السينما المصرية.. انتصاران لسعاد حسني على محظورات المجتمع
الفنان المصري هشام عبد الحميد
قدمت السينما المصرية مئات الأفلام بمختلف أنواعها وأجناسها، لكن يبقى السؤال المطروح هو هل كانت معظم هذه الأفلام تقدم الحقيقة وتغوص بها لتطرح معالمها وتسلط الضوء على الواقع بموضوعية وعمق، أم أنها كانت في معظمها تقدم التسلية والإمتاع معتمدة على ظاهر الواقع لا حقيقته، ونافية بذلك سينما الحقيقة الكاشفة للمتلقي جوهر وجوده وإشكالياته الحياتية في مواجهة ثلاثي المحظورات السياسة الجنس والدين؟
سنقدم على ذلك نماذج تعكس ملامح كل من النوعين على حدة، ونبدأ بفيلم “خلّي بالك من زوزو” الذي قام بإنتاجه تاكفور أنطونيان في نوفمبر عام 1971، من سيناريو وحوار صلاح جاهين، وإخراج حسن إمام، وهو من بطولة سعاد حسني وتحية كاريوكا وشفيق جلال وحسين فهمي وسمير غانم وعباس فارس وزوزو شكيب وشاهيناز طه.
“زوزو”.. ابنة شارع محمد علي المتفوقة
يدور الفيلم حول زوزو (الممثلة سعاد حسني) ابنة نعيمة ألماظية (الممثلة تحية كاريوكا) العالمة بشارع محمد علي، والتي اضطرتها الظروف بعد موت زوجها والد زوزو إلى أن تتزوج بشلبي (الممثل شفيق جلال)، وكانت نعيمة تجني قوت يومها بالرقص في الموالد والأفراح الشعبية.
تلتحق زوزو بكلية الآداب انتسابا من دون أن تتابع الحضور بسبب عملها كراقصة ومغنية مع والدتها التي تحيي الأفراح، إلا أنها تقرر في السنة النهائية أن تتحول إلى الانتظام في الدوام وتحضر المحاضرات غير عابئة باكتشاف الطلبة بأنها ابنة ألماظية العاملة بشارع محمد علي.
تسجل زوزو تفوقا ملفتا وتشتهر في الكلية بجمالها وخفة دمها وروحها الفنية المتدفقة، وهذا ما دفع اتحاد الطلبة وقتئذ إلى تكوين فريق تمثيل للكلية، فيأتي مخرج من الخارج وهو سعيد كامل (الممثل حسين فهمي) ومعه مساعده سليمان (الممثل سمير غانم)، ومن أول وهلة تتلاقى العيون ويزهر الإعجاب بين المخرج وزوزو لتبدأ قصة حب بينهما.
خطبة للزواج.. فوائد قوم عند قوم مصائب
كان الفارق الطبقي كبيرا بين الطالبة المجتهدة الذكية “زوزو” وبين المخرج الأستاذ المشهور، فالأستاذ من عائلة أرستقراطية بعيدة المقام من مقام زوزو، وعندما يقرر سعيد الارتباط بها تختفي خوفا من معرفة حقيقة طبقتها الفقيرة وأنها من شارع محمد علي، إلا أن سعيدا يعلم بكل شيء ويرسل إليها مساعده ليخبرها بإصراره على الارتباط بها.
يخبر سعيد أباه كامل الشنواني (الممثل عباس فارس) عن رغبته بالارتباط بزوزو التي لم تكن من مستواه الاجتماعي، وعندما تعلم نعيمة (الممثلة زوزو شكيب) التي تطمع في أملاك العائلة الثرية وتخطط لزواج ابنتها نازك (الممثلة شاهيناز طه) من سعيد كامل، فإنها تقرر عمل حيلة لإفساد هذا الزواج.
تنتهز نعيمة فرصة إقامة حفل زواج داليا أخت سعيد، فتطلب فرقة نعيمة الألماظية لتقدم فقرة في الفرح بشرط أن ترقص نعيمة الألماظية، وكان المقابل سخيا لدرجة اضطرت نعيمة للموافقة رغم توقفها عن الرقص منذ زمن بسبب بدانتها.
ليلة حفل موعودة.. انتصار الحب على الفوارق الطبقية
تأتي الليلة الموعودة ويتفاجأ الجميع وزوزو أولهم بوجود الأم وفرقتها وسط سخرية أصدقاء نازك من هذه الفرقة الشعبية ذات المستوى المتدني بنظرهم، وأمام هذه الصدمة الصاعقة تضطر زوزو مجروحة الكرامة أن تعانق أمها بمنتهى الحنان وتنحيها عن الرقص برقة، وتنزل إلى حلبة الرقص بروح تتحدى بها الجميع معلنة عن حرفتها للحاضرين.
