“همس الممرات الضيقة”.. مغامرات جامحة على جسر المراهقة

المصطفى الصوفي

عمر طفل مشاغب وبريء، ينضبط أحيانا للأوامر ونصح الأهالي، وأحيانا أخرى يتصرف كالكبار فيعصي التوجيهات دون أن يعي جيدا أن شجاعته الزائدة عن الحد ستقوده لحفرة بئر وركوب سور عال، ومواجهة شراسة المتسكعين.

يطلق عمر رجليه للريح في تلك الممرات الضيقة التي يضمحل فيها أفق النور مسرعا وفرحا إلى أبعد الحدود، فيصرخ تارة بلا سبب رفقة أقرانه، وتارة أخرى ينادي على أحد أصدقائه في الجوار للخروج.

تغري الدروب العتيقة لمدينة أبي الجعد -المحاذية لمدينة سطات وخريبكة وقبائل الشاوية ورديغة- عمر باللعب والمغامرات، كما تعتبر من أجمل الدروب التاريخية والحضارية التي تعود إلى مئات السنين.

وقد استهوت رطوبة تلك الممرات التي تعبق بسحر التاريخ ومعالمها التراثية وزواياها الشريفة وبياضها الفتان؛ المخرجيْن ضمير وحسن اليقوتي لتصوير فيلمهما “همس الممرات الضيقة” بحثا عن كنوز تراثية نفيسة وعوالم وجودية لصبي مقبل على تحولات نفسية كبيرة في مرحلة عمرية فاصلة يجاري فيها الكبار.

كما استهوت هذه القلعة التاريخية مخرجين آخرين أبرزهم حسن بنجلون وحكيم بلعباس الذي أخرج أفلاما روائية ووثائقية كثيرة صورت بهذه المدينة الشهيرة بضريح سيدي بوعبيد الشرقي ومزارات ورياض الصالحين وأضرحة سبعة رجال، وأشهر موسم للفروسية التقليدية في المغرب.

هذا الفيلم الروائي القصير -ومدته 25 دقيقة- من سيناريو وإخراج الأخوين ضمير وحسن اليقوتي، وإنتاج شركة “سلم برو”، وتصوير إبراهيم أزبار وإبراهيم سليماني، وتمثيل إلياس علاف وحسناء مومني وزكرياء عاطفي وحمزة نحيلة وياسر فقري ومحمد دوباج.

اختير الفيلم للمشاركة في المسابقة الرسمية للعديد من المهرجانات الدولية، كما توج في الآونة الأخيرة بالجائزة الكبرى للجنة تحكيم مهرجان “بالوس فيرديس” بكاليفورنيا الأمريكية في دورته الأخيرة، وهي الجائزة المصنفة ضمن الجوائز الرفيعة بهذه التظاهرة السينمائية العالمية.

كما جرى انتقاء هذا الفيلم -الذي توج أيضا بجائزة أحسن سيناريو أصلي بالدورة الأخيرة لمهرجان فلورانسا الإيطالي- بالعديد من المهرجانات الدولية في إيطاليا والهند وكندا والولايات المتحدة وغيرها.

 

سرقة صغيرة.. اندفاع نحو عالم الكبار

تدور أحداث الفيلم حول قصة شخصية عمر، وهو طفل يافع يخرج مبكرا ولأول مرة رفقة صديقه للعب كرة القدم، وهو خروج سيكتشف من خلاله العالم الفسيح بكل تناقضاته، وسيجعله يعيش وضعيات تمتزج فيها متعة الترفيه بقلق المغامرة.

في بداية الأمر يقوم عمر بألعاب عادية منتشيا بسحر المكان وفضاءاته المغرية والجميلة التي يلفها البياض من كل الجهات، لكن مجازفاته تقوده إلى سرقة صغيرة، وهي العملية الخطيرة التي ستهز مشاعره وتخلخل مشاعره.

يواصل عمر -الشخصية المحورية في الفيلم رغم فتوته- بكل إصرار التمرد على عادات البيت الصارمة وقوانينه بحثا عن عالم جديد يستهويه مع من هم أكبر منه سنا، وفي ذلك مغامرة قوية لا يحسب لها ألف حساب.

