“الخندق الأبدي”.. أنت سجين وإن بنيت سجنك بيديك

منذ النصف الثاني من ثلاثينيات القرن الماضي وأوروبا تضطرم بداخلها نار لا تهدأ، وبوادر حرب عظمى جديدة يتطاير شررها، وقد اندلعت في هذه الأجواء المشتعلة الحرب الأهلية الإسبانية بعد الانقلاب الذي قامت به قوات الجيش ضد الجمهورية الثانية التي يقودها الاشتراكيون.

استمرت هذه الحرب بين اليساريين من جهة والقوميين بقيادة الجنرال “فرانثيسكو فرانكو” من جهة أخرى حتى عام 1939، لتدخل إسبانيا عصر الديكتاتورية من أوسع أبوابها بعد سيطرة “فرانكو” على الحكم وبداية عهد جديد شعاره القبضة الحديدية؛ لا يُسمع فيه صوت سوى صرخات المُعذبين التي وئدت مُبكرا، فلا أذن تصغي ولا عقل يحكم.

ينطلق الفيلم الإسباني “الخندق الأبدي” (La Trinchera Infinita) من هذه الخلفية التاريخية، وقد عرض في مهرجان سان سباستيان السينمائي الدولي عام 2019، وحصد ست جوائز منها جائزة أفضل إخراج، وقد كتب السيناريو “لويس برديغو” وأخرجه ثلاثة مخرجين هم: “آيتور أريخي” و”جون غارانيو” و”خوسيه ماري غوناغا” الذي اشترك أيضا في كتابة السيناريو.

قدم مضمون الفيلم رؤية مزدوجة ذات شقين، يرصد الشق الأول منهما الجانب التاريخي لما تعرض له المعارضون السياسيون أثناء فترة حكم “فرانكو” الشمولي، بينما يبحث الشق الثاني بشكل أوسع وأعمق في عدة أفكار تتشابك مع عقل المتفرج وتدفعه للتأمل والتفكير وطرح الأسئلة، مثل هل يُمكن للإنسان أن يدفع ثمن خياراته وقناعاته حتى وإن كانت هذه القناعات ستكلفه حياته، وكيف يؤدي القهر والكبت وسنوات السجن الطويلة إلى تغيير شخصية الفرد وتحويلها من النقيض إلى النقيض؟

 

“إيجينيو” (الممثل أنتونيو دي لا توري) مناضل سياسي اشتراكي يهرب من مطاردة قوات “فرانكو” خوفا من القتل، ويلجأ إلى حفر خندق أسفل منزله، ليمكث فيه مدة ثلاثين عاما خوفا من بطش السلطة، وهكذا تدور أحداث الفيلم حول العلاقة بين الفرد والسلطة من ناحية، وبين المسجون وعلاقته بالمحيطين به من ناحية أخرى.

استيقاظ على قرع الباب.. فرار من الاعتقال إلى خندق المنزل

يبدأ الفيلم بمشهد نرى فيه “إيجينيو” يستيقظ فجأة من نومه على صوت دهم رجال الشرطة لمسكنه بحثا عنه وعن رفاقه من المناضلين الاشتراكيين لنجد أن السيناريو يُدخلنا مُباشرة في قلب الأحداث دون تمهيد، ونُتابع عملية هروب “إيجينيو” حتى الإمساك به وفراره مُجددا، ومن ثم العودة مُتخفيا للمنزل واختبائه داخل حفرته التي صنعها خشية القبض عليه.

فقد جعل السيناريو الأحداث تدور بين عالمين يتضاد كل منهما مع الآخر، وهما عالم الحرية المفقودة التي يسعى إليها البطل، وعالم القهر الذي يحيط به ويقبض على روحه، فيتقاطع العالمان معا مما يدفع الأحداث للأمام في تصاعد تدريجي يحوي من الإثارة قدر ما يدفع للتأمل والتفكير، ويُبرز قوة بناء السيناريو وتماسكه وقدرته على التعبير عن أفكاره المتعددة بسلاسة وإحكام.

فالعالم الأول هو عالم الحرية التي يتوق إليها “إيجينيو” ويسعى لمذاقها والاستئثار بها، لكن هل سيقتنصها؟ هذا ما يتكشف أمامنا، فيرى زوجته تحتفظ بحياتها وحريتها، وتستمر الحياة بشكل طبيعي إلى حد ما، لذا فبحث “إيجينيو” عن الحرية دائم ومتواصل، صحيح أنه بحث ساكن، أي أنه يبحث عنها بداخل روحه، لكنه بحث مُضنٍ يسعى للحفاظ على روحه من البوار والتكلس.