تقدم زوزو فاصلا من الرقص بكبرياء ساحرة ساخرة من عنجهية هذه الطبقة ونفاقها، ويتفهم سعيد أبعاد المؤامرة، ويصر على الارتباط بزوزو، وبالفعل ينتهي الفيلم النهاية السعيدة بزواج البطلين.
“أفشل فيلم صنعوه”.. مفاجأة كبرى في دور السينما
نجح الفيلم نجاحا منقطع النظير، وكان النجاح باهرا لدرجة أن عرضه استمر لمدة سنة، ولم يرفع من دور العرض إلا بسبب قيام حرب أكتوبر، كما طال النجاح في العرض أرجاء العالم العربي الذي فُتن بأداء سعاد حسني، ونافس الفيلم في نجاحه الفيلم الأيقونة “أبي فوق الشجرة”.
لكن بنظرة فاحصة إلى أحداث الفيلم التي كانت تنبئ بتحول المجتمع المصري -حيث بدأ صعود طبقة جديدة من قاع المجتمع ووجوب مباركة هذا الزواج بين طبقة الإنتلجنسيا (النخبة المثقفة) والطبقة الدنيا-؛ فبالطبع لم يقدم الفيلم منطقا موضوعيا، وإنما قدم مجرد ثرثرة بانفعالات متأججة من أبطال الفيلم سرعان ما يكتشف المشاهد عدم معقوليتها ومنطقها المعوج.
أذكر تأكيدا لهذا أن صلاح جاهين وحسن إمام ذهبا إلى المنتج تاكفور أنطونيان قبل عرض الفيلم بأسبوع لكي ينهوا شراكتهم بالفيلم؛ لأنه على حد قولهم أفشل فيلم صنعوه، وقد حاول تاكفور عبثا أن يثنيهما عن قرارهما إلا أنهما رفضا.
عرض الفيلم بعد أسبوع ونجح، وفي تقديري أن تسجيل هذا النجاح يعود لعاملين أساسيين هما الأبطال والمخرج، فسعاد حسني كانت حلم الجمهور في تلك الفترة، كما أن إيقاع الفيلم المليء بالأمل والحيوية والشباب مدعوما بأغاني أصبحت أيقونية فيما بعد وموسيقى تنبض بالجمال والبهجة؛ كل هذا أدى إلى نجاح الفيلم حتى ولو كان بدون عقل.
“أهل القمة”.. ظروف خانقة تقض مضاجع الجميع
فيلم “أهل القمة” اقتباس من قصة نجيب محفوظ، وكتب له السيناريو والحوارات مصطفى محرم، وقام بإخراجه علي بدر خان، وكان مدير تصويره محسن نصر، وصنع له الموسيقى جمال سلامة، وهو من بطولة سعاد حسني ونور الشريف وعزت العلايلي وعمر الحريري ونادية عزت.
يدور الفيلم حول ضابط المباحث محمد فوزي (الممثل عزت العلايلي) المتزوج من سناء (الممثلة نادية عزت) وابنتيه آمال ومنال.
تضطر شقيقة الضابط زهيرة (الممثلة نادية رفيق) وابنتها سهام (الممثلة سعاد حسني) أن تقيما معه بسبب هدم منزلهما، وتعمل سهام في مهنة متواضعة، فهي حاصلة على الثانوية العامة، وتحاول الارتباط بجارها القديم رفعت (الممثل صلاح رشوان)، إلا أن الظروف المالية تقف حائلا أمام إتمام الزواج.
كان رفعت يعتزم السفر لأي دولة أخرى لكي يؤمن مستقبله إلا أن خال سهام يرفض انتظاره وتعطيل فرصة زواج مناسبة لسهام، لذلك يرفض ذلك الارتباط.
يعاني الجميع في هذا الجو الخانق، فزهيرة تعاني من تحمل كل أعباء العمل بالمنزل حيث تستغل زوجة أخيها وجودها في ضيافتهم، وسهام تريد الارتباط، والزوجة تعاني من وجود أهل زوجها، كما أن فوزي يعاني أيضا من أزمات اقتصادية نتيجة لدخله المحدود.
زغلول رأفت.. وراء أكمة الأرستقراطيين ما وراءها
يلعب نور الشريف في الفيلم شخصية زعتر النوري، وهو من الطبقة الدنيا، ويلتقي بزملائه في النشل على قهوة الحنش (الممثل إبراهيم قدري)، أما زملاؤه فهم سمسون (الممثل حلمي عبد الوهاب) وظاظا (الممثل مطاوع عويس) وجلجلة (الممثلة عايدة رياض) التي تحبه، وقد تمكن الضابط فوزي من القبض على زعتر وسجنه ستة أشهر.
