“هناك شيء ما في الماء”.. هل باتت كندا أمة عنصرية؟

يضع الوثائقي الكندي “هناك شيء ما في الماء” تحت مجهر بحثه مفهوم “العنصرية البيئية”، ويعاين من خلال ذهابه إلى محميات السكان الأصليين والمراكز السكنية للسود ما فعلته المشاريع الصناعية بها، وكيف خربت نفايات المصانع بيئتها الطبيعية وأسهمت في نشر الأمراض القاتلة بين سكانها.
يذهب الوثائقي لكشف العنصرية الكامنة في المجتمع الكندي وعلاقتها بوجود تلك المصانع في مناطق محددة من البلاد ذات طبيعة خاصة، مما يشير إلى تعمد لإلحاق الأذى بها، وفي المقابل ترصد مخرجته “إيلين بيج” ومساعدتها “إيان دانيال” ارتفاع نبرة الأصوات المطالبة بوضع حد للتمييز العنصري البيئي الممارس بمنهجية في كندا منذ عقود طويلة.
تنحدر المخرجة الكندية من منطقة نوفا سكوشا المنكوبة اليوم بتلوث بيئي مريع، وتتذكر طفولتها فيها وكيف كان يقضي أهلها أياما رائعة على سواحلها، فقد كانت ترى في كندا وقتها موطنا للحرية والمساواة ورمزا للتعايش بين مكونات الشعب وأعراقه، لكن السينما فتحت عينيها على حقائق كانت تجهلها، وإلى وجود تمييز عنصري هيكلي لم تشعر به لكونها من السكان البيض.
هذا التمييز العنصري هو ما دفعها للبحث والكشف عن ممارسات تجد في السينما الوثائقية وسيلة ناجحة لعرضها على العالم، والمساهمة في دعم الأصوات التي لا فرصة عندها للوصول إلى مسامع السلطات التي استغلت ضعف إمكانيات سكان تلك المناطق وفقرها للتستر على ما يتعرضون إليه من تمييز عرقي وانتهاك عنصري لبيئتهم.
عنصرية بيئية.. استهداف السود في محيط أبيض
أخذ اسم الفيلم “هناك شيء ما في الماء” من كتاب بنفس العنوان وضعته الباحثة الكندية في علوم الأعراق والبيئة “إنغريد والدرون”، وحددت فيه مفهوم “العنصرية البيئية”. تذهب المخرجة إلى مدينة “هاليفاكس” لمقابلة الباحثة لتعرف المزيد عن المصطلح.
تفهم المخرجة من خلال حديثها أن للعنصرية وجوها كثيرة من بينها عنصرية بغيضة موجهة إلى بيئات جغرافية معينة تسكنها أعراق ملونة، وهي شبه معزولة عن محيطها الأبيض، وبالتالي فما يصيب بيئاتها يظل محصورا بها، ولا تصل أضراره إلى المناطق الحضرية.

تُحيل الباحثة ذلك السلوك إلى تاريخ استعماري طويل نظر إلى السود الهاربين من جور العنصرية الأمريكية إلى كندا، وكانت لدى السكان الأصليين نظرة دونية وعاملوهم كمواطنين من الدرجة الثانية يأتون بعد المستعمرين القادمين من خلف البحار.
انتشار السرطان.. قتل بطيء للبيئة والإنسان
تنبه الباحثة إلى وجود علاقة قوية بين المكان وصحة سكانه، وأن الأذى اللاحق بالبيئة يصيب الإنسان كما يصيبها، وللتحري عن تلك العلاقة ترجع المخرجة إلى منطقة “شلبورن” في مقاطعة “بيكتو” ذات الأغلبية السوداء لتتأكد من صحة ما جاء في البحث، فتأخذها الناشطة السوداء “لويز ديلايل” في جولة على بيوت المنطقة.
وفي طريقها تخبرها الناشطة بانتشار مرض السرطان بين سكان المنطقة ووفاة أعداد كبيرة منهم لا يمكن حصرها خلال أكثر من ستة عقود، وذلك بسبب النفايات التي طمرت مساحات كبيرة من أراضيهم وتسرب سمومها إلى آبار المنطقة، أما هواؤها فقد تحول لغيوم سوداء بسبب حرق النفايات.
زنوج أمريكا.. هرب من العبودية إلى التلوث
تستعين الناشطة بالتاريخ لربط العلاقة بين المكان والأمراض، فقبل أكثر من 250 سنة أقام السود الهاربون من عبودية أمريكا في تلك المناطق، وسكنوا في بيوت متقاربة، وفي أربعينيات القرن المنصرم قررت السلطات الكندية جعل المنطقة مكبا لنفايات المدن القريبة منها.
كانت السلطات ترمي في المنطقة كل شيء، ومع الوقت تحولت إلى جبال من القاذورات، وللتخلص منها كانوا يقومون بإحراقها، لكن وجودها وحرقها سمم الأرض والهواء وجعل رائحة المكان لا تطاق.

