“حكاية الأصل والصورة”.. زهرة السينما التجريبية التي أهملها الجمهور

الفنان المصري هشام عبد الحميد
لعله من الملفت للانتباه أنه في تاريخ السينما المصرية -رغم زخمها وتنوعها وتباينها- فإن ما يسمى بالفيلم التجريبي يعتبر قليلا أو نادرا، فعلى مدار تاريخ السينما يكاد يطل باستحياء على فننا السابع.
ولكن قبل أن نخوض في التجارب النادرة للسينما التجريبية في مصر علينا أولا أن نتعرف على معنى السينما التجريبية أو السينما الطبيعية، وهناك تعريفات كثيرة منها هذا التعريف:
هي أسلوب في صناعة الأفلام يدمج بين الفنون البصرية والسينما التقليدية، وذلك بهدف اكتشاف الأشكال غير السردية وبدائل الرواية التقليدية، أو أساليب العمل الكلاسيكي.
والتجريب في السينما فن في حد ذاته، وقد ظهر منذ سنه 1920، ولا يتبع قواعد محددة سلفا، وينمو على هامش صناعة السينما، ويتميز في كثير من الأحيان برموزه التعبيرية الخاصة وطرق توزيعها.
“كراسات السينما”.. إرهاصات سينما التجريب
مما لا شك فيه أن جماعات السينما في العالم وبالذات جماعة “كراسات السينما” كانوا قبل انخراطهم بالسينما التجريبية أصحاب أفلام مهمة تركت آثارها الخالدة، فقد كانوا نقادا للسينما الكلاسيكية، وأحدثوا في أفلامهم نقلات نوعية قد تكون إرهاصات لسينما التجريب، ومنهم “جان لوك” و”فرانسوا تريڤو”.
ويقابلهم في سينما المعسكر الشرقي قبل أن ينهار حائط برلين “ميلوش فورمان” قبل أن يهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية ويقدم لنا روائعه كفيلم “طائر فوق عش الوقواق” و”أماديوس” وآخرين أيضا.
أما في إيطاليا فكان “فريدريك فيليني” و”بيير باولو بازوليني” و”برناردو بروتلونشي”، كما ظهر لاحقا “لارس فون تلير” وجماعة الدوجما قبل أن يقدم أفلامه الساحرة كفيلم “راقصة في الظلام”.
كان العالم يفيض في تلك الفترة بموجات فنية وصيحات تجريبية، وبالذات في عام 1968، وما تلاه حيث أشعلت حركة الطلاب وتمردهم في كثير من بلدان العالم، وبالأخص في فرنسا وبريطانيا وألمانيا وحتى في مصر -مع اختلاف الأسباب والتوجهات- خيال الفنانين والمثقفين، وانفجرت الحياة الفنية لتكشف عن الكثير من التجارب.
فقد أخذ التمرد المصحوب بالرؤى السياسية وأفكار الحداثة يتشابك ويصطدم مع الأنظمة السياسية الموجودة، فعلى سبيل المثال استطاع “جان لوك جودار” و”فرنسوا تريڤو” أن يضغطوا على إدارة مهرجان كان سنة 1968، ويوقفوا الدورة ويتسببوا في إلغائها.
“جماعة السينما الجديدة”.. تجارب إنتاج شبابية خارج الصندوق
تكونت عندنا بمصر جماعة تسمى “جماعة السينما الجديدة”، وكانت تضم خيرة الشباب السينمائيين في ذلك الوقت، ومن أعضائها المونتير أحمد متولي، والمخرج علي عبد الخالق، والمخرج محمد راضي وغيرهم.
من أعمال “جماعة السينما الجديدة” فيلم “أغنية على الممر” الذي اضطر فريق العمل فيه لمشاركة مؤسسة السينما بأجورهم نظرا لصعوبة قيامهم بعملية الإنتاج كاملة للفيلم.
وفيلم “أغنية على الممر” من إخراج علي عبد الخالق، وبطولة محمود ياسين ومحمود مرسي وصلاح السعدني وأحمد مرعي، أما فيلم “ظلال على الجانب الآخر” فهو من إخراج الفلسطيني الطموح آنذاك غالب شعث.
نجح فيلم “أغنية على الممر” ولكن ليس كنجاح فيلم “أبي فوق الشجرة” مثلا، أما فيلم “ظلال على الجانب الآخر” وهو عن قصة المبدع محمود دياب فقد واجه تعنتا من الرقابة لدرجة عدم السماح بعرض الفيلم، ولكن هذه الملابسات لها مقال آخر.