يجاري البطل الصغير في الفيلم عالم الكبار من خلال تصرفاته المندفعة، وحركاته الجريئة التي تبرز استعداد الصبي المشاغب للانتقال من عالم إلى عالم آخر مهما كانت الصعوبات والمطبات والمفاجآت.

الممثل إلياس علاف الذي قام بدور الطفل عمر في فيلم “همس الممرات الضيقة”

 

إيحاء المشاهد.. بلاغة الصمت السينمائي

يلجأ المخرجان للتعبير بالرمز أو الإيحاء في كثير من مشاهد الفيلم؛ الأمر الذي أعطى لهذا العمل السينمائي نوعا من الخصوصية الفنية الرزينة والأداء المقنع والصور المعبرة التي تحفل بصمت شعري لا يوصف.

يجعل إيحاء المشاهد -التي تستمد قوتها من شاعرية السيناريو المحكم- من البطل مصدر إلهام للمتلقي لاكتشاف عوالم الفيلم الخفية، وما تقدمه المدينة العتيقة كوثيقة تاريخية تحبل بالكثير من الجماليات الآسرة في المعمار والهندسة، ونمط حياة الناس ومشاهد عميقة من الواقع والمجتمع.

من المشوق في هذا الفيلم أن يكتشف الملتقي كيف تستطيع الرؤية الإخراجية بسط تقنيتها والتركيز على ملامح وأحاسيس الشخصية المحورية لفهم دواخل الصبي عمر المتطلع إلى عالم الكبار بكل عنفوان وندية.

بهذا المعطى الجمالي والفني يجسد عمر المسكون بحسرة تلك الممرات الضيقة كعلامة فارقة بين الضوء والظلام بحثا عن إشراقات أكثر إضاءة وحرية، حيث صورة حية لإنسان متطلع لبشارة المستقبل والأمل رغم قساوة المكان والزمان.

بوستر فيلم “همس الممرات الضيقة” الذي يقدم فرجة سينمائية تُسائل الصمت والتاريخ والوجدان

 

همس الفضاءات المفتوحة.. استعارات سينمائية دالة

سن عمر هو نوع من المجاز الفني، والممرات الضيقة دلالات سينمائية واستعارات مقصودة، وهمس الأمكنة والفضاءات المفتوحة والمغلقة وصمتها لغة فيلمية لها قراءات متعددة يحاول من خلالها المخرجان تقديم نوع من الفرجة السينمائية التي تسائل الصمت والتاريخ والوجدان والمشاعر والحواس.

من الصعب في كثير من الأحيان قراءة مشاعر طفل في سن عمر كفاصل بين مرحلة الطفولة والمراهقة لمعرفة وفهم ما يريد وما يحلم به في المستقبل، وهو يتحدى عالم الكبار بكل جرأة وشجاعة.

وقد استطاع المخرجان معالجة هذا الموضوع من خلال كثير من الإشارات والعلامات الدالة بدءا من سيكولوجية البطل في كل حركاته وسكناته، وقيمة الدروب القديمة في وجدان كل طفل، واستحضار فيض من الذكريات التي تزهر في كل زقاق.

من هنا تكون القصة السينمائية في الفيلم، والسرد الفيلمي نوعا من الأسلوب الجيد لقراءة نفسية الطفل، وسبر أغوار عالم الطفولة، فضلا عن بسط جماليات الفضاءات القديمة، وطرحها كوثيقة تمجد التاريخ والهوية ونمط عيش الإنسان.

إن الممرات والدروب الضيقة تكون دائما فضاءات محببة للأطفال للعب والتحدي وتجريب الدخول في عالم الكبار بحذر، كما أنها تشكل ذاكرة موشومة لتوثيق حكايات خالدة في الزمان والمكان.

همس الممرات في الفيلم حكايات صامتة تروى بهدوء دون إزعاج الآخرين، ودون إثارة مزيد من الضوضاء والجلبة التي غالبا ما يحدثها الأطفال كل مساء، ممتزجة بأصوات السنونو وهي تعبر الأسطح بسرعة خارقة.

