“أغنية بلا عنوان”.. نغمة على سلّم الوجع والفقر والفجيعة

عبد الكريم قادري

نزلت إلى السوق مثقلة بالجنين الذي في بطنها وهي تدفع عربة يدوية ذات عجلة واحدة محمّلة بالبطاطس اقتنتها لتعيد بيعها، وبينما هي غارقة في همومها تسمع إعلان راديو عبر مكبّر الصوت يفيد بفتح عيادة طبية مجانية لمراقبة الحوامل.

انتقلت لتلك العيادة وبدأت في المتابعة، لكن عند ولادتها اختفى الجنين والعيادة والأطباء ليتبين بأنها وقعت ضحية عصابة دولية تتاجر بالأطفال، لتبدأ رحلة البحث والتحري عن فلذة كبدها، فهل وجدت من يقف معها ويساعدها؟

اقتبس فيلم “أغنية بلا عنوان” (Song Without a Name) الذي أنتج عام 2019 قصته من أحداث حقيقية وقعت أطوارها في البيرو في ثمانينيات القرن الماضي، وقد أعادت المخرجة “ميلينا ليون” كتابتها من جديد بالتعاون مع “مايكل جاي وايت” اعتمادا على شهود عايشوا الحدث، ومنهم والد المخرجة الصحفي الذي كشف خيوط تلك القصة للعالم بعد أن فضح أفراد هذه المنظمة الإجرامية التي كانت تسرق أطفالهم وتهربهم إلى أوروبا لتبيعهم هناك، وهي عصابة دولية مشكّلة من الشرطة والقضاة والسياسيين.

كان الكشف عن أسماء من ينتمي للعصابة صعبا إن لم يكن مستحيلا، وكل من حاول فك خيوطها كان مصيره القتل والتصفية، لكن عناد والد المخرجة “ميلينا ليون” كان أكثر من إصرار العصابة، لهذا فضحهم وأظهر حقيقتهم المزعجة وتجارتهم القذرة التي كانت تدر أرباحا كبيرة، لتكون هذه القصة ملهمة للمخرجة “ميلينا”، لهذا جسّدتها في سيناريو أول فيلم روائي طويل في مشوارها السينمائي.

من حسن حظ المخرجة أن يقع اختيار هذا العمل في نصف شهر المخرجين في الدورة الـ72 لمهرجان “كان” السينمائي، كما شارك في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة بالدورة الثالثة لمهرجان “الجونة” السينمائي الذي عقدت فعالياته من 19 إلى 27 سبتمبر/ أيلول 2019.

 

اعتماد الأبيض والأسود.. تجسيد معاني الفقد والظلم

راهنت المخرجة على اللونين الأبيض والأسود في فيلمها لشحن المشاهد بعواطف الحزن والفقد والظلم في زمن داس فيه الأغنياء على الفقراء، وأكثر من هذا بلغت بهم درجة الظلم أن ينتزعوا الأطفال من أحضان أمهاتهم دون رحمة أو شفقة في سبيل المال والسلطة والمجد الزائف.

ساهمت الموسيقى المحلية التي كانت تصاحب تلك المحطات المهمة في العمل -وقد وضعها “باوشي ساساكي”- في تأليب المتلقي على التعاطف مع الأم الشابة “جورجينا” (الممثلة باميلا مِندوزا) التي نهشها الفقر والعوز، وأكثر من هذا زاد عليها شعور الفقد بعد أن سرقت ابنتها من أحضانها في عملية خداع كبرى قامت بها العصابة المذكورة.

فمن هنا تتحول عملية صناعة العاطفة والسخط في الفيلم إلى كرة ثلج كلما تدحرجت زاد حجمها، فانفعالات الفيلم تكبر وتزيد مع كل مشهد، ووصلت لذروتها من خلال طرق أبواب الشرطة والمحاكم، لكن لا أحد فتح أو نظر لشكواها بجد، وكأنّ الذي فقدته هو كيس بطاطس لا إنسان لديه روح.

وقد زاد من هنا سخط المشاهد على سياسة ومؤسسات وعدالة ذلك الزمن في البيرو ليظهر بعدها الصحفي المنقذ “كارلوس” (الممثل تومي باراجا) الذي يعمل في صحفية مؤثرة، وقد استمع لقصة “جورجينا” وقرر أن يساعدها من خلال فتح تحقيق موسع لمعرفة الفاعلين ومصير الأطفال المخطوفين، لكن الصحفي واجه الصد.

الصحفي كارلوس يستمع إلى جوجينا وقصة اختطاف طفلها حديث الولادة من قبل منظمة دولية، حيث يبدأ بعمل تحقيق في الأمر

 

“سيعيشون أفضل بعيدا عن أمهاتهم الفقيرات”.. وجه عدالة البيرو

من بين المشاهد المؤلمة التي تظهر مدى فساد العدالة ذلك الرد الذي تلقاه الصحفي “كارلوس” من القاضي حين قدّم له ملفا يتضمن معطيات عن الأطفال المخطوفين، حيث قال له حرفيا: لماذا لا ترى الأمور من وجهة نظر مختلفة، فالأطفال سيعيشون ربما أفضل بعيدا عن أمهاتهم الفقيرات.

ينقل الفيلم بهذا الرد وجه العدالة في البيرو، وأكثر من هذا تؤسس المخرجة وتبرر لظهور تنظيم “الدرب المضيء” الشيوعي الماوي الذي دخل في مواجهة مسلحة مع نظام فسد وأفسد جميع مؤسساته، وحوّل البلاد إلى دولة مافيا تسيرها عصابة.

