“غرايهاوند”.. معركة الكلب السلوقي والذئاب الرمادية إبان الحرب العالمية

المواجهة في المحيط تشبه كثيرا المواجهة في البر، بل هناك ترابط وثيق بينهما، والدليل بأن جيش “هتلر” في هذا الفيلم سمّى غواصاته بـ”الذئاب الرمادية” والجيش الأمريكي سمّى مدمراته بـ”الكلب السلوقي” لتقع المواجهة الكبرى بينهما بين أمواج البحر المتلاطمة فلمن تكون الغلبة يا ترى؟

تناولت هوليود قضية الحروب بأشكال عدة، وعبر أزمنة وحقب مختلفة، خاصة الحروب التي كانت الولايات المتحدة الأمريكية طرفا فيها، وقد ولّد هذا الاهتمام الكبير تنوعا في المعالجة والرؤية، ووصل الأمر إلى خلق مئات الأفلام التي جسدت الوقائع المهمة في الحربين العالميتين الأولى والثانية.

وقد ركزت بشكل استثنائي على الحرب العالمية الثانية لأن الولايات المتحدة كانت طرفا رئيسيا وفاعلا فيها، وأكثر من هذا فقد شهدت من خلالها الكثير من المآسي والوقائع والمعارك المهمة التي سالت فيها الدماء بغزارة مثل هجوم اليابانيين على الأسطول الأمريكي الذي كان في ميناء “بيرل هاربر”.

هوليود.. نهم التوثيق لانتصارات أمريكا التي لا تهزم

لم تمر واقعة الهجوم على ميناء “بيرل هاربر” دون أن تقوم هوليود على مدار عقود بإنتاج عشرات الأفلام حولها من زوايا ومحطات زمنية مختلفة تدخل كلها من باب أفلام الحرب العالمية الثانية الموزعة على البر والبحر والجو، فبعضها جرت أحداثه في أمريكا وبعضها بين أوروبا وباقي مناطق العالم.

وتتمحور هذه الأفلام حول الجوانب السياسية أو الالتحام المباشر والمعارك الفاصلة في الميدان، وكأن هناك رغبة جامحة لدى الأمريكي في أن يعيد تجسيد تلك الوقائع حسب رؤيته، وأكثر من هذا فإنه يريد نقل الآلام التي تسببها الحروب حتى يتجهزوا لها بشكل واسع، وفي نفس الوقت يعيدون تجسيد بطولات أسلافهم وإظهارها للعالم مع إضافة توابل التشويق، لتظهر أمريكا في ثوب الدولة الخارقة التي لا تهزم.

بمعنى أن هذه الأفلام تقف على حادثة تاريخية حقيقية، ثم تقوم بتزيينها وتقديمها للمشاهد العالمي من جديد، وهذا ما حدث في الوقائع الحربية التي حدثت في البحر خاصة على طريق الإمدادات التجارية والحربية عبر البحر بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا عن طريق المحيط، وقد كانت هذه السفن صيدا سهلا للغواصات الألمانية التي كانت تتسلل في الماء كذئاب جائعة.

كانت المواجهة في هذا الفيلم على أشدها بين “الكلب السلوقي” -وهي المدمرة الأمريكية التي كُلّفت بحماية الأسطول البحري المحمل بالجنود والعتاد المتوجه إلى بريطانيا- وقطيع “الذئاب الرمادية” الذي تعكسه الغواصات الألمانية القوية والخطيرة.

قيادة المدمرة “غرايهاند”.. تكليف شاق في معمعان الحرب العالمية الثانية

أُنتج فيلم “غرايهاوند” (Greyhound) سنة 2020، ومعنى الاسم “كلب سلوقي”، وهو من إخراج “آرون شنايدر” ولعب دور البطولة فيه النجم الكبير “توم هانكس”، وقد اقتبس العمل من رواية “الراعي الصالح” الصادرة سنة 1955 للكاتب “سي أس فروستر” الذي استوحى جزءا منها من أحداث تاريخية حقيقية.

