“بلد في هبوط حر”.. صراع الصومال بين أبنائها وأعدائها

يقترح الوثائقي الفرنسي “الصومال.. بلد في هبوط حر” القيام بمسح ميداني دقيق لمساحات واسعة من واقعه، ليشخص عبره أكثر المشكلات والتحديات الآنية التي تواجهه وتَحول دون إزالة الأسباب التي تجعله واحدا من أفقر البلدان، ومن أكثرها ابتلاء بالحروب والصراعات المسلحة والمجاعات.

وعلى عكس الكثير من الوثائقيات التي اهتمت بالشأن الصومالي ابتعد صانع الفيلم “ستيفان جيرارد” عن الخوض في أسباب الصراعات المسلحة والحرب الأهلية متوجها بدلا منها لتشخيص العوامل الأخرى التي تبقيه على ما هو عليه اليوم من حال لا يحسد عليه، رغم ما يصله من مساعدات أممية كبيرة لا أثر لها في تغيير أحواله.

مقديشو المنهكة.. جيل يحاول مسح آثار الدمار

يعطي صانع الوثائقي حرية واسعة لكاميرته في التقاط المشهد العام للعاصمة مقديشو، ومنحها وقتا كافيا من زمنه لتنقل عدساتها عن قرب آثار ما فعلته الصراعات المسلحة بالمدينة وأطرافها خلال ما يقرب من ثلاثة عقود من الزمن.

كانت مجريات هذه الصراعات حتى يومنا هذا كافية لتدمير بنيتها التحتية ورفع نسبة البطالة بين شبابها على وجه الخصوص، إلى جانب إضعاف مركزية الدولة وغياب الأمن والأمان.

كل تلك المحبطات سرعت موضوعيا ببروز جيل جديد من السياسيين يحاول تغيير الواقع، لكن ثمة مخاطر تحيط بهم وعوائق تحول دون تحقيق ما يطمحون إليه، وقد أثبتها الوثائقي ووثق في اللحظة ذاتها المصير التراجيدي الذي واجهه بعضهم.

التوك ـ توك في شوارع الصومال، حيث أصبح الوسيلة الأكثر شعبية هناك بسبب انعدام وسائل النقل العام

حياة سائق التوك-توك.. قارب هش في أعالي بحر البطالة

تتجلى من خلال جولات الكاميرا في أحياء المدينة المدمرة وفي أسواقها حقيقة عيش سكانها على الكفاف، فدخل مواطنها اليومي لا يزيد كثيرا عن دولارين، ورغم ذلك فالبطالة بين الشباب منتشرة جدا، مع أن نسبتهم بين السكان تبلغ الثلثين.

يضطر الكثير من الشباب لإيجاد سبل عمل بسيط مثل محمد -البالغ من العمر 22 عاما- الذي يقود عربة توك-توك لنقل الركاب، وقد صار النقل بواسطتها الوسيلة الأكثر شعبية في المدينة، وذلك بسبب انعدام وسائل النقل العامة.

يحكي الشاب ظروف عمله الصعبة وطول الساعات التي يقضيها في الشارع مقابل مردود بسيط يذهب جزء منه إلى جيوب شرطة المفارز كرشوة يضطر لدفعها بسبب عدم حصوله رسميا على رخصة سياقة، كما توثق الكاميرا لحظة إيقاف شرطي له ومطالبته بدفع ما تعادل قيمته دولارين.

من بين الحقائق الملفتة أن العملة الأمريكية هي المتداولة في الأسواق بدلا من العملة الوطنية (شلينغ)، وأن كثرة الحواجز تؤدي أحيانا إلى دفع السائق كل ما يحصل عليه خلال اليوم، ولهذا لا غرابة أن يفكر الشاب بالهجرة كحل لوضعه الصعب وعجزه عن تأمين مصدر رزق يكفي لسد رمق عائلته الكبيرة التي يعيلها لوحده.

محمد وأصدقاؤه يفرشون أمامهم خارطة أوروبا لتحديد الدول التي يفكرون بالهجرة إليها

تجارب هجرة مخيبة للآمال.. قبائل تقوم مقام الدولة

لتوثيق فكرة الهجرة يذهب الوثائقي إلى بيت محمد ويصوره بصحبة أصدقائه وقد فُرشت أمامهم خارطة أوروبا، لتدور أحاديثهم حول الدول التي يفكرون بالهجرة إليها، وقد جرب بعضهم ذلك وخابت تجربته وعانى بسببها من مصاعب مادية ونفسية، فرحلات الهجرة مُكلفة وخطرة.

