“ابن وأم”.. مأساة ليلى التي تخلت عن ابنها في شوارع طهران

قيس قاسم

يُقَسم عنوان الفيلم الإيراني “ابن وأم” علاقة شديدة التشابك بين طرفين هما الأم وابنها، ففي الظروف العادية وفي سياق العيش الإنساني السوي؛ يبدو هذا الأمر صعبا وغير منطقي، لكن الضغوطات الحياتية تسمح بحدوث مثل ذلك الانفصال المؤلم أحيانا، وتحيل حياة الطرفين إلى جحيم، وهذا ما سعت لتجسيده المخرجة الإيرانية “ماهناز مُحمدي” في فيلمها الروائي الطويل الأول “ابن وأم” (بالفارسية: پسر.. مادر).

واستنادا على النص الذي كتبه المخرج والسيناريست الإيراني الشهير “محمد رسولوف”، فهي تعمل على صنع منجز سينمائي مهم شديدة الصلة بأوضاع بلدها الحالية، وانعكاسات الأزمة الاقتصادية على فئات واسعة من المجتمع، واضعة الأم الوحيدة والمُعيلة لأطفالها في مركز الحدث الدراماتيكي، كونها الأشد حساسية وتأثرا عندما تجد نفسها على تماس مباشر مع تلك الأوضاع القاسية المنسحبة على الحياة بأكملها.

 

فوضى الدقائق الأولى.. أساليب السينما الإيرانية

يجر الفيلم الباهر المُشاهد مباشرة إلى بؤرة التوتر، من خلال مشهد افتتاحي تظهر فيه الأم ليلى (الممثلة راها خوداياري) وهي تسحب كتل الحديد المنصهر داخل مصنع كبير، وبعده مباشرة نراها مُهروِلة نحو حافلة الشركة التي تنقل العمال إلى بيوتهم. تتجنب الأم في مقعدها نظرات السائق كاظم (الممثل رضا بهبودي) إليها، في حين تتجه أنظار بقية العمال نحوها لالتقاط أي إشارة أو استجابة مُحتملة تعزز شكوكهم بوجود علاقة بينهما. وفي المنزل البسيط يرعى ابنها أمير (الممثل ماهان ناسيرينيا) البالغ من العمر 12 سنة أخته الصغيرة في غيابها.

بأسلوب بسيط اعتادت عليه السينما الإيرانية بأنها تجمع في الدقائق القليلة الأولى من الفيلم أطراف العلاقات المتفاعلة بقوة، وبشكل خاص في الفصل الأول المكرس كله تقريبا للأم، حيث تعتني مَشاهده بنقل انفعالاتها وقلقها على مستقبلها المهدد ومعها أطفالها.

وبتكريسها فصلا دراميا خاصا لكل من الأم والطفل؛ تحاول المخرجة عرض جوهر الحكاية، وعلى أساسها تتمكن من زجّ أطراف ثانوية أخرى إلى دائرة حياتهما الضيقة، لتلعب دورا في مساراتها التراجيدية المؤلمة.

الأم الإيرانية ليلى تحضن ابنها أمير بشدة، فهي ترعاه من دون وجود زوج أو أقرباء معها

 

أم وحيدة في إيران.. تسلل بين خيوط السياسة والمجتمع

رعاية الأم ليلى لطفليها من دون وجود زوج أو أقرباء معها يزيد من مشاكلها داخل العمل، حيث تصل أحيانا متأخرة إلى المصنع، مما يهدد بتسريحها وطردها منه، مثل أعداد كبيرة من زملائها الذين بدأ أصحاب المصنع بتسريحهم لقلة مردوده المالي المتأتية أسبابها من الضائقة الاقتصادية والمقاطعة الغربية.

تتجنب صانعة الفيلم بذكاء الوقوع في المباشرة والخطاب السياسي المعارض، حيث تُسرب مواقفها ورؤيتها المتوافقة مع كاتب السيناريو بحذر إلى متن النص، فهي تريد من المُشاهِد أن يتشارك معها رؤيتها من خلال ملاحقة المصائر المؤلمة لأبطال فيلمها، وهي ترجع إلى عيوب مجتمعية وسلطوية، وانعدام شبه مطلق لأي ضمانات نقابية وحقوقية تمنع ترك النساء والعمال المسرحين عرضة للاستغلال والتهميش.