ينقل الفيلم حدثا تاريخيا مهما وقع في خضم الحرب العالمية الثانية في سنة 1942، حين كُلف الضابط البحري “إيرنست كروس” (الممثل توم هانكس) بقيادة المدمرة “غرايهاوند” وقطعتين بحريتين، حيث ترتكز مهمته -التي تعتبر الأولى في مساره- في حماية أسطول السفن من الغواصات الألمانية التي تترقبهم في نقطة مهمة في المحيط الأطلسي تسمى “الحفرة السوداء”، وهي منطقة لا تستطيع الطائرات الأمريكية أو البريطانية الوصول لها وحمايتها من الجو.

ومن هنا تبدأ مهمة “غرايهاوند” في لعب دورها في الحماية والقضاء على قطيع  “الذئاب الرمادية” التي تتربص بـ”الكلب السلوقي” وباقي السفن على مدار 50 ساعة كاملة قبل عودة الحماية الجوية في ظروف بحر هائج وطاقم خائف وقبطان لم يختبر بعد قيادته الجديدة، نظرا لنقص الخبرة وتردده في بعض الأحيان عند وقوفه على قرارات مهمة تصنع الفارق في سلامة الأسطول البحري وطاقمه وحمولته من الجنود والعتاد.

خلال هذه المواجهة الميدانية بين أعتى قوتين عسكريتين في تلك الحقبة الزمنية التي وقف عليها الفيلم تنصهر النفس البشرية وتتشكل من جديد على هيئة آلة بلا مشاعر لمواجهة البقاء والوجود، وكل رقعة تحارب من موقعها للحفاظ على مكتسبات القوة والسلطة والامتداد.

تعكس إحدى هاتين القوتين جبروت الحزب النازي الذي يقوده “أدولف هتلر”،  ويملك أقوى جيوش العالم، ولديه الكثير من الأسلحة الفتاكة ومن بينها الغواصات الذي أطلق عليها “الذئاب الرمادية”، والقوة الثانية هي المدمرة الأمريكية التي يطلق عليها هي الأخرى “غرايهاوند” أو الكلب السلوقي، لتقع بينهما المواجهة المباشرة والصراع من أجل البقاء.

الممثل “توم هانكس” بطل فيلم “غرايهاوند” طوّع خبرته الطويلة في التمثيل في العديد من الأفلام التي أدى فيها شخصيات حربية

“توم هانكس”.. ظلال الخبرة الطويلة في السينما الحربية

طوّع الممثل “توم هانكس” بطل فيلم “غرايهاوند” خبرته الطويلة في التمثيل التي جسد من خلالها على مدى عقود من الزمن شخصيات حربية مختلفة من بينها فيلم “إنقاذ الجندي ريان” (1998)، و”جسر الجواسيس” (2015) للمخرج “ستيفن سبيلبرغ”.

وقد شارك في الأول كجندي في الحرب، وفي الثاني كطرف مدني وصلته شرارة المواجهة الباردة بين الدول التي ولدت من الحروب، كما عكس التجربة البحرية في فيلم “القبطان فليبس” (2013) للمخرج “بول غرينغراس”، واستلهم منها كيفية صناعة المواجهة في البحر، إضافة إلى تجاربه في أفلامه الأخرى التي تعتمد على مبدأ المواجهة مع الذات والآخر، كما استفاد أكثر من هذا من كلاسيكيات السينما الأمريكية التي أنتجت أفلاما مهمة وخالدة حول الغواصات الحربية البحرية خلال الحروب والمواجهات العسكرية.

وقد شجّعت هذه التراكمات المعرفية لدى “توم هانكس” أن يقوم شخصيا بكتابة وإنتاج هذا الفيلم رغم كونه جاء في عز أزمة فيروس كورونا الذي أصيب به، لكن يجب الاعتراف بأن أكثر ما برز في هذا العمل هو الأداء القوي والمعتاد لدى “توم هانكس”، حيث نجده يتحكم في درجات الانفعال والإثارة الموزعة في الفيلم.

