“لالة عيشة”.. نضال امرأة ريفية تتحدى الدلافين والرجال
تكاد رواية “الشيخ والبحر” للكاتب العالمي الكبير “إرنست همينغوي” تتشابه مع قصة فيلم “لالة عيشة” للمخرج المغربي محمد البدوي في صراعها مع الطبيعة ومقاومتها لقسوة الزمن، ومنحناها الدرامي الذي شكل عنصر قوة في الحكاية وتشويق بلا حدود.
في البحر يدخل شيخ الروائي العالمي “همينغوي” الفقير لجج الأعالي بحثا عن لقمة عيش بما يصطاده من سمك زهيد، فحظه عاثر أحيانا، حتى إذا ما أسعفه وكان الجو صحوا اصطاد أسماكا قليلة قد لا تكفي لسد الرمق يومين.
يحالف الحظ الشيخ الهرم هذه المرة، حين يتفاجأ بصيد ثمين لسمكة ضخمة، ويصارع الأمواج العاتية وقوة وشراسة الحيوان الضخم بأدواته البسيطة لإخراجها إلى الشط في مشهد ملحمي لا يخطر على بال.
يتعارك شيخ البحر بما أوتي من قوة للظفر بصيده الوفير، وربما سيجعله عند بيعه من أسعد الناس لما قد يدر عليه من أموال تعفيه من شظف العيش وقسوة الزمن لشهور وأيام.
حظ الشيخ العاثر.. صيد ثمين أكلته الأسماك
يواصل الشيخ المسكين -مبللا بالمياه- بأنفاس متقطعة وسرور، وهو يجر خيوط شبكته في صراع بطولي مع السمكة الضخمة لإخراجها إلى بر الأمان، ثم يتواصل الكر والفر والجزر والمد، وفي لحظة تخف الحركة وتضعف مقاومة السمكة عن ما كانت في السابق، والشيخ الصياد يحملق في الماء بحثا عن الكنز.
يستغرب الصياد لتلك المشاهد، ولقوة هذا المخلوق في صراعه مع الموت والإصرار على الإفلات من شباك الصيد. يقترب القارب من الشط، والشيخ يجر صيده إلى الخارج فإذا بالسمكة الضخمة تتحول إلى هيكل عظمي بعد أن أكلتها باقي المخلوقات البحرية الصغيرة.
يندب الشيخ حظه العاثر، لكنه يكسب احترام الأهالي والصيادين الذين تعجبوا لصيده الكبير ولصراعه المستميت في البقاء على قيد الحياة رغم هزالته وسقمه، وإخراجه للحوت الضخم إلى الشط بعد أن خارت قواه.
شبكة الصيد المثقوبة.. صراع في عالم الرجال والدلافين
فيلم “لالة عيشة” بطلته ربة بيت وأم فقيرة لخمسة أطفال تعيش على صيد الأسماك بإحدى المناطق الساحلية المغربية على بحر الأبيض المتوسط، لكن الدلافين ذات مرة تصل إلى منطقة الصيد وتمزق كل الشباك بما جمعته من أسماك، فتخرج البطلة بخفي حنين.
تحزن لالة عيشة الستينية لما حل بها من مصيبة بعد فقدان زوجها في مشهد درامي مؤثر للغاية، وهي تعي جيدا أن شباك الصيد هو مصدر رزقها الوحيد ومعيل أطفالها وسط جوقة من الصيادين الذين لا يرحمون، وأحيانا يحقدون على المرأة التي تنافسهم في الصيد والسوق ومعترك الحياة.
القاسم المشترك بين القصتين -في الرواية والفيلم- هو الصراع مع الطبيعة والحياة لكسب لقمة العيش رغم كروب الزمن وقساوته، ولالة عيشة – التي تعيل خمسة أفواه محتاجة للطعام- مرآة تعكس نضال المرأة ومقاومتها في مجتمع ذكوري لا يعترف بفضائل الجنس اللطيف.
محمد البدوي.. توظيف الفن السابع في ترسيخ قيمة المرأة
اعتمد المخرج محمد البدوي -الذي كتب الفيلم بنفسه- على توليفة من الشخوص المتنوعة تتكون من بطلة الفيلم الممثلة الإسبانية الشهيرة “أنجيليا مولينا”، وزوجها عبد القادر دوركان وسميرة العكسي ومحمد المحجوبي ثم عائشة فلش ومحمد سليت وفاضل العثماني.
في قراءة أولية لهذا الفيلم الطويل (95 دقيقة) تنجلي بوضوح رغبة المخرج في ترسيخ القيمة الإنسانية للمرأة في المجتمع، وإبراز دورها إلى جانب الرجل، مع تبديد كل ما من شأنه الإساءة إليها وإلحاق الضرر بها.
