“المُلقحات”.. انقراض النحل يهز الاقتصاد الأمريكي

عبد الكريم قادري

خسرت الولايات المحتدة الأمريكية أكثر من 23% من نحلها الذي يُدرّ عليها 15 مليار دولار سنويا من العسل، ويساهم في خلق 40 مليار دولار من إنتاج المحاصيل الزراعية التي يقوم بتلقيحها، وفي ظل موت رُبعه دقّ العلماء والمزارعون والنّحالة ناقوس الخطر، وهناك من ذهب أكثر من ذلك فربط بقاء النحل ببقاء الكون، ولو فقد الأول فسيزول الثاني لا محالة. فما قصة هذا النحل الذي يساهم في اقتصاد أمريكا؟

تملك السينما الوثائقية مقدرة كبيرة على التغيير والإشارة إلى القضايا الكبرى والمخاطر التي تُهدد بقاء البشر واستمرار الكون، خاصة تلك الأفلام المفعمة بالحيوية والمشبعة بالمعلومة والمُصبغة بالمنطق السليم، تلك الأفلام التي تشعر بأن مُعدها ومخرجها وفريق العمل بشكل عام يحيط بشكل استثنائي بالموضوع الذي يتناوله، ولا يترك الفرصة للثرثرة الزائدة أو تقديم معطيات لا تخدم الشكل الفني والجمالي وحتى أسلوب الفيلم.

كل هذا يأتي من خلال نسيج المخرج وطريقة معالجته وهضمه لما يود أن يقدمه للجمهور، وبالتالي تكون النتيجة مرضية لجميع الأطراف، لتبدأ بعدها رحلة ما بعد عرض الفيلم، وهي النقاشات التي تحدث في المجاميع الإعلامية والسياسية والعلمية، لتصبح عملية إيجاد الحلول فرض عين على الجهات المسؤولة، لأن المعطيات جرى قنصها من المصدر، والفيلم الوثائقي غربلها وقيّمها وفق سياق معين، ثم قدّمها بدوره إلى المتلقي بشكل عام، ليصبح العقد الأخلاقي الذي يجمع الفيلم كمرسل والمتلقي كمرسل إليه في يد المسؤول صاحب سلطة الحل والربط.

 

تلقيح النحل لأشجار اللوز.. عصب الزراعة الأمريكية

يعتبر الفيلم الوثائقي “الملقحات” (The Pollinators) -الذي أنتج عام 2019- واحدا من الأعمال المهمة التي تنطبق عليها المعطيات المذكورة أعلاه، فقد استطاع المخرج “بيتر نيلسون” أن يُحيط بموضوعه من كل الجهات، لذلك وجد صدى واسعا لفيلمه الذي تطرّق فيه لواحدة من أكبر المشاكل البيئية والصناعية والاقتصادية التي تواجه الولايات المحتدة الأمريكية خلال السنوات الأخيرة، ألا وهي تآكل وفقدان خلايا النحل بسبب عدد من العوامل.

لعل أهم هذه العوامل تلك التي يساهم فيها الإنسان، كما أبان عمل “نيلسون” عدة أشياء كانت مخبوءة، من بينها الوظيفة الكبيرة التي يقوم بها النّحالون في أمريكا، ودورهم المحوري في النمو الاقتصادي الكبير الناتج عن العمل الزراعي، إذ تتعدى وظيفة النحل عملية إنتاج العسل، وهو العمل الذي عرف به بين غالبية الشعب الأمريكي وحتى باقي الدول الأخرى، لكنهم لا يعرفون بأن هناك مؤسسات مختصة في تربية النحل تقوم بمهمة تلقيح أنواع كثيرة من المحاصيل الزراعية في أمريكا عن طريق النحل، من بينها التفاح والتوت البري والعنب وعدة فواكه وخضروات أخرى، لكن أهم هذه المحاصيل على الإطلاق هي أشجار اللوز التي تعتبر عصب الزراعة الأمريكية، إذ يتوفر فيها أكثر من 80% من الإنتاج العالمي منه، لكن الكثير من الأشخاص لا يعرفون بأن تلك الأشجار تُلقح عن طريق النحل الذي يوفّره النّحالون.