ويظهر من تجربة أحدهم أنه قد دفع للمهربين ما قيمته 7 آلاف دولار، وأثناء عبوره السودان نحو وجهته النهائية حُجز من قبل عصابات طريق أجبروا أهله على دفع إتاوة مالية مقابل إطلاقهم سراحه والسماح له بالرجوع إلى الصومال.

أما من دفع الإتاوة فهم زعماء قبيلته، ويزداد دورهم في البلد -كما يوثق الفيلم- في ظل ضعف الحكومة المركزية وأجهزتها الأمنية، وقد رصدت عدسة الكاميرا وقائع تدخلهم في حل النزاعات وحتى إلغاء أحكام قضائية عبر وساطاتهم لإقناع الطرف المتضرر بسحب دعواه من المحكمة والتنازل عن حقه مقابل حصوله على مبلغ مالي يقومون هم بجمعه من أفراد القبيلة ودفعه للمتضرر.

مُحافظ مقديشو عبد الرحيم عمر عثمان الذي قُتل في تفجير انتحاري نفذته انتحارية كفيفة

محافظ مقديشو.. حماس جيل السياسيين الجديد

قاد ضعف دور الدولة الوثائقي إلى السؤال عن الجيل الجديد من السياسيين، وكان محافظ مقديشو عبد الرحيم عمر عثمان واحدا منهم، ورغم تعرضه للتهديد من قبل “حركة الشباب” فإنه مصر على تحسين أحوال المدينة عن طريق توفير شبكة مياه صالحة للشرب، وبناء مؤسسات صحية تتوفر بها مستلزمات علاج جديدة، إلى جانب تحسين مستوى التعليم، والأكثر أهمية بالنسبة له هو استتباب الأمن وبشكل خاص مواجهة “حركة الشباب” المتطرفة.

خلال زيارة الوثائقي إلى مكتب عبد الرحمن ومرافقته في جولاته الميدانية يتضح أنه ترك عمله وإقامته في بريطانيا وعاد إلى مقديشو أملا في إصلاح أوضاع بلده المتردية.

ورغم رغبته في الإصلاح فإن ضعف ميزانية البلدية يشكل عائقا أمام مشاريعه، وكثيرا ما يؤدي إلى تأخير دفع رواتب موظفيه، وبالمقابل يشير الوثائقي إلى راتبه الشهري الكبير وكثرة رجال حمايته.

اغتيال المحافظ.. إذا صْرب الإمام خاف المؤذن

لم تمنع الحماية المخصصة لمحافظ مقديشو المسلحين من خرق صفوفها ومهاجمته أثناء استقباله مندوب الأمم المتحدة “جيمس سوان”، وأدى الهجوم الانتحاري الذي نفذته انتحارية كفيفة إلى مقتله ونجاة الزائر، وهو ما دفع الوثائقي للتعرف على نقاط ضعف الجهات الأمنية وعجزها عن حماية محافظ العاصمة.

يتبين من البحث أن شابة صومالية تعمل تحت لواء “حركة الشباب” المتطرفة قد تمكنت من العمل في مكتب المحافظ، ومن هناك كانت توفر معلومات للحركة عن أماكن وجوده.

دفع ذلك الكشف إلى مقابلة عضو سابق في الحركة دون الكشف عن هويته الحقيقة، وقد أوضح لهم أسباب تركه التنظيم عام 2015، ووصفه لحركة الشباب بالقوية لشدة تغلغلها بين الناس، وأنها عمليا حسب تجربته أكثر تنظيما من الدول الضعيفة.

الكاميرا تُسلط الضوء على نقطة تفتيش واقعة على حدود أطراف المدينة ومنها يتسلل عناصر التنظيم المسلح للقيام بعمليات انتحارية

ترميم المنظومة الأمنية والدفاعية.. جيل الضباط الشباب

لمعالجة نقاط الضعف عامة والأمنية خاصة ينشط ضباط شباب يحاولون بناء منظومة أمنية ودفاعية قوية، حيث يثبت الوثائقي كاميرته عند نقطة تفتيش واقعة على حدود أطراف المدينة ومنها يتسلل عادة عناصر التنظيم المسلح للقيام بعمليات انتحارية وهجمات على مواقع الجيش ومؤسسات الدولة في قلب العاصمة.

يشرح لهم ضابط شاب يجيد الإنجليزية أنه يستعين بحواسيب تضم معلومات استخبارية عن العناصر المشتبه بها، وفي حالة ظهورهم عند نقاط التفتيش يقوم أفراده بإلقاء القبض عليهم، وأثناء التصوير عند نقطة التفتيش يسمع فريق العمل صوت انفجار مدو يتضح أنه تفجير انتحاري أدى إلى مقتل شرطي وجرح عدد من رجال الشرطة.