إنها صورة حية لجعل السينما أداة لمناهضة العنف ضد نساء العالم، وتحقيق نوع من المساواة بين الجنسين والعدالة الاجتماعية خاصة في الأرياف والعالم القروي الذي تقوم فيه المرأة بدور كبير في العمل والتربية ومساعدة الرجل على صروف الزمان.
هاجس الهجرة.. لعنة التشظي بين الخيارات المؤلمة
لالة عيشة -المتزوجة من الإسباني “أغلياس” ذي السبعين عاما- رغم حظها العاثر الذي بعثر شبكة صيدها وأوقف نشاطها في البحر، ورغم نظرة الرجل الدونية لها وتبخيس عملها، فإنها تصر على المقاومة مثل شيخ البحر من أجل الحياة، والبحث عن مورد رزق آخر، ومن أجل أطفالها بحثا عن مستقبل آمن.
مع توالي مشاهد الفيلم وتحت تأثير صدمة الدلافين التي أوقفت نشاط “لالة عيشة” يبرز تصادم فيلمي آخر من خلال رغبة أبناء البطلة في الهجرة إلى أوروبا كحل مناسب لمساعدة والدتهم وتحسين أوضاعهم الاجتماعية.
هنا تصبح الأم أمام موقفين صعبين، الأول البحث عن مورد رزق آخر بعيدا عن غضب البحر وحيواناته الفتاكة، والثاني ثني الأبناء عن التفكير في الهجرة إلى الضفة الشمالية الأوروبية والبقاء في الوطن رغم الحاجة والفقر، وما تحفل به مغامرة الهجرة من أهوال ومخاطر لعل أولها الغرق في أعالي البحار قبل الوصول إلى الشواطئ الإسبانية.
بساطة اللغة السينمائية.. حزن مشوق ومعبر وجميل
يعتمد مخرج الفيلم -الذي أنتجته شركة “أبوستروف” بدعم من المركز السينمائي المغربي- على لغة سينمائية غير معقدة وغير مشفرة، ولا تحتاج إلى اجتهاد كبير من قبل المتفرج لفهم الفيلم والوصول إلى ما يريد التعبير عنه عبر قصة اجتماعية حزينة ومشوقة مليئة بالأحاسيس والصمت الجميل.
لغة الفيلم السينمائية لغة شعرية تتماهى مع الفضاءات الرائعة التي اختارها المخرج لتصوير معظم مشاهد الفيلم، وأغلبها فضاءات طبيعية تتخذ من البحر عالما ساحرا منفتحا على بركة التوكل على الله والمغامرة وأشرعة الأمل بحثا عن روح الحياة الجديدة والحب والسلام.
تزهر قيم السلام والتعايش والتسامح في الفيلم في أغلب المشاهد كزهرة اللوتس، معبرة عن أسمى ما تحمله لالة عيشة تجاه محيطها وأولادها من حنان وتواضع وعيش مشترك مع باقي الشخوص في صورة تحمل فضائل البراءة وكرامة المرأة ونخوتها التي لا تهزم رغم كيد الكائدين.
“سليمان”.. فصل آخر من كفاح حواء
يكاد الحوار في الفيلم أن يكون قليلا، وإن كان متناثرا هنا وهناك، فهو معبر بشكل كبير، بينما يترك المخرج المجال للصمت والطبيعة والبحر وملامح الشخوص لتقدم أسمى صور سينمائية شاعرية ناطقة.
يكاد المخرج في هذه التوليفة الفيلمية يلتقي مع كثير من مشاهد فيلمه السابق “سليمان”، وهو فيلم يعبر أيضا بالصمت وشاعرية البحر وسحر الطبيعية وجمالها الذي تتميز به منطقة الحسيمة الرائعة.
يحكي فيلم “سليمان” قصة اجتماعية درامية لامرأة صبورة تخلى عنها شريك عمرها بعد أن أصيب طفلها بالسرطان، فكان حريا بالمخرج أن يبرز دور المرأة في الحياة وصراعها مع الزمن والانتصار على صروف الحياة في مشاهد قوية تنبض بالقوة والتشويق والإثارة والألم.
حضور المرأة المغربية والأوروبية.. انفتاح سينمائي على الثقافات الأخرى
يعود المخرج محمد البدوي المقيم في العاصمة الإسبانية مدريد في فيلم “لالة عيشة” بتقنية جديدة عالية في التعامل مع أحزان المرأة الريفية المغربية وأحلامها وتطلعاتها، ومن خلالها باقي نساء العالم، وبهذا التكريم للمرأة يرد المخرج الاعتبار للنساء بطريقة فنية تستحق كل ثناء.
