“تلاشي”.. كوميديا في مأساة ممثل يوشك على العمى

أجمل القصص والحكايات الإنسانية هي تلك التي تعتصر الألم داخلنا، إذ تهز مشاعرنا وتنقلنا لتجربة نتماهى مع تفاصيلها حتى النهاية، وكأننا نهوى العذابات ولذتها.
هذا الفيلم الذي تبثه الجزيرة الوثائقية تحت عنوان “تلاشي” يتحدث عن عمّار لطيفي، وهو ممثل وراقص تونسي من منطقة سيدي بوزيد يترك الأرض والفلاحة قبل موسم الحصاد، ويذهب إلى العاصمة للبحث عن فضاء للتمارين من أجل التحضير لعرضه المسرحي الراقص الجديد.
من خلال معايشتنا لعمّار يكشف لنا عن إصابته بمرض فقدان البصر الجزئي، وأنه في طريقه إلى العمى الكامل، ليقرر محاربته بالكوميديا السوداء وفنه الساخر.
فضاء كارمان باب العسل.. كوميديا مسرحية ساخرة
تتعرض مشاهد الفيلم لبطل القصة عمار، لتبحر في معاناته والاختبار القاسي الذي يتعرض له، إذ ليس من المتوقع أن يصمد المرء أمامه، فمن الصعب أن تفقد عزيزا، فكيف إذا كان هذا العزيز رفيق حياتك الذي أبصرت به الدنيا ونافذتك على العالم.
إنها حكاية تراجيديا يصور فيها المخرج والممثل المسرحي نور عينيه وهو يتلاشى رويدا رويدا، فقد أصيب بمرض في عينيه يسمى “التلاشي”، وبدأ بفقد بصره حتى أصبح لا يرى إلا اليسير، وفي حالة واحدة إذا مال برأسه للأسفل.

لقد أصيب مركز العين عند عمار وكان الضرر بالغا فعانى كثيرا مما ألم به، وكانت مشكلته الأخرى مع الترحال الطبي والأطباء، وقد جاب تونس من شرقها إلى غربها بحثا عن طبيب دون جدوى، وبعدها قرر تحويل مأساته إلى عمل مسرحي موندرامي كجزء من خطة العلاج، يتحدث فيه عن مشكلته الشخصية ورحلته مع المرض في فضاء كارمان باب العسل.
بدأ عرض عمار الساعة السابعة، فوقف على المسرح ساخرا يتحدث عن طبيب العيون كمون الذي يعالج مشاكل العيون، وشرع يتحدث عن تفاصيل صغيرة مضحكة، وكيف يكتب اسمه على لافتة صغيرة جدا ويتحدث عن زواره من مرضى العيون، ويتفاعل الجمهور مع عمار ويتأثرون بمسرحيته “تلاشي” إلى حد البكاء، ويلاقي عرضه استحسانا كبيرا.
في داخل عمار صراعات وأفكار متناقضة تهدأ وترتفع وتيرتها مدا وجزرا كالموج، فعلى الرغم من معاناته وحرصه على العلاج، فإنك تراه يظهر إعجابه بفاقدي البصر وكيف يتمتع الكثير منهم بشخصية قوية، ويرى نفسه مهيأ ليفقد بصره بالكامل، حتى أن هذه الفكرة غدت تروق له، ففي صغره كان معجبا بأبي العلاء المعري وطه حسين.
صُنع في تونس.. قطرات دواء ودفعة أمل روحاني
يزور عمار طبيبا جديدا هذه المرة، وقد أعاد له هذا الطبيب الأمل من جديد وكان نقطة تحول في حياته، إذ أخبره أنه سيعطيه دواء جديدا مصنّعا في تونس وحاصلا على براءات اختراع من أوروبا والولايات المتحدة واليابان، وهو عبارة عن ثلاث قطرات يأخذها ثلاث مرات على مدار اليوم على أن يعود إليه بعد أسبوع.
يدور حوار بينه وبين الطبيب، فيقول الطبيب له لا تنتظر المعجزات لكن نأمل أن يحدث تحسن، قد يكون الدواء جيدا لكن هذا يعتمد على تطور الجينات، فالذين يعانون من مرض التلاشي لديهم جينات وراثية معطوبة، ويمكن تعويض ذلك بجين سليم، لكن الانتظار سيد الأحكام.