المناضل السياسي الاشتراكي “إيجينيو” يهرب من مطاردة قوات “فرانكو” خوفا من القتل

بعد أن يصل “إيجينيو” إلى منزله يقبع بداخل حفرته، وفي نفس الوقت يطلب من زوجته أن تتدبر أمر هروبهما إلى البرتغال، لكن هذه الفرصة تبوء بالفشل بعد القبض على المهرِّب، وفي مشهد آخر نراه وهو يحفر حفرة جديدة أسفل خندقه، وحينما تسأله زوجته عن السبب يُخبرها بتلقائية أنه سيجعلها بستانا، فبحثه عن الحرية دائم لا يتوقف عند حد معين حتى وإن كان هذا البحث بداخله فقط.

أما العالم الآخر فهو عالم القهر حيث يقبع “إيجينيو” بداخل خندقه ثلاثين عاما بإيعاز من زوجته هربا من التنكيل به، فيُنشئ عالما موازيا وحياة كاملة كمرادف للحياة الطبيعية التي يفتقدها، فنُتابع رحلة حياته وهي تتلاشى شيئا فشيئا داخل قبو لا تتعدى مساحته ثلاثة أمتار، فلا يلاحقه سوى الكبت والقهر.

إنه يعيش في الأسفل بينما ترفرف الحرية في الأعلى، الحرية التي يراها بعين تواقة، بينما حريته الداخلية تتناقص على حساب قهره الذي ينمو باطراد مخيف، مما يجعله يسقط في فخ الكوابيس والأحلام التي تطارده ليلا، ورغم ثقلها على نفسه إلا أنها تؤنس روحه وتجعل إحساسه بذاته يتعالى في سمو، وكأنه يواجه إحساسه بالقهر والظلم الذي يُعاني منه.

انتظار تبدد الديكتاتورية.. خوف داخلي يستنفد الروح

بعد مضي ثلاث سنوات على وجود “إيجينيو” داخل قبوه المظلم يقترح على والده أن ينتقل للإقامة في منزله بعد أن يحفر هو الآخر قبوا جديدا له وراء خزانة الطعام، لينتقل بعدها إلى مكانه الجديد الأكثر أمانا، وهو المكان الذي سُيكمل فيه بقية حياته، وتتحول شخصيته تدريجيا بفعل القهر وفترة الحبس الطويلة إلى النقيض.

يبرز السيناريو هذه النقطة بحساسية تُلائم طبيعة الفيلم، ففي البداية ينتظر “إيجينيو” انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ظنا منه أنهم بانتصارهم سيقضون على ديكتاتورية “فرانكو”، لكن لم يكن لانتظاره من جدوى، مما جعل روحه تتواءم مع الوحدة والحبس أكثر، وبالتالي استولي الخوف على نفسه حتى كاد يلتهمها.

رسم السيناريو ملامح الخوف الذي يكبر شيئا فشيئا في داخل “إيجينيو” بحرفية شديدة، وبشكل يجعل المتفرج يشعر بأزمة البطل ويندمج معها، وذلك من خلال رصد التفاصيل الدقيقة التي تعبر عن نفس “إيجينيو”، ففي البدء لا يُطيق حياته بداخل الخندق، وكلما سنحت له الفرصة يُطل برأسه أو يخرج، ومع مرور الوقت تُهيئ له نفسه أنه إذا خطَت قدمه خارج حدود المنزل سيلقى حتفه.

 

وبالتالي تعتاد روح “إيجينيو” على الحبس وتألفه، ويصبح الخروج منه غير مألوف، ففي أحد المشاهد نراه وهو بداخل الخندق يصل إلى أذنيه صوت امرأته وهي تستغيث من محاولة الاعتداء عليها من قبل أحد الحراس المدنيين، لكنه يبقى أسير الداخل خشية أن يُكتشف أمره، لنجد أن الخوف بلغ مداه لدرجة أنه يخشى مقاومته للدفاع عن شرفه.

ومن هنا تتضح أكثر فأكثر سمات الصراع الدرامي، فالصراع داخلي أكثر من كونه خارجيا، أي أنه يعتمل داخل النفس الإنسانية أولا ثم يعبر عنه خارجيا، وهذا الصراع مع الخوف الداخلي لا يقوى “إيجينيو” على دفعه ولا يقدر على الانتصار عليه، وكل ما يفعله هو محاولة التوافق معه، وخلق بيئة داخلية ينمو فيها بأمان.