المرأة المغربية والأوروبية حاضرة في فيلم “لالة عيشة”، وبذلك يمكن اعتبار سينما محمد البدوي -الذي ينحدر من إحدى بوادي منطقة الحسيمة- سينما منفتحة على مختلف الثقافات الأخرى خاصة منها الإسبانية والأندلسية التي تجمعها بالثقافة المغربية وشائج التاريخ واللغة والحضارة والطبيعة والماء.
أمواج البحر الهادر.. آمال وآلام بين المد والجزر
إن تركيز محمد البدوي على البحر في فيلمه الجديد عنصر مهم في إبراز الكثير من الخصوصيات الطبيعية والإنسانية المشتركة التي تجمع الشمال بالجنوب بثقافاته وتاريخه وهمومه وانكساراته وأحلامه.
لا تقف أحلام شخوص “لالة عيشة” عند حد، فالأم تحلم بتكحيل عيونها أثناء عودة رفيق عمرها، كما تحلم باستقرارها وتحسين أوضاعها بعد ضياع شباك حوتها الذي مزقته الدلافين، بينما أبناؤها يحلمون بالهجرة إلى الضفة الأوروبية وكسب المال والجاه في تحد كبير لأمواج البحر.
الصمت البحري الذي تصوره الكاميرا في كثير من المشاهد والأحاسيس الفياضة تعبير قوي عن واقع مؤلم لا يطاق، واقع يتلألأ مثل اللؤلؤ والمرجان بروح الأمل، حيث ضفاف الجزيرة الأيبيرية ومساحات شاعرية للهروب من وجع الأرض، وعناق حياة جديدة بلا بطالة قاتلة، وفراغ دائم وأشباك ممزقة خاوية على الدوام.
أفلام الإنسان.. سينما مكتنزة بالقيم الإنسانية
بهذا الفيلم وغيره يكون المخرج محمد البدوي قد قدم نوعا من السينما المكتنزة بقضايا ومواضيع اجتماعية واقتصادية وإنسانية مشتبكة في آن واحد، سينما تعالج قضايا المرأة والطفولة وأرض الانتماء، وعالم الريف البسيط، والهجرة غير الشرعية، وقوارب الموت التي تمخر عباب البحر باتجاه شواطئ الأحلام.
كما تطرح أيضا بأسلوب سينمائي شاعري وجمالي وكتابة مباشرة وسهلة قيم التعايش والتسامح وقضايا العيش المشترك بين شعوب الجنوب والشمال التي تجمعها روابط التاريخ والجغرافيا واللغة والدم.
وبهذا يكون البدوي من خلال هذا الفيلم -الذي عرض في عدة مهرجانات دولية، منها المهرجان الدولي للفيلم بمراكش السنة الماضية كأول فيلم باللغة الأمازيغية يدخل غمار المسابقة الرسمية- قد رسخ لأسلوب سينمائي يعتمد على البساطة وشاعرية المكان والانتصار لقضايا الإنسان في أبهى التجليات الفنية الممتعة.
“لالة عيشة”.. امتداد لمولود فني سابق
يمكن اعتبار فيلم “لالة عيشة” امتدادا لفيلم البدوي السابق “سليمان” الذي يطرح أيضا قضية المرأة في صراعها مع الحياة، فضلا عن التركيز على عنصر الصور الصامتة بقليل من الحوار كشكل من أشكال التعبير السينمائي الشاعري على اعتبار أن السينما صورة معبرة، وأحاسيس فياضة أكثر من كونها حوارات جوفاء.
وتماشيا مع رؤية المخرج في التزامه بقضايا المجتمع والإنسان والقضايا الاجتماعية والكونية العادلة، فقد سبق له أن أخرج فيلما قويا بعنوان “فلسطين”، ويعالج القضية الفلسطينية من وجهة نظر إنسانية تنتصر لروح أصحاب الأرض والشجر والحجر وأحقية الانتماء بعيدا عن التطاحنات السياسية البراغماتية.
يشار إلى أن محمد البدوي -وهو أيضا كاتب سيناريو وممثل- بعد فيلمه “لالة عيشة” يحضر لعمل سينمائي جديد سيصور في أوروبا، وسيعالج فيه أيضا العديد من القضايا ذات البعد الإنساني والاجتماعي بلغة سينمائية فيها الكثير من الألق الشاعري واللغة السينمائية المنفتحة إلى الآخر بسعة الحب ورحابة البحر بما يحمله من نسيم وأمواج حالمة وطيور مسافرة بين الضفتين.