وهناك مشهد يظهر بأن الصحفي “كارلوس” الذي كان ملثما يزرع متفجرة في أحد الفضاءات، وعندما تنفجر يجتمع الناس حولها، مما يخلق فرصة له لتوزيع منشوراته السياسية التي تنادي بإسقاط النظام.

من هنا تبرر المخرجة وجود هذه المنظمة الطبيعي في ظل هذه المعطيات السلبية التي لا سبيل إلى تغييرها إلا من خلال الثورة التي يقوم بها البيروفانيين، وقد شرّعتها المخرجة “ميلينا” عن طريق شحن عواطف المشاهد من خلال إظهار ظلمها وبطشها وتكبرها على الفقراء ومطالبهم.

 

ألوان المقارنة بين عالمين.. مجازفة الخيارات البصرية

نجحت المخرجة “ميلينا ليون” في خياراتها الجمالية بداية في اختيار اللون الأبيض والأسود في فيلمها، وهو رهان صعب في ظل تعود المشاهد على مشاهدة الأفلام بالألوان، ومجازفة كبيرة من المخرجة في أول تجربة لها في الروائي الطويل، كما أنها صنعت الفارق البصري في صناعة الخيارات البصرية التي انعكست في أماكن التصوير من جبال يداعبها الضباب وأكواخ قصديرية متداخلة وهشة وطرقات متعرجة وبحيرات وقوارب.

وفي المقابل هناك الأحياء الراقية التي تعكسها العمارات، حيث الهدوء الذي يسكنها، وصوت الأحذية على الإسفلت، إذ تخلق من خلال هذه التناقضات مقارنة بين الأحياء السفلى التي تسكنها طبقة من الفقراء والكادحين، وأحياء البورجوازيين التي يسكنها الأغنياء، وتترك الاستنتاجات إلى المتلقي ليحكم وحده على هذه المرحلة التاريخية المهمة في البيرو.

وقد ضبطت هذه الديكورات المهمة بطريقة احترافية ولّدتها إطارات ذكية ضبطتها كاميرا المصور “إنتي بيريونس” مثل مدخل العمارة التي تقع فيها العيادة الوهمية، وسلّم الصعود الذي ضبط له مشهدا من الأسفل إلى الأعلى، وهي مشاهد تدل على ذكاء المصور من خلال لعبه وتحكمه في خاصية الظل والنور التي أنتجت له مشاهد جمالية مهمة ساندت هي الأخرى في نقل معاناة “جورجينا”، وشعور الفقد الذي سكنها من خلال رحلة بحثها عن ابنتها الصغيرة التي لم تضمها إلى صدرها كما ينبغي، مما ترك في قلبها حرقة يصعب الوقوف على تفاصيلها.

أثث هذه المعطيات الانسجام الحاصل بين اللون والتصوير، إضافة إلى مونتاج “مانويل باور” و”أنتلين بريتو” الذي جاء ليكلل هذا التفاهم التقني الجميل ويوسع من عملية شحن المشاهد بالانفعالات النفسية ووضعه في سياق الأجواء العامة للفيلم، وهي مآلات البيرو في ثمانينيات القرن الماضي.

 

“أغنية بلا عنوان”.. صرخة في وجه الأنظمة المستبدة

تكمن أهمية فيلم “أغنية بلا عنوان” في تسليطه الضوء على مرحلة تاريخية مهمة من تاريخ البيرو، وربما لو اشتغلت المخرجة مباشرة على هذه الفترة وجعلتها متنا عاما في فيلمها لما حقق النجاح الذي حققه في صيغته النهائية، لأن من الصعب أن تنقلها دون أن تقع في فخ المباشرة التي تقتل أي عمل فني تقريبا، لكنها كانت أذكى من ذلك بكثير.

لقد استغلت المخرجة حادثة خطف الأطفال وجعلتها كمسبب تاريخي سربت من خلاله معطيات سياسية أرهقت شعب البيرو، ونقلت تلك الجرائم بطريقة ذكية، فوزعت تلك الصور السياسية ومواضيعها على فصول الفيلم، وكل مرة تنقل جزئية، وحين يكتمل تجميعها تشكل في مجملها التصور السياسي العام للبلد.

من هنا حوّلت هامش الفيلم إلى متن ومتنه إلى هامش دون أن تجعل المشاهد يحس بهذا التغيير أو ترهق تفكيره بالرمزيات المبالغ فيها، وهنا تكمل المفارقة الكبرى في الفيلم التي أظهرتها المخرجة “ميلينا ليون” المتحكمة في أدوات الإخراج وفهمها العميق للسينما، كما يمكن بسهولة اكتشاف تأثرها بالعديد من المخرجين المهمين، مثل “بريغمان” و”تاركوفسكي” خاصة في إظهار الصور الشعرية الحزينة والتأسيس الجيد للحبكة النفسية والحفر عميقا في نفسية الإنسان والمكان.

فيلم “أغنية بلا عنوان” عمل إنساني عميق، وصرخة قوية في وجه الأنظمة المستبدة نسجت خيوط قصته بذكاء وحرفية، وهو يعكس في مجمله طريقة عمل “ميلينا ليون” التي درست السينما في الولايات المتحدة الأمريكية، وتخرجت من جامعة كولومبيا.

وقد سبق لها أن قدمت فيلما قصيرا بعنوان “نعيم ليلى” في العديد من المهرجانات العالمية من بينها مهرجان نيويورك السينمائي، كما نال العديد من الجوائز الدولية أهمها جائزة أحسن فيلم لاتيني-أمريكي في مهرجان ساو باولو السينمائي للأفلام القصيرة، كما كانت أول مخرجة بيروفية اختير عملها في مهرجان “كان” السينمائي من خلال الفيلم الذي تطرقنا له.


إعلان