13 فصلا.. ربط محكم لحلقات السيناريو المتناقضة

قام السيناريو بتقسيم الأحداث إلى عدة فصول تمتد إلى حوالي 13 فصلا لكل فصل اسم ما يلحق به تعريفه ومعناه، وكأنه يُهيئ المتفرج لما سيجري أمامه من أحداث، ويزيد من جرعة الترقب في نفس الوقت، وعلى مدار السرد المتصل تتلاحق الأحداث أمامنا لتكشف تدريجيا عن التطورات الطارئة داخل نفس الشخصيات.

روسا تعاتب زوجها إيجينيو على خوفه من الخروج من الخندق الذي بقي فيه 30 عاما

ففي البداية نرى اهتمام الزوجة “روسا” (الممثلة بيلين كويستا) المفرط بزوجها وسعيها الدائم لحمايته دون النظر إلى حجم التضحية، فنراها في أحد المشاهد بعد عودتها من الاعتقال تحمل آثار التعذيب على جسدها ووجهها، لكن الأشياء لا تبقى على حالها دائما، فالتغير سمة طبيعية، لذا نجد أن علاقتهما تتطور وتأخذ منحى متغيرا تماما يكاد يصل لحد الجفاء رغم دفء علاقتهما، وهنا يتجلى إبداع السيناريو في التعبير عن معاناة المحيطين بالسجين، فينتقل بين مشاعرهم وأحاسيسهم، ودعمهم غير المحدود وإصابتهم بالملل أيضا، فالطبيعة الإنسانية تحوي بداخلها النقيضين؛ الحب والكره.

نسج السيناريو في رهافة تطور العلاقة بين الزوجين، حيث التأرجح بين الحب والاهتمام الزائد من ناحية والكره والملل الذي أصاب علاقتهما من ناحية أخرى، فكل منهما أصابه الملل من الآخر، فالزوجة أصبحت لا تطيق وجود الزوج داخل خندقه، فقد اعتراها الملل من الكذب على الجيران بشأن وجوده، كما أن حريتها هي الأخرى أصبحت مُقيدة.

“سئمت من الحياة بهذه الطريقة”.. علاقة زوجية متأرجحة

نرى “روسا” في أحد المشاهد وهي تُخبر “إيجينيو” بأنها ترغب في القيام برحلة إلى الساحل لرؤية البحر، لنجده يُخبرها بعفوية بأن هذه الرحلة كان من المقرر القيام بها كهدية زواج لها، كما أنه لا يستطيع البقاء وحيدا،  لترد عليه بفظاظة بأنه سجين خندقه منذ ما يقرب من 20 عاما دون تغير، فكل ما يعنيها هو حريتها وحياتها التي ترغب في استكمالها بشكل طبيعي دون أي معوقات.

 

وبالتالي تطرق السيناريو لصفة الأنانية التي استشرت في علاقتهما، والمسؤول الأول عنها هو الخوف، الخوف من اكتشاف مخبأ “إيجينيو”، فقد تحول خوفه إلى خوف مرضي أشبه بالهوس، إذ يخشى حتى من طرقات الباب، مما يجعله يُصاب بالشك فيشك في سلوك زوجته خشية أن تُفصح عن مكانه حيث يقبع في خندقه دون أن يشعر به أحد.

على الناحية الأخرى نجد زوجته لا يعنيها من أمر خوفه شيء، ففي أحد المشاهد نراها وهي تصرخ في وجهه قائلة: “سئمت من العيش بهذه الطريقة… سئمت من الكذب على الجميع في الشارع”، فكل منهما لا يعنيه سوى ذاته المعذبة التي تغرد في سرب منفصل عن الآخر.

“ما هو إلا جنون عارم”.. ميزان عادل لطرفي الصراع

رغم أن الفيلم ينحاز إلى جانب الاشتراكيين الإسبان، ويسعى لتقديم صورة دقيقة لما حدث في تلك الفترة فإنه قدم كشف حساب لطرفي الصراع، من خلال رؤية كل منهما لذاته، خاصة بعد مرور سنوات طويلة مما يجعل قراءة الأحداث من منظور تاريخي أعمق وأكثر سبرا لأغوار الماضي.