يتجسد هذا الانفعال العاطفي في ملامح وجهه القوية التي تجسد بسهولة ما يمكن أن يحس به القلب من مشاعر الخوف والهلع والنصر والإثارة والتردد والقهر والندم والحزن، هذه الحالات الإنسانية يعبر عنها “توم هانكس” بمقدرة كبيرة، ويجعلها تنتقل بسهولة إلى المتلقي الذي يرى بأنها جزء من طبيعة هذا الممثل الذي يتعامل مع أدواره بحب واحترام، لهذا نجده يجسدها بتلك المقدرة.

ثراء الفيلم بالمصطلحات الحربية.. رحلة إلى ميدان المعركة

جاء فيلم “غرايهاوند” غنيا بالمصطلحات الحربية التي تجسدها تسميات مثل الغواصات والمدمرات والقطع البحرية، وهذا ما ركّز عليه هذا العمل بشكل كبير، حيث يمكن للمشاهد أن يعرف بسهولة دور السونار في معرفة مكان الغواصات، ودور الرادار في رصدها وقياس المسافة بينها، والخريطة الإلكترونية التي يجري الاعتماد عليها وقياس المسافات بينها وقنبلة العدو.

كما يمكن أن يعرف أيضا المناورات والترددات بين السفن، والشيفرات وقراءتها وتفكيك رموزها، وكيفية تواصل الخصوم، والطوربيد، وغيرها من المصطلحات الأخرى التي احتفى بها الفيلم، لكن هذا وحده لا يكفي لصناعة فيلم سينمائي جيد، لأن التركيز عليها بشكل كبير يخلق مشكلة في السيناريو، وهذا ما حدث في  فيلم “غرايهاوند”.

فضاء محدود في المشاهد الداخلية.. رهان على نجومية البطل

نجد في الفيلم بأن خيارات القص وصناعة الإثارة كانت محدودة جدا، لأن العمل لا يحتوي على قصص ثانوية يمكن الاعتماد عليها لتكون رافدا مهما لتحرير الفيلم من الاتجاه الواحد، بل إن السيناريو ركز على فضاء محدود في المشاهد الداخلية، وهو مقصورة القيادة التي كانت مكتظة بطاقم المدمرة.

من هنا جاءت بؤرة الرؤية لدى المشاهد ضيقة ومركزة بشكل تجعله ينتظر أي فرصة تتحول فيها عدسة الكاميرا إلى مشهد خارجي حتى ولو كان محدود التفاصيل، وبالتالي فإن هذه المعطيات المغيّبة ساهمت في أن يكون السيناريو بلا روح، وبلا هامش للمراوغة، ولا يقدم أي تفاصيل صغيرة يمكن من خلال جمعها أن تصنع فيلما خالدا، لكن هذا ما لم يحدث في هذا الفيلم العادي.

فقد راهن الفيلم بشكل كبير على نجومية “توم هانكس”، وهذا هو الرهان الرابح في أي فيلم يدخله هذا الممثل المقتدر، لهذا نجد بأن التشخيص في العمل غطى على العديد من الجوانب الأخرى وجعلها أشياء يمكن تجاوزها.

أفرز فيلم “غرايهاوند” مستويات جمالية متعددة منها ما هو بصري تعكسه صور البحر القاتمة التي توحي بفضاء بين الحياة والموت، حيث مرحلة برزخية تزرع نوعا من الخوف والهلع والترقب في نفسية المشاهد، أما الجماليات الروحية فيعكسها قبطان السفينة حين فقد الطباخ الأمريكي من أصول أفريقية الذي ترك مطبخه وذهب للمواجهة، وهو الأمر الذي أحزن الجميع، وقد نظمت له مع من فقدوا جنازة رسمية على ظهر السفينة حتى تظهر إنسانية القبطان والجيش وخلفهما أمريكا بشكل عام.