ليلى رفقة سائق الحافلة كاظم الذي يودّ الزواج منها، شرط أن تتخلى عن ابنها أمير

 

بيبي العجوز.. ضغوط الجارة الناصحة

على مسار حكايتها وإلحاح سائق الباص على الاقتران بها، تبرز شخصية “بيبي” جارتها العجوز (الممثلة مريم بوباني) التي تلعب دور الوسيط الطيب والضاغط عليها لقبول زواجها منه، بحجة أنه يشكل لها حماية وضمانة حياتية أكثر استقرارا من العمل في المصنع.

تريد الجارة تحقيق ذلك حتى لو جاء على حساب الطفل أمير الذي يرفض كاظم فكرة وجوده في بيته، لأن له بنتا مراهقة تعيش معه، والأعراف والتقاليد المجتمعية في إيران ترفض وجود صبي مع صبية في بيت واحد.

ترفض ليلى بدورها ترك ولدها أمير وحيدا بعيدا عنها، فتزداد الإشكالية تعقيدا مع مرور الزمن، وتتصاعد الضغوط على العاملة التي أصبح أمر طردها واردا بعد إدراج اسمها ضمن قائمة المرشحين للتسريح من العمل.

رفض الإضراب.. استغلال العمال الفقراء في المصانع

يستثمر النص السينمائي فكرة التهديد بالطرد من العمل لتوسيع مساحة عرض المشاكل الكثيرة التي تعاني منها الطبقة العاملة والمجتمع بشكل عام، ويتشابك بعضها مع بعض لدرجة يصعب معها التفريق بين المواقف الأخلاقية الحقيقية، وبين المنافع الأنانية والمصالح الشخصية والمادية.

يستغل أصحاب المعمل وجود اسم ليلى ضمن القائمة لكسر إضراب العمال المحتجين على قلة الرواتب والطرد من العمل، وبرفض ليلى مشاركتهم الإضراب خوفا من ضياع مصدرها المالي الوحيد الذي تُعيل به عائلتها، فإنها تثير ضغائن وأحقاد زملائها المضربين، حيث يوجهون لها تهما باطلة، ويُحيلون عدم ادراج اسمها إلى وجود صلة ما بينها وبين مدير إدارة المعمل، ولم يكتفوا بذلك، بل رفعوا عريضة طالبوا فيها بطردها بتهمة زواجها غير المُعلن بسائق الحافلة.

كل تلك العوامل الضاغطة ينقلها الفيلم بأجمل صور (تصوير أشخان أشكاني)، وبأداء تمثيلي مدهش.

الصبي الإيراني أمير الذي خُطِط له أن يدخل مركز رعاية الصُم والبُكم الداخلي ليبقى بعيدا عن والدته

 

أمير الأصم.. هجرة الطفل عن أحضان أمه

خوف ليلى من كابوس الضياع ومرض ابنتها الصعب وعجزها عن التوفيق بين عملها والالتفات إلى حاجات ابنها ودراسته؛ يجبرها على قبول فكرة الجارة العجوز بالزواج بسائق الحافلة، حيث تعهدت الجارة بإقناع الصبي بالبقاء معها لحين إتمام مراسيم الزواج، ورددت مرارا أمامه أن عودته إلى أحضان والدته ستكون قريبة ولا تتجاوز عدة أسابيع.

بذهاب ليلى إلى بيت الزوجية، ينتقل الفيلم إلى فصله الثاني المكرس لمتابعة مسار حياة الطفل أمير، وهو الفصل الأكثر دراماتيكية وكشفا للفساد الإداري وقساوة البشر، حيث تخطط العجوز بيبي لمسرحية إدخال الصبي إلى مركز رعاية الصُم والبُكم الداخلي الذي تعمل فيه كعاملة ومسيرة لأعماله الخدمية، وقد كان على الصبي تمثيل دور الأصم توافقا مع فكرة حضانته المؤقتة التي صدقها وقَبل المضي في لعب دوره على مضض.

الصبي أمير يُعرف بطبعه الميّال للهدوء لكنه وجد نفسه وحيدا بلا عائلة، وهذه الصورة خلال زيارة والدته له في المركز الداخلي

 

تجارة تشريد الأطفال.. تمثيليات العاجزين

يدخل الفيلم إلى مكان حزين مظلم من السيناريو، حيث يعامل الأطفال فيه بقسوة ودون رحمة، فبعضهم قبل مضطرا بلعب نَفس الدور الذي يلعبه أمير، فانتحلوا شخصية الطفل العاجز عن الكلام، ويُجلي تنكرهم عن تشبث وقبول بالمكان الوحيد الذي بات يأويهم بعد أن طال غياب أمهاتهم عنهم، ولم يعد عندهم منزل سواه.