ففي أحد المشاهد نرى “إيجينيو” وهو مختبئ في البئر مع رفاقه من الثوريين يُخبرهم بأنه ضد أعمال العنف والحرائق التي وقعت بمعرفة الاشتراكيين، وفي نفس الوقت يقول لهم إن ما يحدث من فرانكو “ما هو إلا جنون عارم”، فكلا الطرفين يتأرجحان بين الصواب والخطأ، ولكل منهما أفعاله الجيدة والسيئة، وهذه النقطة تتجلى أكثر في المشهد الذي يجمع بين “إيجينيو” وزوجته “روسا” أثناء مشاهدة خطاب “فرانكو” في التلفاز بعد مرور سنوات طويلة على الحرب حيث ينظر “إيجينيو” إلى “فرانكو” بانتباه شديد.

صورة تجمع المخرجين الثلاثة “آيتور أريخي” و”جون غارانيو” و”خوسيه ماري غوناغا” في مهرجان سان سباستيان السينمائي عام 2019

يبدو “إيجينيو” وكأنه لا يشعر بالتقدير الكافي عن تضحيته التي بذلها على مدار السنوات من أجل بلاده، ففي أحد المشاهد التي تربط بين الواقعي والمتخيل نراه يحلم أثناء نومه بأحد الضباط يقول له إنه يقدر ما فعله من أجل بلاده، لتنهمر دموع “إيجينيو” تأثرا.

بينما يخبر صديق ابنه في مشهد آخر أن يتخلى عن السياسة ويتزوج وينجب، فرؤيته لذاته أنه أضاع عمره دون جدوى، وحياته التي قدمها هدية لوطنه ينظر لها بعد مرور سنوات على أنها لا شيء، لتتضح العلاقة بين الفرد والسلطة أكثر، فالفرد يُقدم نفسه وروحه، وأما السلطة الديكتاتورية في إسبانيا فلا ترغب إلا بالمزيد من التضحية في سلسلة طويلة لا تنتهي.

ثلاثية الإخراج.. تعدد الأضواء لا يفسد الحفل

تعاون في إخراج الفيلم ثلاثة مخرجين: “آيتور أريخي” و”جون غارانيو” و”خوسيه ماري غوناغا”، ورغم ذلك لا يشعر المتفرج بالتشتت أو غياب الرؤية الإخراجية وتعدد منابعها، بل على العكس من ذلك بدا الفيلم ذا وحدة موضوعية واحدة.

كما تميزت النواحي الفنية سواء على مستوى الصوت أو الصورة، فأغلب مشاهد الفيلم تدور في مكان واحد، وهو منزل “إيجينيو” وخندقه، وقد عبر عن الأزمات التي تمر على الزوجة تحديدا صوتيا أكثر منه بصريا مثل مشهد الشجار بين الجار المتطفل “غونثالو” و”روسا”، أو لحظة القبض على الزوجة وغير ذلك من المشاهد.

 

نتابع هذه المشاهد من وجهة نظر “إيجينيو” حيث تلتقط الكاميرا في زوايا مقربة تعبيرات وجهه وهو ينصت لما يجري حوله، وبشكل يحفز خيال المتفرج أكثر وأكثر لتبدو الصورة والإضاءة الخافتة ثرية ومتأثرة بأعمال الفنانين التشكيليين في القرن السابع عشرة مثل لوحات الفنان الهولندي رامبرانت.

لحظة صدور العفو العام.. أداء بطولي معبر

يصدر “فرانكو” بعد مرور أكثر من ثلاثين عاما قرارا بالعفو العام عن جميع المناضلين السياسيين، ويقف “إيجينيو” أمام باب المنزل برفقة زوجته “روسا” وهو يخشى الخروج، فقدماه لم تتعودا على السير في الشوارع، وروحه اعتادت الحبس ودأبت عليه، فيتحرك جسده بخوف في أداء أقل ما يوصف بأنه كان رائعا من كل من “أنتونيو دي لا توري” في دور “إيجينيو” و”بيلين كويستا” في دور “روسا”، فقد كان مُعبرا عن جوهر وروح شخصيتيهما.

تصطدم عيناه لأول مرة منذ سنوات بضوء الشمس، ويتذوق أخيرا طعم الحرية بعد سنوات من فقدان الشهية في الخندق الأبدي، ليبدو الفيلم تحفة سينمائية ليس لكونه مهموما فقط بتناول الأحداث من زاوية تاريخية ضيقة، ولكن لأنه يتسع ويقدم رؤية إنسانية عميقة في أسلوب فني بليغ وفريد عن الحرية المفقودة التي يبحث عنها الإنسان وقد لا يعثر عليها.