إن شخصية زغلول رأفت (الممثل عمر الحريري) وأمثاله شخصيات نموذجية للتعبير عن أهل القمة، أولئك الذين يظهرون ما لا يبطنون ويتسترون بالفضيلة الكاذبة، لكن وراء الأكمة ما وراءها.
يبدو زغلول شريفا وفاعل خير ظاهريا، إلا أنه فاسد ومتهرب من الجمارك، وله علاقة بكثير من المسؤولين الفاسدين لحمايته وإنقاذه إذا تطلب الأمر. يستعين زغلول بزعتر لمعرفة النشال الذي سرق محفظته وينجح زعتر في مهمته، ويطلب من زغلول أن يجد له عملا شريفا، فيستغله بنشل حافظة التاجر أبو صالح (الممثل حسن حسين) وبها شيك كان قد وقعه.
ثراء تهريب البضائع.. قصة حب على غير ميعاد
استطاع زعتر أن يحصل على ثقة زغلول الذي يشركه معه في شركة لتهريب البضائع، فيستعين زعتر بأصحابه القدامى بالتهريب، ويغير اسمه إلى محمد زغلول برشوة دفعها لموظف السجل، ويتقابل بالصدفة مع سهام التي تُعجب به وتنبهر بإمكانياته المادية ويقرران الارتباط، ولكن معرفة فوزي -أخيها الضابط- بأصل محمد زغلول حال دون إتمام الزواج.
على الجانب الآخر استولى زعتر على إحدى التهريبات واستقل عن زغلول؛ الأمر الذي دفع زغلول إلى كشفه أمام ضابط المباحث فوزي، ولم يكتف بذلك بل طلب من سهام الزواج، فوافق الخال وكذلك الأم، مما دفع سهام إلى الهرب إلى زعتر الذي يرفض استغلال ضعفها واحتياجها.
ساعد زعتر سهام على إيجاد عمل تجاري في بورسعيد لتستقر وبعدها تقرر وتختار بحريتها، وعلى الجانب الآخر فشل فوزي بالإيقاع بزغلول بعد أن ضبط مساعده حسني (الممثل محمود القلعاوي) بعملية تهريب واعترف بها، ولكن أحد المسؤولين أنقذ زغلول رأفت ونُقل فوزي إلى مكان آخر.
“الجمهور عايز كده”.. نجاح فني يكسر القاعدة
إذا قدمنا قراءة سريعة لفيلم “أهل القمة” الذي سجل نجاحا كبيرا بدور العرض السينمائي وقتئذ رغم جدية موضوعه وتجهم أحداثه إلى حد ما، فإن الإيجابي به هو أنه يدحض مقولة “الجمهور عايز كده”، وإذا كان فيلم “خلّي بالك من زوزو” قد تنبأ وبارك الزواج الشرعي بين الطبقة الأرستقراطية والطبقة الدنيا، فإن فيلم أهل القمة فيه إشارة إلى طبقة جديدة ستسود، وهي طبقة الانفتاح الاقتصادي التي قضت على الطبقة الوسطى تدريجيا.
حلم المدينة الفاضلة.. تقديم الحقيقة المرة الصادمة
لئن كان “خلّي بالك من زوزو” قد قدم الوجه الجميل والصحي لهذا التزاوج كيوتوبيا حالمة بمدينة فاضلة -تعترف بالمختلف عنها على أي مستوى حيث يعيش الناس في سعادة وراحة بال- دون الدخول بعمق حول طبيعة هذه العلاقة وماهيتها وتأثيرها على المجتمع ومكتفية بتصدير حالة من السعادة والبهجة المزيفة؛ فإن الفيلم يطرح طبيعة هذه العلاقة وآلياتها بالتفصيل وبحقيقتها المرة وخطرها الداهم على المجتمع عندما تسود قيم البلطجة والكسب غير المشروع.
فتحول معظم الشخصيات إلى مسوخ يذكرنا بتحول سكان المدينة إلى خراتيت باستثناء “بيرانجيه” بطل مسرحية “الخرتيت” للكاتب “أوجين يونسكو” الذي يرفض هذا التحول. تنتهى المسرحية وسكان القرية المتحولين يحاولون أن يقتحموا منزله، وهو صامد ورافض أن يفقد إنسانيته، ليتحول إلى مجرد خرتيت.
وهكذا الضابط محمد فوزي في فيلم “أهل القمة”، حيث يرفض الفساد وأن يتحول إلى ترس في منظومة الانفتاح الاقتصادي رغم كل المغريات، ورغم صعوبة حياته المعيشية ومعاناته هو وأسرته، ونهاية نحن أمام نموذجين من السينما؛ نموذج يقدم واقعا ممتعا بلا عقل، ونموذج يقدم الحقيقة حتى ولو كانت صادمة ومرة.