مدكور ثابت.. ضريبة الجنون الفني
سنتناول في مقالنا هذا الفيلم التجريبي “حكاية الأصل والصورة” من قصة نجيب محفوظ المسماة “صورة”، والفيلم من إخراج مدكور ثابت، ولعل الجدير بالذكر أن مؤسسة السينما عام 1969 أعطت فرصة لثلاثة من المخرجين الشباب ليقدموا إنتاجهم لأفلام طويلة وهم محمد عبد العزيز وأشرف فهمي ومدكور ثابت.
بمعنى أن ينجزوا ثلاثة أفلام يجمعها عنوان واحد ألا وهو صور ممنوعة، فنجد أن محمد عبد العزيز وأشرف فهمي قدما أعمالا تقليدية، ولكن بطموح فني واضح يمسك بتلابيب العمل ويحقق إلى حد كبير الشعار السائد حينها، أي المتعة والفكر.
بينما جنح مدكور ثابت إلى تقديم عمل تجريبي خالص يجنح بجنون فني إلى تغيير البوصلة بين المتلقي والمنتج الفني، وذلك كمشروع مستقبلي يتحدى الراهن والساكن والتقليدي من الأعمال الفنية.
دفع مدكور بالطبع ثمن تلك التجربة المجنونة والجريئة، حيث اتهمه كثيرون بالتخلف والغباء، وفي نفس الوقت سخط الجمهور على هذا النوع من الأفلام الذي شكل صدمة لذوقه الجمالي، فلم يكن مستعدا وقتها لتقبل هذا النوع من الجنون الفني.
لعل مقولة أديبنا الكبير نجيب محفوظ عند مشاهدته لفيلم “صورة” في عرض خاص -وهو الذي يرفض رؤية أفلامه المحولة من قصصه سينمائيا- واردة في فيلم مدكور ثابت حيث قال عن فيلم: إنه إذا كان فيلم “باب الحديد” ليوسف شاهين لم يفهمه الناس إلا بعد 15 سنة، فإن فيلم مدكور ثابت أمامه على الأقل 30 سنة ليفهمه الناس.
تحققت مقولة نجيب محفوظ، وبالفعل عانى مدكور من الإهمال والإقصاء والتهميش إلى أن تبدل الحال، وجاءت أجيال الإنترنت والكومبيوتر لتعطي هذا الفنان وفيلمه الفريد حقه في التقدير والاحتفاء.
“حكاية الأصل والصورة”.. قتيلة على سفح الهرم
“حكاية الأصل والصورة” عن قصة نجيب محفوظ المسماة صورة” إنتاج 1969، وقد عرض في يوليو/تموز 1971، وهو من بطولة محمود ياسين وشهيرة ومحمود المليجي ووحيد عزت.
يبدأ الفيلم بصورة لفتاة مقتولة تحت سفح الهرم، ويأخذ الخبر عناوين كبيرة بالصفحة الأولى وبجانبه عناوين أصغر توضح الحالة السياسية والعسكرية التي تمر بها البلاد في تلك الفترة، فالفيلم عن حرب الاستنزاف على ضفتي القناة.
تظهر بطلة الفيلم الصحفية التي تبحث عن صحافة الإثارة والخبر السريع، وهي تختلف عن زميلها الصحفي الذي ترتبط معه بقصة حب، فالصحفي أعمق منها في اهتمامه بالصحافة، وهو مهموم بالشأن العام وبالظرف السياسي والاجتماعي الذي تمر به البلاد، ذلك الظرف الذي لم يعد يشغل أحدا، بل وتساهم الصحافة والإعلام في تكبير الحدث الشخصي كمقتل الفتاة على الأحداث المصيرية كحرب الاستنزاف.

صديقة رجل الأعمال المشبوهة.. نقد مبطن للقيم السياسية والاجتماعية
نتابع الأحداث لنعلم من الأخبار الصحفية المتوفرة تباعا أن القتيلة أجنبية وميسورة الحال، ويلاحظ أيضا أن صورة القتيلة غير واضحة المعالم، ولكن مع تتبع خيوط الجريمة والبحث عن القاتل تتضح الصورة شيئا فشيئا، فالقتيلة شلبية تعمل عند أحدهم، وهو دائم التعرض لها.
وهي سميرة عاملة مصنع النسيج التي يتزوجها عرفيا صاحب المصنع ويسعى لإجهاضها وطردها، كما أنها هي فافي صديقة رجل الأعمال المشبوهة الذي لا يتردد في استخدامها إذا لزم الأمر.
وهي أيضا درية إحدى فتيات الخمارة الشهيرة، ويقع في حبها عاشق لا يتردد عن فعل أي شيء من أجلها، وأخيرا هي فكيهة الفتاة الساذجة التي حلمت بالقاهرة الساحرة الساهرة، وهربت من أهلها لتصطدم بواقع صعب تضطر فيه للتنازل لكي تعيش وتنتهي حياتها على يد أبيها ليغسل عاره بيده.