فقد وصلت المواد الكيمياوية إلى آبار المياه، وتسبب شُرب الناس للمياه الملوثة في إصابة الكثير منهم بأمراض سرطانية خطيرة، كما أدت إلى تخريب الأرض بحيث لم تعد صالحة للزراعة، وأشجار الغابات لم يعد لها وجود.
مياه نظيفة وآبار ملوثة.. حظوظ الأغنياء والفقراء
بعد مرور عقود على وجود مكب النفايات قررت الحكومة إيقافها عام 2016. تفضح جولة الوثائقي بصحبة الناشطة “لويز ديلايل” آثار مكب النفايات التدميرية على البيئة والناس، فالرائحة الكريهة ما زالت تعم المكان، وما زالت المياه ملوثة لا تصلح للشرب.
كما تتوصل مخرجة الوثائقي إلى حقيقة صادمة مفادها أن المياه النظيفة تصل فقط إلى سكان المدن عبر شبكة الأنابيب، أما فقراء الأقلية السوداء وقبائل “ميكماك” الأصليين فلا مال لديهم، ولهذا فهم مجبرون على شرب مياه الآبار الملوثة حتى اليوم.
تكشف الناشطة “لويزا” مفارقة محزنة وفاقعة حين تخبر المخرجة أن تكلفة مشروع مد أنابيب المياه النظيفة يكلف البلدية 10 آلاف دولار، في حين تتذرع سلطاتها المحلية بصعوبة تأمين المبلغ، بينما تصرف ثلاثة أضعافه على مهرجان “يوم المؤسسين” الذي تقيمه سنويا احتفالا بذكرى تأسيس كندا الجديدة.
مصنع ورق على ضفاف النهر.. خنجر في ظهر الطبيعة
“بوت هاربر” ثاني المناطق التي يصلها الوثائقي الكندي للتحقق من “العنصرية البيئية”، وأول دلالات وجودها محو الاسم القديم لهذه المنطقة وهو “أسَك”، -ومعناه في لغة السكان الأصلين “المكان الآخر”-، واستبداله باسم جديد صار رمزا لعنصرية بيئية ترسخت بعد إقامة معمل الورق على ضفاف أحد أنهار المنطقة عام 1965.
تتذكر الناشطة “ميشيل فرانسيس ديني” بألم والدموع تجري على خديها ما حل بمنطقة أجدادها وكيف خدعهم أصحاب مصانع الورق حين جَمّلوا لهم الصورة، وأقنعوا جدها رئيس القبيلة بأن المشروع لن يضر ببيئتهم ولا يؤثر على صحتهم.
انطلت تلك الأكاذيب على قادة القبائل الأصلية وكانت نتيجتها مدمرة، فبعد يومين فقط من بدء تشغيل المصنع لاحظ السكان موت أعداد كبيرة من أسماك النهر وتغير لونه، أما أصحاب المشروع فقد كانوا على دراية بما سيحدث من خراب حين وضعوا خطة تقضي بتسريب نفايات المصنع عبر أنابيب تمر من تحت مياه “بيكتو هاربر” وتصب في مياه “بوت هاربر”.
يتضاعف الإحساس بالظلم عند الناشطة لمعرفتها ببخس الثمن الذي باع به أجدادها أراضيهم، فقد تعهد أصحاب المشروع بصرف مبلغ 60 ألف دولار على مشاريع لتنمية مناطقهم وفتح مدارس فيها، والنتيجة بعد خمسين عاما تراجع مستوى عيش تلك المنطقة التي لم يزدهر فيها إلا المعمل الذي قضى بالكامل على بيئة بكر وطبيعة رائعة الجمال سممها وحولها إلى أرض لا حياة فيها.
انفجار أنابيب المياه الملوثة.. وعود حكومية عابثة
تبين جولة مع الناشطة في منطقة بوت هاربر وجود آثار مصنع الورق حتى اليوم، ولم يعرف الكنديون ما كان يسببه من خراب إلا مع انتشار خبر انفجار أحد الأنابيب الناقلة لمياه المصنع الملوثة عام 2014.