وفي ظل تناقص النحل المتواصل تصبح هذه الزراعة المحورية إضافة إلى عدة محاصيل أخرى مهددة بشكل كبير بالنقصان وتقلص المنتوج، ومع الوقت سيتخلص منها، وهذا ما يهدد السوق بالارتفاع من خلال نقص تلك المحاصيل، كما سيختفي التنوع النباتي ويصبح الكون مهددا لدرجة كبيرة، وبالتالي يصبح وجود النحل في هذا الكون أكثر من ضروري، ليس من أجل إنتاج العسل ولا لتلقيح الأشجار والنباتات، بل من أجل الحفاظ على بقاء الجنس البشري.

واحد من فريق فيلم “المُلقحات” يسليط عدسة الكاميرا على موت العشرات من خلايا النحل بسبب المبيدات الحشرية

 

حرب المبيدات.. ثورة على حساب المزارع والأرض

بعد الحرب العالمية الثانية اتجهت أمريكا إلى خيار الصناعة الزراعية، وبالتالي فتحت على نفسها أبواب الربح السريع، لكن كل هذا على حساب الأرض التي فقدت حيويتها وقوتها، وعلى حساب المزارع الحقيقي الذي استُبدل بآلات عملاقة أخذت مكانه، وأكثر من هذا كله فقد وجدت أمريكا نفسها مُطالبة بخلق بذور هجينة ومواد كيميائية تُساعد على تقديم مُنتج أفضل.

وبالتالي بدأت حرب المبيدات الحشرية التي تساعد في زيادة الإنتاج والنوعية، لكنها تقضي بشكل تدريجي على التنوع البيئي، وتقضي على الحشرات التي تساعد في تلقيح النباتات وأشجار الفاكهة والخضروات، خاصة من خلال مادة “النيونيكوتينويدز” التي ساهمت بشكل كبير في التردي الحاصل، وقد تسبب استعمالها المفرط في تسمم غذاء النحل، لهذا وجد النّحالون أنفسهم في مواجهة هذا الخطر الكبير الذي يُهدد مهنتهم.

وقد استطاع فريق فيلم “المُلقحات” أن يلتقط هذه المخاطر من خلال تسليط عدسة الكاميرا على موت العشرات من خلايا النحل، وتعود أهم أسباب هذا الموت إلى المبيدات الحشرية التي تمتصها من الأزهار أثناء عملية بحثها عن غبار الطلع، مما يجعلها تصاب بشيء هو أقرب إلى الزهايمر، فتنسى من خلاله طريق العودة إلى خليتها، ومرات أخرى تموت فيها.

وتحدث كل هذه المخاطر الكبرى في حقول اللوز التي تستدعي كل النّحالين في الولايات المتحدة الأمريكية، من أجل نقل الملقحات (النحل) إلى حقول اللوز الواقعة في ولاية كاليفورنيا، لذلك تقطع مئات الشاحنات المحملة بخلايا النحل آلاف الأميال عبر كل ولايات أمريكا من أجل تلبية نداء المزارعين في كاليفورنيا، وهذا نهاية شهر فبراير/شباط وبداية مارس/آذار من كل سنة، وقد اكتشف العمّال والنحالون بأنهم بدأوا يخسرون نحلهم بسبب تلك المبيدات الحشرية القوية، وهو أمر خطير ينبأ بمستقبل أسود.

 

وزارة الزراعة.. صمت رسمي وضجيج شعبي

تعجّب معظم من شملتهم المقابلات في الفيلم من مزارعين ونحّالين ونشطاء بيئيين من صمت وزارة الزراعة الأمريكية ووكالة حماية البيئة وغيرها من المؤسسات الأخرى، مما جعل الكثير منهم يتهم موظفي هذه المؤسسات بالتلاعب والفساد، أهمها وكالة حماية البيئة التي يدخل هذا الخطر في صميم عملها، لهذا أطلقوا عليها “وكالة حماية مصانع المبيدات الحشرية”.

