“بوليس”.. اللاجئ الذي أربك خطة الشرطة الفرنسية
ندى الأزهري
تتأثر الشرطية بهذا الرجل يجلس بجوارها ولا ينطق، وإن نطق فبلغة لا تفهمها، رجل يتملكه قلق عميق يتجلى في نظرة فزعة وحركة حذرة نائية، يكوم نفسه في طرف السيارة التي تنقله للمطار باستسلام ملفت لمصيره، تتألم له ويثير فضولها فتفتح ظرفا مغلقا موجها لهيئة الترحيل في المطار.
لم يكن عليها فتح الظرف، فهذه الشرطية الجميلة كانت مع رئيسها وزميلها في مهمة غير اعتيادية، فقد حدثت ظروف فرضت تطوعهم للقيام بهذه المهمة دون أن يدروا تماما طبيعتها وكيفية التعامل معها.
لقد وجدوا أنفسهم يقودون لاجئا سياسيا إلى المطار لترحيله، ويتبين من الرسالة الملف أنه شخص من طاجكستان خضع لتعذيب دفع به لمغادرة بلاده وطلب اللجوء في فرنسا، هنا عند هذا الموقف تبدأ فكرة فيلم “بوليس” الرئيسية بعد أن عرّف في الدقائق الأولى بشخصياته وحياتهم الشخصية الحميمة.
فكيف سيواجه كل منهم على حدة هذا التحدي، ويتصرف إزاء موقف قد يكون في العمق ضد قناعاته، بل كيف تتحول هذه القناعات، وهل تتحول حقا أم تبرز على السطح بعد طمرها، وإن حصل وتبين لأحدهم أنه لا يمكنه إنجاز المهمة -كما حصل مع الشرطية بالذات- فهل يغامر ويرفض مع ما يكون لهذا من تأثير مؤكد على حياته المهنية، أم يساير ويغض نظره لأنه ليس في موقع يسمح له بالتمرد؟
هكذا يبحر الفيلم الفرنسي “بوليس” في جوانب إنسانية من عالم الشرطة، باحثا في تناقضات الشخصيات الرئيسية ونظرة كل منهم إلى نفسه من جانبها الإنساني وإلى واجبه المهني وما يقع من تصادم بينهما يستوجب الاختيار بين القلب والعقل.
مشاهد الأماكن المغلقة.. رحلة للغوص في لغة الملامح
قامت بكتابة السيناريو والإخراج في الفيلم المخرجة الفرنسية “آن فونتين” التي أخرجت أكثر من عشرين فيلما، ويتناول الفيلم هذه المشاعر التي تدور في البدء صمتا بين الثلاثة، فينفذ في أعماق كل شخصية، ويبرز ما يعتمل في داخلها من أفكار ومشاعر عبر لغة بصرية تعتمد في معظم الأحيان على اللقطات المقربة جدا، فتلتقط أدق التفاصيل المعبرة عن الوجوه عند مواجهة كل فرد لحقيقته خلال أداء مهمة لم يكن مهيأ لها.
كما اعتمد السرد على تصوير معظم مشاهد الفيلم في أماكن مغلقة كالبيوت ومخفر الشرطة والسيارة والمطار، مما يسمح بترصد كل انفعال، وقد برع مدير التصوير “أيف أنجلو” في لقطاته كما في تصوير مشاهد الليل الخارجية في باريس.
تقديم الشخصيات.. رائحة الروايات البوليسية
عمدت المخرجة الفرنسية في فيلمها -المأخوذ عن رواية تحمل نفس العنوان للكاتب “هوغو بوريس” وصدرت عام 2016 في فرنسا- إلى الاهتمام بقصة كل شخصية من الشخصيات الثلاث على حدة قبل أن تضعها في موضع الخيار الصعب.
بدأت عند تقديم الشخصيات بأجزاء من حياة الشرطية “فيرجيني”، ثم انتقلت إلى زميلها “أريستيد” ثم إلى الرئيس مستخدمة أسلوب رواية نفس الحادثة من وجهة نظر أبطالها، وهو أسلوب سمح بإظهار عدد من الأشياء دون شرح كثير.
فعلى سبيل المثال لم تبد العلاقة التي كانت بين الشرطية “فيرجيني إفيرا” وزميلها الأسود “أريستيد” (الممثل الفرنسي عمر سي) واضحة إلا من خلال إعادة رواية نفس الموقف من وجهة نظر الزميل.
ثلاثي الشرطة المتناقض.. صراع الرقة والبرود والانضباط
لا ينتمي الفيلم إلى نوعية الأفلام التي يكون أبطالها من الشرطة، حيث الإيقاع السريع والجرائم والحدث هو المركز الذي تدور حوله القصص، بل تبدو أهميته في أسلوبه الإخراجي الذي هو أقرب إلى الأفلام التي تضيء النفس الإنسانية.