حينها فقط وبعد معرفتها بتسريب قرابة 47 مليون لتر من المياه الملوثة إلى مياه وأراضي المنطقة؛ تدخلت الحكومة ووعدت بالعمل على اتخاذ إجراءات تقلل بها النتائج الكارثية للتسريب.
أما المفارقة فهي أن الحكومة لم تجرؤ على إيقاف العمل في المصنع، بل كانت على طول الخط تراوغ وتماطل وتعطي تواريخ جديدة لإيقافه، مما حفز النشطاء على المضي في مطالبتهم بتحديد سقف زمني غير قابل للتغيير.
مشروع تخزين الغاز.. إبادة جماعية للأحياء البحرية
يُلاحظ مع مضي زمن الوثائقي ومتابعة تفاصيله أن النساء على وجه الخصوص كُن من أنشط المتصدين للعنصرية البيئية، ويتضح ذلك جليا في المنطقة الثالثة التي يصلها الوثائقي ويتابع ما تفعله العنصرية بها.
ففي منطقة “بيكتو لاندينغ” تخطط شركة “ألتا غاز” لإنجاز مشروع كبير يهدف إلى تخزين كميات كبيرة من الغاز المستكشف فيها عبر ضخه داخل كهوف جوفية موجودة في أعماق النهر، وتجري طريقة التخزين عبر ضخ كميات هائلة من المياه المالحة إلى الكهوف، وهو ما تسبب في زيادة نسبة ملوحتها 6 أضعاف عن نسبتها الطبيعية.
ويؤدي ذلك حتما إلى موت الأسماك وبقية الأحياء البحرية، وبمعنى آخر موت بشر معتمدين في عيشهم على الصيد، وقد دفعت الرغبة الغريزية في الحياة مئات النساء لمقاومة المشروع انطلاقا من موروث ثقافي للسكان الأصليين يحيل وجود الحياة إلى الأرض الأم، وما ولادة المرأة إلا تشبيه رمزي بالأرض الأم.
“كندا ليست أمة”.. شجاعة نقل الواقع
تحت ركام العنصرية برز الحضور المميز لنساء شجاعات وقفن ضد مشاريع تخريب الأرض وما عليها لصالح أصحاب المصانع المتوافقة مصالحهم مع مصالح حكومات تعمل بتأثير سيادة عنصرية هيكلية غير مرئية ولا محسوسة إلا عند من يعانون منها ومما تسببه من خراب مريع لمناطق كانت يوما رمزا لبساطة العيش والانسجام مع الطبيعة.

ينقل الفيلم قبل نهاية مساره مُتغيرات تحدثها مقاومة العنصرية البيئية في مواقف الحكومة عبر إعلانها مواعيد محددة لإيقاف العمل في بعض المشاريع والمصانع التي أضرت بالبيئة البكر وسكانها الفقراء، وبذلك الإعلان يثبت الوثائقي أيضا دوره الشجاع في نقل واقع ظل مسكوتا عنه لعقود طويلة لخصته عبارة وردت على لسان ناشطة بيئية: “كندا ليست أمة، إنها شركة”.