كان التراكم الدرامي للسيناريو يشي بفكر أعمق وأدق من مجرد حكاية فتاة قتلت في ظروف غامضة ونبحث عن قاتلها، فبالتأكيد لم يرد صانع الفيلم أن يتحول فيلمه إلى من الجاني؟ فالمسألة ليست بهذه البساطة التي تبدو عليها الأحداث في الفيلم، فعلى الرغم من تجريبيته في الشكل، فهو يحتوي على نقد سياسي واجتماعي قاسٍ.

تناقض الصحافة.. تقزيم الضخم وتضخيم القزم
يقدم المخرج مقابلة عالية الحدة، فيركز الفيلم على التناقض الحاد بين اهتمام الصحافة بحادثة شخصية، وتسليط الضوء عليها أكثر من اللازم لدرجة تصبح فيها أخبار حرب الاستنزاف في الدرجة الثانية أو الثالثة.
إن القتيلة بمنتهى البساطة إنسانة من عامة الشعب تتعرض لاستغلال مستمر من مرؤوسيها، وهذا نقد قاس لقيم النظام الاشتراكي حينها، وحرب الاستنزاف -بالرغم من خطورة الأخبار الآتية من جبهتها وبالرغم من سخونة هذه الحرب- تصبح بصريا في اهتمام هامشي، وهذه المقابلة البصرية هي المعادل الموضوعي لما آل إليه الوضع الراهن وقتها من تخبط نتج عن نكسة 1967.
لا شك أن مدكور ثابت قدَّم مادة دسمة وذكاء في نقده السياسي الاجتماعي لذلك أظن أن هذا هو السبب الرئيسي في عدم الاحتفاء به بل ومهاجمته وقتها، لذلك لا نستطيع أن نُغفل التجريب المدهش فيه.
تقنية الفلاش باك.. بدائل نقدية للسرد التقليدي
يلجأ المخرج إلى السرد المتداعي في الفلاش باك بدءا من عنوانه الطويل، وهو غير مرتبط بزمنية مرتبة، لأنه فلاش باك شعوري غير مرتب أو مُنّظم، وكان وقتها بالنسبة لبقية الأفلام سابق بكثير، وهو فيلم داخل فيلم أي أن المخرج يظهر في الفيلم بنفسه ويقوم بمخاطبة الجمهور، أو يوجه الممثلين، أو تأتي تعليماته أثناء التصوير.
وبالطبع هذا المنهج الملحمي البريشتي الذي انتهجه المخرج في الفيلم -والذي يتضاد مع المنهج الأرسطي التقليدي في الدراما- يقوم بالأساس على فكرة التغريب بمعنى أننا نقدم ما يبدو مألوفا في الحياة لكي لا يبدو مألوفا، والعكس صحيح.
كانت هذه التقنية بغرض نقد الواقع وكشفه للمتلقي، وهنا يحاور مدكور وعي المتلقي دونما عواطف أو مشاعر مليودرامية عنيفة تهزه، وإنما يعمد عن قصد إلى خلق مساحة تباعد بين ما يعرض، وبين المشاهد حتى يتسنى له طرح أفكاره وهمومه المعني بها بالفيلم وإعمال عقل المتفرج بها.
ومما لا شك فيه أن هذه الرؤية التقدمية بهذا الطموح الفني الجامح لم تأخذ حقها من التقدير والتقييم وقتها بل ناله ما ناله من هجوم وقدح وذم.

المعهد العالي للسينما.. تقدير الجيل الجديد للفيلم بعد 30 عاما
أذكر في لقاء جمعني بصديقي الدكتور مدكور ثابت أنه حكى لي كيف أنه جمع طلبة كل أقسام المعهد العالي للسينما عام 2003 وعرض لطلبته الفيلم، وخرج ليحتسي فنجانا من القهوة.
كان الطلبة صامتين مشدوهين كما لو كانت على رؤوسهم الطير -على حد وصفه-، ولم يدخل قاعة العرض إلا عندما سمع هدير التصفيق وقوفا لمدة تتجاوز العشر دقائق.
لقد كان الاحتفاء والتقدير كبيرا من جيل جديد فهم أكثر، لذلك استوعب واستحسن هذه التجربة، وصدقت مقولة نجيب محفوظ.
رحل مدكور ثابت عن عالمنا ولكن يظل فيلم “حكاية الأصل والصورة” وثيقة سينمائية تحمل الكثير في طياتها من الغنى الذي ينبض بألم وحزن عميقين، وأيضا من نجاح ومجد وإن جاء تقديره متأخرا ومن الجيل الجديد.