يظهر من التفاصيل التي يشتغل عليها الفيلم بروية وبأسلوب كلاسيكي متين أن الجارة العجوز تجني ربحا ماديا من وراء إتمام عمليات تزويج الأمهات الوحيدات لرجال يرفضون إدخال أولادهن معهن إلى بيوتهم حفاظا على عفة بناتهم، وفي مقابل المال تجبر بيبي أطفالا أسوياء للعيش في مكان غير مخصص لهم، ولهذا يحاول بعضهم الهروب منه نحو المجهول كما فعل أمير، لكن محاولة الهروب من مركز الرعاية قادته إلى الشارع وحيدا من غير حماية، ليواجه أثناء بحثه عن زوج والدته أشكالا من الإذلال والتحرش الجنسي.

وفي نهاية المطاف يلتقي بالسائق كاظم الذي يحاول تطمينه بوعود كاذبة لا توصله إلى والدته كما يريد، لكنه يتوصل إلى ذلك بحسه المرهف، فتربيته اللينة وحسن أخلاقه لا تمنحه فرصة العيش بين وحوش المدينة، فيقرر الرجوع إلى القسم الداخلي، وقد أنهكه التعب والإحساس بالخيبة.

الصبي أمير الذي يحلم بأن يعود إلى أحضان والدته التي فرقته عنها الأعراف المجتمعية التي تحولت إلى قوانين

 

طهران الأنانية.. حين تتحول الأعراف إلى قوانين

لا تتورع المخرجة ماهناز مُحمدي عن نقل مشهد مكفهر لمدينة طهران وطغيان القسوة على سلوك سكانها، فتجربة الصبي في شوارعها -على قصر مدتها- مروعة، حيث تجلي حالة من طغيان الأنانية والجشع تُحيل للتفكير بالأسباب التي تمنع أما من الاحتفاظ بولدها بعد زواجها ثانية، وكيف يمكن للأعراف الاجتماعية أن تتحول إلى قوانين صارمة لا يمكن التخلي عنها حتى لو جاءت على حساب أطفال أبرياء؟

مما يعزز ذلك الإحساس شخصية الصبي أمير التي كُتبت بدقة تجعل تعرضه للأذى والتشرد متعارضة مع ما يستحقه من حياة سوية، فهو ميّال بطبعه للهدوء ومساعدة والدته والآخرين، متجنبا السقوط في الأخطاء، كما أنه حذر من توريط والدته بما ينغّص عيشها، أو يزيد من أوجاعها، ومع ذلك فقد وجد نفسه وحيدا يقابل وحوشا آدمية تريد نهش لحمه.

 

شبح الأم القادمة من الثلج.. نهاية مفتوحة لخيال المشاهد

لا يعطي فيلم “ابن وأم” لمتلقيه شحنات من الأمل الزائف، لكنه في الوقت نفسه يُبقي الحلم حاضرا، ففي المشهد الأخير وبعد دخول أمير مهجع النوم في مركز الرعاية -الذي سمح له بالبقاء فيه لمدة قصيرة، عليه بعدها مغادرته- يتخيل شبح والدته وهي وسط الثلوج في طريقها إليه بصحبة أخته الصغيرة.

بهذا الحلم الختامي يفتح النص السينمائي الباب أمام تأويلات واحتمالات، فهو لا يريد حسم موقفه بنفسه، ولا يريد محاكمة شخصياته أو إدانة أفعالها، لأنه طيلة مساره يلمح إلى الأسباب القاهرة التي تدفعهم لاتخاذ قرارات أو مواقف غير مرضية مثل ترك الأم لابنها، بل يترك الحكم للمتلقي، ويمنحه فرصة وضع نهاية للفيلم من عنده تتوافق مع رؤيته للمشهد الإيراني المختزل بإبداع.

يتجلى إبداع الفيلم في أداء ممثليه لأدوارهم، وبشكل خاص دور الأم الذي لعبته ببراعة الممثلة راها خوداياري، وفي موسيقى أمير ملوكبور التصويرية المؤثرة، وفي النص (السيناريو) الذي لم يتنازل لحظة عن توفية الميلودراما العميقة حقها، ولا التخلي عن مواقف صانعته السياسية المبطنة بذكاء لا يقل عن ذكاء عرضها للظواهر الاجتماعية المتخلفة في إطار سرد سينمائي جميل، منسوجة خيوطه بمهارة كبيرة، لتضع فيلم “ابن وأم” بين قائمة الأفلام الإيرانية المهمة التي تحاول التوازن بين تقديم مضمون نقدي جاد، وبين التمسك بأسلوب سردي كلاسيكي جذاب.