فالشخصيات هنا هي المحور، وفكرة الفيلم تدور حول كيف ترى هذه الشخصيات الحدث وتتعامل معه، وكيف تنعكس حياتها الشخصية على أدائها، وعن ماذا تعبر مواقفها وما الذي تدعونا للتفكير فيه؟ بين شرطية رقيقة القلب تفكر فورا بترك اللاجئ يهرب، وزميل غير مبال، فكل ما يهمه هو تأدية العمل كما يجب، ورئيس للفريق يعي تماما مسؤولياته، فيحترم القوانين ويطبقها دون أن يعني هذا عدم خضوعه أحيانا لمشاعره ضد ما يجب القيام به.
“فرجيني إفيرا”.. تمزق مبهر وغموض جذاب
كان أداء الأبطال الثلاثة عاملا مهما في تقبل الفيلم، فالاستعانة بممثلة من مستوى “فرجيني إفيرا” في دور الشرطية كان موفقا لما لها من أداء رائع وحضور جذاب، لقد أجادت التعبير عن عواطفها الداخلية وتمزقها في مهمتها الجديدة.
كما في العلاقة الجديدة مع زميلها “أريستيد” التي فرضت على حياتها زواجا بعد سبع سنوات من الزواج، وهي علاقة غامضة في دوافعها، ربما لشهوانية أو ملل من الزواج أو انجذاب إلى هذه الشخصية البسيطة المرحة التي هي على النقيض منها تماما في طبيعتها وأفكارها، وقد وجدت فيها نافذة للهروب من أجواء ثقيلة ومرهقة نفسيا في البيت والعمل.
عمر سي.. خضوع مبهر لمتطلبات الشخصية
كان “أريستيد” الذي تعلق بـ”فرجيني” سندا لها في العمل، ولم يتوان عن دعمها في رغبتها بترك اللاجئ يهرب، رغم عدم اكتراثه بقصة المُرَحّل في البدء، وظهوره بمظهر العارف بألاعيب اللاجئين وحيلهم واختراعهم القصص للحصول على اللجوء، ومن المثير أنه شخصية لم يتوسع السيناريو في التعمق فيها كحال زميليه، وخارج إطار العمل لم نعرف عنه سوى اهتمامه بجدته المريضة.
كان “أريستيد” الشخصية الوحيدة المبهجة رغم فقرها وثقافتها المتواضعة -حسب تلميحات دائمة من الرئيس على ضعف “اريستيد” في كتابة اللغة الفرنسية- وقد أدى دور الشخصية عمر سي النجم الأكثر شعبية لدى الفرنسيين، وكان في أفضل أحواله مبتعدا عن الطبيعية المفرطة خاضعا لمتطلبات الشخصية.
وجاء دور رئيسهم “غريغوري غودبوا” -الذي كانت حياته كئيبة مع زوجة تحول حياته جحيما لأنه لا يلد- في إكمال المشهد، بل يمكن القول إنه كان محور بقية الأدوار، وكأنه الركيزة التي لولاها لما ظهر هذا الفريق على هذا التماسك، فقد ساهم في نجاح الكل.
“بيمان مُعادي”.. مدرسة السينما الإيرانية المبهرة
جسد دور المهاجر في الفيلم الممثل الإيراني المُلفت “بيمان معادي”، وهو أحد أفضل الممثلين الإيرانيين اليوم وبطل فيلم “انفصال” (2011) للمخرج الإيراني “أصغر فرهادي”. وقد أبدع “معادي” في دور المهاجر الخائف الذي يحذر أي سلوك من الشرطة، ولا يمكن له أن يتخيل سماحهم له بالفرار حتى لو كان الأمر واضحا.
لقد بقي مصرا على البقاء في مكانه لدرجة أفقدتهم صبرهم، وهذا بدون كلام مكتفيا بترديد بعض العبارات بالفارسية في لقطتين، لقد كان أداؤه وتعبيره عن الشخصية في غاية الدقة لا يدعمه إلا دواخله لتمرير عواطف صعبة من الشك والحذر والذعر والحيرة والاضطراب بدون أدنى مبالغة، وقد اكتشفته المخرجة من خلال أفلام “أصغر فرهادي” وأبهرت بأدائه.
يوميات الشرطة.. إبحار المخرجة في تفاصيل العالم الحقيقي
في فيلم متقشف حساس ترسم المخرجة “فونتين” مهنة بأبعادها الإنسانية، وتبرز يوميات عمل صعب وتعقيدات النفس البشرية، لكنها تبالغ أحيانا في إبداء هذه اليوميات وتفاصيل أحداث تواجه أبطالها في عملهم، كالزوجة المضروبة في مشهد طال دون وجود مبرر درامي له إلا ربما تبيان أحاسيسهم الرقيقة واندفاعهم.
وقد قضت المخرجة وقتا لسرد قصص هؤلاء الناس في مخافر الشرطة خلال كتابة السيناريو، والتقت مع بعض الرجال والنساء خلال أدائهم لعملهم وتدريباتهم، واطلعت بذلك على حركات معينة يقومون بها.
وقالت في حديث ترويجي للفيلم: أجريت لقاءات مع رجال ونساء وكانت إنسانية جدا، معقدة أحيانا وبسيطة في أحيان أخرى، وجدت أناسا لا علاقة لهم بالأفكار المسبقة والأحكام وكان هذا مهما لي لتكون الشخصيات دقيقة وقابلة للتصديق، أي حقيقية، كما يعطي هذا شيئا من التوثيق للمهنة.