يرد عليه عمار بأن الأطباء لا يقدمون الحلول، وأنهم عاجزون أمام مرضه ويدعونه دوما للصبر، فيذكره الطبيب ويحدثه عن رجوع الإنسان للدين ليشعر بالروحانية التي توصله للرضا والسعادة، تماما كالفنان الذي يرسم لوحة وحين يتأملها ترتفع روحانيته فيحس بالسعادة، كذلك هم الأطباء عندما يقومون بمغامرة بحثية يصلون إلى تلك النشوة والسعادة والرضى.
هذا الحديث من الطبيب أسعد عمار كثيرا، فشعر بالفرحة تتسرب إلى نفسه المتألمة، فرفعت الغم عن قلبه وأعطته دفعة من الأمل ليكمل رحلته في العلاج.
خرافة الجدات.. رحلة إلى موطن الآباء في الريف
يقرر عمار أن يعود إلى مسقط رأسه في الريف، تدور الأفكار في مخيلته ويحدث نفسه لعل ما أصابه كان بسبب تلك الجدران المؤصدة في المدينة التي تحجب الرؤية وتحجز البصر في أماكن ضيقة، وهو ابن الريف الفسيح المترامي الأبعاد بخضرته وهوائه العليل.
يتذكر جدته وكله شوق لرؤيتها ورائحتها وكلماتها وعينيها اللتين تشعرانه بالأمان والحنان، يتحرك في داخله الطفل الذي يحتاج إلى حضنها الدافئ وقربها المؤنس، يريد أن يخبرها بالتطورات الأخيرة لتشاركه فرحته، وعندما يصل إلى قريته يلتقي بجدته فتستقبله بترحاب وحب.

إنها سيدة مسنة أثقلتها السنون، ترى حنان الأرض يتجسد في محياها، تغمره بحب وتشمه وتتحسسه، تسأله عن سبب شحوبه وارتباكه وكدره، ولماذا لم يحلق لحيته؟
تغالبها الدموع لكنه يخبرها بما قاله الطبيب، فتناديه يا فرحتي وتدعو له بالشفاء، ثم تقول له إنك طيب يا عمار، وسيشفيك الله.
يسألها عمار هل بين أفراد العائلة من أحد مصاب بهذا المرض فتنفي الجدة ذلك، لكنها تخبره عن جد جدها الذي صاد ظبيا ففقد بصره، وهذه واحدة من الخرافات التي تؤمن بها الجدات، إذ تقول الخرافة إن من اصطاد ظبيا فإنه يفقد بصره، يحدث عمار نفسه ساخرا أنه لم ير ظبيا في حياته، ثم تخبره جدته أن جده الحاج العباسي من نسل عثمان بن عفان بعد 13 جدا وأنهم من سلالة طيبة.
“تلاشي” في ألمانيا.. بداية شروق نفسي وصحي
ذهب عمار للريف ليحظى برحلة روحية في فضاءاته المفتوحة، فمارس الرعي والتأمل، ثم ذهب لزيارة مقام الشيخ سيدي تليل، وهناك كعادتهم في الأرياف قرأ الفاتحة وطلب العون من الله وأن يكرمه ويشفيه، وبعد هذه الرحلة عاد إلى صخب المدينة، حيث أخبره صديقه أحمد الذي يساعده في التنقل وإدارة عمله أنه تلقى عرضا من ألمانيا ليقدم عرضه المسرحي تلاشي.

سافر عمار إلى ألمانيا وقدم عرضه المسرحي وتفاعل الجمهور مع عرضه وأحبوه، وهناك في ألمانيا أخبره صديقه أحمد أنه حصل على موعد من طبيب ألماني في برلين لتلقي العلاج، لكن عمار رفض الذهاب، وقد حاول صديقه حمزة إقناعه أن يقابل ذلك الطبيب لكن دون جدوى، فقد قرر أن يكمل مع طبيبه التونسي.
بعد أشهر من تصوير الفيلم واصل عمار العلاج مع نفس الطبيب التونسي، وأصبحت حالته النفسية والصحية في تحسن مستمر.