تحركات عمر في الفيلم تُبرز روح المغامرة وفضوله الكبير في ارتياد الأماكن الخطيرة والوقوف على سور غال

 

مشهد البئر.. مغامرات في مدينة الأقواس البيضاء

تبرز تحركات عمر في الفيلم روح المغامرة وفضوله الكبير، ومن ذلك ارتياد الأماكن الخطيرة كما يبدو في مشهد البئر، والوقوف على سور عال، ومطاردة المتشرد لاستعادة فاكهته، وهو ما يعزز الرغبة الأكيدة للبطل في التحدي وتجريب الأصعب.

إن ارتكاز المخرجين على رؤية فنية وجمالية شاعرية وفق سيناريو محكم، واعتماد لقطات تختلف في الحجم من زوايا متعددة؛ هو انتصار لطفولة حالمة ولجمالية الصورة في مدينة تراثية، واحتفاء بمشاعر طفل يتصدى للخوف بحثا عن كوة ضوء في المستقبل للانطلاق بعيدا.

عموما يمكن اعتبار سيناريو الفيلم حكيا فيلميا بنفس احترافي، مما يجعل المتلقي ينجذب إلى ذلك التشويق التلقائي والترابط في المشاهد كما في الكثير من الأفلام الروائية الطويلة الجيدة.

فالحكي بالصورة بنفس شاعري من زوايا متعددة في مدينة الأقواس البيضاء والتقاليد والتنوع التراثي والحضاري والمعماري؛ كان أفضل وسيلة للتعبير عن مشاعر عمر وأحلامه، وهي طريقة ذكية أثارت المتفرج ليطرح الكثير من الأسئلة التي تحيي ذاكرة الفيلم من جديد وتجعله أكثر ثراء شكلا ومضمونا.

كما أن الحكي بالصورة شكل أيضا مرآة عكست تناغم الروائي مع الوثائقي من خلال جماليات المشاهد في المدينة العتيقة ومظاهرها الاجتماعية كالعربة التي يجرها الحصان والأقواس التاريخية وبياض المنازل القديمة وأحجار الجدار القديم والفسيفساء والمرأة التي تغسل الملابس قرب البئر…الخ).

عمر وصديقه يستعدان للعب كرة القدم معا، فهما في مرحلة الانتقال من الطفولة البريئة إلى المراهقة الأولى

 

أبي الجعد.. خصوصية معمارية وتراثية

حول شاعرية الفضاء وأهميته في إضفاء نوع من التميز على الفيلم قال ضمير اليقوتي، وهو رئيس الفيدرالية المغربية لسينما الهواة في تصريح خاص للجزيرة الوثائقية إن الفيلم صور بالكامل بمدينة أبي الجعد لما لها من خصوصية تراثية ومعمارية وروحية صوفية، لكونها تضم الكثير من أضرحة أولياء الله الصالحين.

وأضاف أن العنوان العربي للشريط إذا كان يسعف القارئ كمدخل لتناوله فلعله يجد فيه بعد مشاهدة الفيلم تركيزا قويا على فضاءات هذه المدينة الروحية وأزقتها الضيقة، حيث تكثر المنعرجات ويغيب الأفق، وفي ذلك أهمية قصوى لجعل عمر يعود إلى دواخله وأسئلته المكتومة.

أيام المراهقة الأولى.. تحولات عمرية دقيقة

أشار اليقوتي حول موضوع الفيلم الذي ركز على الطفولة إلى أنه اختار أن يتناول موضوعا يتعلق بشخصية رئيسية تجتاز مرحلة دقيقة من عمرها وهي فترة الانتقال من الطفولة البريئة إلى المراهقة الأولى، وهي فترة يتزعزع فيها الاستقرار النفسي للطفل في سياق الميول الطبيعية إلى المغامرات وتجريب وضعيات غير معتادة مع رفاق المرحلة.

وأوضح في نفس السياق أن النمو عند الإنسان غالبا ما يتناول بتجزيئه إلى مراحل، لكن النمو لدى الطفل هو صيرورة متواصلة لا تعرف الفصل “مما يجعلنا نغيب التحولات غير المصنفة والحساسة التي يعيشها وتؤثر في حاضره ومستقبله”.