السجن الأقدم في منطقة القرن الأفريقي، حيث يعيش السجناء أوضاعا بائسة وظروف غير صحية

سجون سيئة الصيت.. انتقادات في الأمم المتحدة

بعد محاكمة المسلحين المدانين يحالون إلى سجن المدينة وهو أقدم سجن في منطقة القرن الأفريقي، ويخبر الوثائقي أحد المشرفين على السجن بأنهم أول فريق تصوير أجنبي يُسمح له بالدخول والتصوير من داخله.

تكشف جولات الكاميرا بين العنابر عن أوضاع بائسة وظروف غير صحية يعيشها السجناء، مما دفع بعض المنظمات التابعة للأمم المتحدة إلى توجيه انتقادات حادة لإدارته وللحكومة، وكان من نتائجها تغيير أساليب التعامل مع السجناء وفتح دورات تأهيلية يتعلمون خلالها بعض المهن لتساعدهم على إيجاد عمل بعد انتهاء مدة سجنهم.

منظمات الأمم المتحدة التي تعمل في الصومال تعيش في عزلة تامة، ويتمتع موظفوها بامتيازات تستنزف من قيمة المساعدات

مليارات الدولارات سنويا.. فضائح تبخر المساعدات الأممية

في كل مرفق حكومي يزوره الوثائقي يُثبت بعد عرض تفاصيله قلة المُتغيّرات وانعدام التحسن فيه، رغم أن أغلبية المؤسسات الحكومية تحصل على مساعدات مالية من دول ومنظمات إنسانية يقدر مجموعها بأكثر من ملياري دولار سنويا، فأين تذهب الأموال، ومن الذي يستفيد منها إذا كانت أوضاع البلد باقية كما هي تقريبا؟

من المفارقات الصارخة أن منظمات الأمم المتحدة الإنسانية التي تعمل في الصومال تعيش في عزلة تامة، ويتمتع موظفوها بامتيازات تستنزف الكثير من قيمة المساعدات.

في مقابلة مع أحد المشرفين على فريق عمل تضامني تابع للأمم المتحدة يخبر الوثائقي أن راتب موظفيه يزيد على 10 آلاف دولار شهريا، وأنهم يتنقلون بسيارات مصفحة وبحماية رجال أمن من خارج البلد، ويبرر كثرة الامتيازات بخطورة العمل في الصومال، وبالتالي فلا بد من تقديم مغريات للراغب بالقدوم والعمل فيها.

يكشف الوثائقي الفرنسي فضائح متعلقة بمشروع سكني كبير مدعوم ماليا من الوحدة الأوروبية قد خُطط لإقامته في منطقة جميلة محاذية لساحل البحر ومجهز بوسائل راحة عصرية، بينما يتضح من خلال وسيط  صومالي حجم الفساد فيه، وكيف أن موظفين أوروبيين في بروكسل اشترطوا تقديم المساعدة بحصولهم على نسب من ميزانية الشركة المكلفة ببنائه، وإلا فسيعمدون إلى رفضه.

مجموعة من الخيم التي يسكنها فقراء مقديشو، والواقعة أصلا في منطقة غير صالحة للسكن

تدهور المجال الصحي.. “أين تذهب أموال المساعدات الأممية؟”

خارج إطار المساعدات الأممية تعمل منظمات تطوعية بجد وبشكل خاص في المجال الصحي. يزور الوثائقي مشروعا فرنسيا لبناء عيادة توليد في مقديشو، وكانت قد تقدمت به عام 1992 منظمة إنسانية، وتعاني العيادة اليوم من نقص كبير في عدد الممرضين وهي خالية من الأطباء.

تستقبل العيادة 140 حالة يوميا بينها 20 ولادة، وتُحيل المنظمة عدم وجود طبيب فيها إلى قلة إمكانياتها المالية وعجزها عن دفع راتب طبيب مختص.

كما تعاني بقية المستشفيات من نواقص جدية من أكثرها بروزا عدم توفر سيارات الإسعاف بشكل كاف، وقد دفع ذلك النقص الحاصل برجل أعمال للبدء بمشروع خاص لسيارات الإسعاف، ورغم قدمها فإنها تغطي بعض العجز الموجود.

يرافق الوثائقي تجربة موت طفلة مريضة تأخر وصولها للمستشفى، ويكشف الغياب التام للدولة ومؤسساتها الصحية.

ترافق كاميرا الوثائقي بعد دفنها عودة والديها إلى بيتهما الذي هو عبارة عن خيمة صفت بين بقية من الخيام الواقعة في منطقة غير صالحة للسكن؛ مما يدفع الوثائقي ليذكر بالسؤال الأول: أين تذهب أموال المساعدات الأممية، وهل سيحقق الصومالي حلمه يوما بالعيش في بلد تتوفر فيه الحدود الأدنى من مستلزمات الحياة العادية؟


إعلان