعدالة هذه المعارك أو باستعدادهما التلقائي للتضحية في سبيل الأمة، فـ”بليك” اختار هذه الكتيبة بدل الانضمام إلى الكنيسة بحثا عن حظ أوفر من الطعام ليسد رمقه.
أما “سكوفيلد” فلم يتردد في مقايضة ميدالية الشرف العسكري التي منحت له بقنينة نبيذ تطفئ عطشه، ولم يتردد الجنديان في التعبير عن الانبهار في حياد عاطفي بالقدرات الخارقة للعدو الألماني من خلال شدة تحصين الخنادق التي تركها خلفه، فحتى الجرذان التي تعيش في الأقبية والمواسير أكبر حجما من تلك التي توجد في أقبية جيوش الحلفاء.
وبالموازاة لم تتردد كاميرا “سام منديس” في حشد التعاطف مع الجندي الألماني المنسحب مع الكتيبة الألمانية مخلفا صورة حبيبته من خلفه، ربما لم يسعفه الوقت لالتقاطها، فالكاميرا تعلمنا بأننا في زمن الحرب لا نجد متسعا للحب مهما كان الطرف الذي ننتمي إليه، أو لعلها تخبرنا أنّ الحرب والحب خطان متوازيان لا يمكنهما الالتقاء من وجهة نظر المخرج على الأقل.
“اتبعا رائحة الجثث المتعفنة”.. فضاء الحرب الآسن
ليست الحرب في الفيلم مهارات في القتال أو قضايا عادلة أو مشاهد آسرة، وليست شيئا من معاني البطولة والفداء للوطن التي كرستها السينما في فترة الحرب الباردة خاصة، إنها أشجار الكرز المقتلعة والبيوت المهدمة وجثث الخيول المتحللة والأبقار المقتولة على قارعة الطريق.
والحرب أيضا هي الأم التي تقضي ليلها في العراء حيث لا طعام يمكن أن تقدمه لرضيعها، ورجال عالقون في الأوحال وجثث عالقة على الأسلاك الشائكة أو طافحة على مياه الأنهار تعلوها الغربان، وهي مسار في خنادق الطين التي لا نهاية لها وضياع في المكان والزمان بحيث لا يعرف الجندي في أي يوم هو من الأسبوع ولا في أي بقعة من الأرض.
يقول نقيب للشابين وهما يقدمان على المهمة: “إذا أضعتما الطريق فاتبعا رائحة الجثث المتعفنة، فستأخذكما إلى حيث تتجهان”، لمن هذه المواشي المقتولة، ما هوية هؤلاء الجنود الملقون على قارعة الطريق؟ هذه أسئلة لا تعني المخرج كثيرا، فحسبه أن يختزل الحرب في الدمار والقتل الأعمى والجوع والألم، وحسبه أن يجعل الكاميرا عين المتفرّج وهي تلاحق الشابين عبر اللقطة المتوالية لتلتقط وجوها من الوحشية الكامنة في الإنسان أيا كان المعسكر الذي ينتمي إليه.

انتصار المخرج للإنسان.. نظرة سطحية لإشكالات أعمق
لقد اعتمد الفيلم اللقطة المتوالية كما أسلفنا، فكان المخرج ينقل الكاميرا في الفضاء ليلتقط مشهدا متحركا واحدا من بداية الفيلم إلى نهايته، وعبره كان ينقل المتفرّج، الذي يتقاطع إبصاره مع عدسة الكاميرا، عبر الخنادق فيتح عينيه على فظاعات الحرب وأهوالها.
ومن خلالها كان ينزل رؤيته ضمن فلسفة تنتصر للحياة والسلم والبعد الإنساني من الإنسان، فبطريقة فطرية يعمل “بليك” على إنقاذ الطيار الألماني الذي يحترق إثر سقوط طائرته، وعلى النحو نفسه يطعم “سكوفيلد” الرضيع الجائع ويحنو عليه، وهذا كله من النوايا الجيدة والمعاني المحمودة.
لكن الفيلم لم يخل من الرومانسية الساذجة، فهل يكفي أن ندين الحرب عامة، وهل كل إلقاء للسلاح سلام، أليس صمت البنادق في الأراضي المغتصبة استسلاما وتأييدا لوضع القهر والاغتصاب، هل طرح الفيلم أسباب الحرب العالمية وأسئلتها العميقة المتمثلة في الصراع الأوروبي على الامتيازات والتنازع على المستعمرات الضعيفة للاستيلاء على ثرواتها، وهل أدان الجشع الرأسمالي وامتهانه لشعوب دول الجنوب؟
لقد صور الجندي الهندي ضمن الكتيبة البريطانية، فهل تساءل عن أي وطن وأي قضية يدافع هذا الهندي المجند قسرا؟ طبعا ليس مطلوبا من الفيلم حل قضايا العالم، فهو يظل رؤية فنية تتناول الحرب من زاوية محددة أو قصة مسلية عند البعض في نهاية المطاف، ولكن ليس مسموحا له أن يختزل فظاعة الحرب العالمية الأولى في القتلى الأوروبيين الذين يموتون دون مبرر.
كما ليس مسموحا له أن يطرح رؤية غربية متعالية تعتقد أن العالم يبدأ من القارة العجوز وينتهي عندها، وأن قضايا الكون تزول بحل قضايا هذا الأوروبي الذي تورط في حرب عبثية، فبقدر ما كانت الصورة مبتكرة فقد اكتفت على مستوى مضمونها الفكري بالسطحية، ولم تستطع النفاذ إلى القضايا الأعقد التي تطرحها تلك الحرب.