ولفت اليقوتي إلى أن التحولات العمرية في الفيلم تتحول إلى همس عميق، ودبيب في ممرات ضيقة كما هي الأزقة الضيقة التي يخترقها عمر البطل.

مخرجا فيلم “همس الممرات الضيقة” ضمير وحسن اليقوتي اللذين استهوتهما الممرات بتاريخها ومعالمها

 

أحسن سيناريو أصلي.. تتويج في مهرجانات دولية

سبق لليقوتي أن خاض تجارب إنجاز أفلام وثائقية،. مما منح للفيلم الجديد مسحة عميقة مشبعة بنفس وثائقي، وأكد  -حول وجود نوع من التناص والترابط بين الروائي والوثائقي في الفيلم- أنه سبق أن أنجز رفقة شقيقه حسن فيلما وثائقيا بعنوان “أنفاس وعشق وكبرياء”، ويتناول أقدم مهرجان سينمائي بالمغرب، المهرجان الذي ولد من رحم نضال ثقافي بالمغرب، ألا وهو مهرجان السينما الأفريقية بخريبكة.

ورأى في هذا السياق أنه إذا كانت فضاءات الشريط القصير “همس الممرات الضيقة” توثق بدورها وبشكل غير مباشر لمدينة أبي الجعد، فالكتابة والمقاربة الفيلمية للشريطين مختلفة تماما عن بعضهما.

ولفت اليقوتي حول تتويجه بالجائزة الكبرى للجنة تحكيم مهرجان “بالوس فيرديس” بكاليفورنيا الأمريكية إلى أهمية المشاركة في المهرجانات الدولية، ثم الفوز بالجوائز كضرورة لحياة الفيلم خصوصا بالنسبة للأفلام القصيرة التي لا تتوفر على فرص أوسع لملاقاة الجمهور كما هو الشأن بالنسبة للأفلام الطويلة.

وشدد على أن الأفلام القصيرة تشهد زخما إنتاجيا قويا على الصعيد العالمي، مما يجعل التنافس شديدا ضمن المهرجانات الدولية مبرزا أن بعضها يصل إلى ٨ آلاف فيلم قصير معروض من كل أرجاء العالم، ولا يكفي أن يكون فيلمك مثيرا للانتباه، بل يجب أن يكون محظوظا أيضا لكي يقبل في المسابقة الرسمية، وأن يفوز بجائزة  في أحسن الأحوال.

وأعرب عن سعادته لاختيار الفيلم ضمن المسابقة الرسمية لعشر مهرجانات دولية، وأنه فاز بجائزتين مهمتين، وهما جائزة أحسن فيلم قصير في مهرجان بالوس فيرديس بكاليفورنيا، وأحسن سيناريو أصلي بفلورانسا الإيطالية.

عمر وصديقه الأصغر منه يتأملان نفسيهما أمام المرآة لملاحظة التغيرات الفسيولوجية التي طأرت عليهما بعد انتقالهما من مرحلة الطفولة إلى المراهقة

 

طَرق البوابة النفسية.. رهان القصة الفني

لعل الفيلم يطرح بوضوح موضوعا وجدانيا ونفسيا من خلال شخصية الطفل عمر، وحول طريقة معالجة هذا الموضوع فنيا قال اليقوتي: إن الرهان الفني هو الذي حفزنا على تناول الموضوع النفسي للقصة المحكية في الفيلم، وتناولنا حالة إنسانية بالاشتغال على الانفعالات والتفاعلات الداخلية لشخصية عمر.

وأضاف أن الرهان هو إبراز ما يخفيه عمر بداخله بكثير من الإيحاء عبر الأداء والفضاءات التي يخترقها، وما يصادف في طريق عودته للبيت، وأدوات الزينة والألوان وغيرها.

وعن عملية الإخراج المشترك ومساهمته في نجاح الفيلم أكد ضمير اليقوتي أنه يعمل مع حسن أخيه الأصغر بكثير من التلقائية، ويسعفهما في ذلك ثقافتهما المشتركة وامتيازات الفرص الكثيرة للتلاقي والمناقشة وتدقيق الاختيارات الموضوعاتية والأسلوبية.


إعلان