ومن جهة أخرى فقد أظهر الفيلم تحرّك المجتمع المدني من مزارعين يملكون ضميرا مهنيا عاليا وغيرة على البيئة غيّروا في طريقة عملهم، حيث بدؤوا تدريجيا يتخلّون عن زراعة النباتات التي لا تغذي النحل والحشرات مثل حقول الذرة وغيرها، وأكثر من هذا، فما عادوا يستعملون المبيدات الحشرية، بل يتركون المجال لنمو البرسيم من أجل استعماله كسماد، وحفاظا على تنوعه في خلق الأزهار التي يتغذى عليها النحل، لأنهم عرفوا جيدا قيمة الحفاظ على مجتمع النحل الذي تقلص بنسبة أكثر من 23%، وهي نسبة كبيرة جعلت الكثير من المخابر تبحث عن الأسباب الكثيرة وراء هذا الانخفاض الكبير.

وإضافة إلى المبيدات الحشرية، هناك سبب آخر وهو حشرة “الفاروا” الآتية من آسيا، حيث يبحث العلماء على كيفية القضاء عليها دون تضرر النحل والبيئة.

مخرج ومصوّر فيلم “المُلقحات” “بيتر نيلسون” الذي قدّم مشكلة جوهرية تُعاني منها أمريكا فيما يخص النحل

 

موضوعية الطرح.. توصيات الفيلم التي ينطق بها

استطاع المخرج “بيتر نيلسون” -من خلال خبرته الطويلة في السينما كمخرج للعديد من الأفلام المهمة- أن يقدم عملا وثائقيا في غاية الأهمية، فلم يترك فيه أي ثغرة يمكن أن يدخل من خلالها أيّ مُشكّك في مقدرته الفنية أو انحيازه لأي طرف في الفيلم، بل كان موضوعيا، وقدّم المشكلة الجوهرية مُسلطا عليها الضوء الكافي لرؤيتها من كافة الجوانب، مُستعينا بالعديد من الأطراف ذات السلطة لتقديم تصوّر شامل عن خطورة هذا الأمر.

وأكثر من هذا كله، فلم يكتفِ المخرج بعمله كمخرج يقدم الأسئلة ويترك الجهات تبحث عن أجوبة، بل ذهب لاقتراح حلول عملية ومُغايرة للقضاء على مشكلة موت النحل والمبيدات الحشرية التي تُهدد الزراعة بشكل عام، وهذا من خلال الإنصات بانتباه للخبراء والمختصين ونُشطاء المجتمع المدني والبيئي الذين يعرفون جيدا حجم هذه المشكلة، ومن بين هذه المقترحات قدّم المخرج توصيات للمجتمع الأمريكي من أجل اقتناء حاجياته مباشرة من عند المزارعين والنّحالين، وذلك للتخلص من ضغط “السوبر ماركت” والسوق الذي يبحث دائما عن شروط معينة وخاصة من أجل المستهلك، لكن مع تغيير عادة الاستهلاك ستتغير الزراعة وطريقة الزرع.

تصوير بطيء للنحلة المُحلّقة، وهو مشهد يوحي بقيمة الحياة وأهميتها التي ودّ أن يوصلها المخرج للمُتفرج

 

جماليات التصوير.. لوحة فنية تقتنص اللحظات

إن تركيز المخرج على موضوع الفيلم لم يجعله ينسى الجانب الجمالي فيه، ولم يغفل فيه جانبا على حساب آخر، لهذا جاء التصوير غاية في الدقة والجمال، مثل التركيز على النحلة المُحلّقة بالتصوير البطيء، وهو مشهد يوحي بقيمة الحياة وأهميتها، إضافة إلى حقول اللوز الممتدة والمُزهرة التي تحولت وكأنها لوحة فنية.

كما استطاع التصوير خلق صور بانورامية التقطت من الأعلى، أهمها تقاطع الطرق التي أسقطها المخرج بذكاء لتنمّ عن معضلة أخلاقية وصلت لها الشركات الكبرى التي لا تبحث إلا عن الربح، دون أن تُراعي الجانب الأخلاقي والبيئي في كل صفقة تخوضها، لهذا وصلت كغيرها إلى تقاطع مصيري لطرق الحياة، وكان عليها اختيار الأفضل لنا، أو فرض هذا الخيار عليها من قبل المؤسسات الحكومية.

إن وثائقي “الملقحات” هو عمل توثيقي واستقصائي مهم استطاع أن يضع اليد على الجرح، ويفتح نقاشا مهما في الولايات المتحدة الأمريكية التي بدأت تعي خطورة هذا الأمر.