“اضطراب”.. صدى الصوت الخافت لمرضى “متلازمة التعب المزمن”

“المرض لا يرعبني، الموت لا يرعبني، لكن ما يرعبني بحق هو أن يشيع الآخرون القصة الخاطئة عن ما أعانيه”. هذا ما قالت بطلة ومخرجة فيلم “اضطراب” (Unrest) الذي أنتج 2017، وهو الفيلم الوثائقي الذي يتعرض لمعاناة مرضى “متلازمة التعب المزمن” على وجه الخصوص، ويلقي الضوء عموما على طبيعة الحياة التي يحياها المريض المصاب بأحد أمراض المناعة الذاتية المعقدة التشخيص، مثل متلازمة التعب المزمن ومتلازمة الألم العضلي الليفي والتصلب المتعدد وغيرها.
هؤلاء المرضى يتهمون من قِبل الجميع إما بالتمارض أو بكونهم مرضى عقليين، فقط لأن أمراضهم لا تظهر بدقة في التحاليل والأشعة المعتادة، ولا يمكن تشخيصها بالنمطية الهيّنة التي يستخدمها الأطباء في الكشف عن هوية ما يعانيه المريض.
هؤلاء المرضى يواجهون وحدهم عددا من الأعراض الالتهابية البدنية الغريبة المستعصية على الفهم، حيث يصل الأمر في فترات تدهور حالاتهم إلى ملازمة الفراش، وتعرضهم للعديد من المشكلات الإدراكية التي تتطور لدرجة تحملهم على نسيان طريقة نطق الكلمات، أو كيفية التفكير.
مرضى المناعة الذاتية.. ألم داخلي وآلام خارجية
يتحدث أحد المرضى في الفيلم قائلا: أصبح لدي حياة جديدة هنا في غرفتي على أريكتي ووسادتي، بينما حياتي القديمة كانت في الخارج وراء تلك النافذة، لكنني أحتار دوما، فإن أفصحت عن القليل من أعراضي، حينها لن يستطيع الطبيب مساعدتي، وإن قلت الكثير كما ينبغي، سيظن حينها أنني مصاب في عقلي.

جمل موجعة وأكثر ستراها منحوتة على وجوه هؤلاء المرضى وذويهم في هذا الوثائقي المهم الذي جاء لينصف هؤلاء المنسيين المُتجاهَلين، في محاولة لتوصيل صوتهم غير المسموع منذ أمد، فأمراض المناعة الذاتية أمراض غير شائعة تُذيق المصابين بها الأمرّين، فتهلك أجسامهم بالآلام من جهة، وتبث الخوف في دواخلهم من جهة أخرى، حيث تُصورهم في نظر الأغلبية مجرد مخبولين.
مشهد المُخرجة المريضة.. بداية رمزية حَيّة
يبدأ الفيلم بمشهد حقيقي لمخرجته “جينيفر بري” المريضة بمتلازمة التعب المزمن وهي واقعة على الأرض، بينما تخفق عدة مرات قبل أن تستطيع بصعوبة الصعود للسرير، لكنها تحرص على توثيق تلك اللحظة بكاميرا هاتفها المحمول، وذلك كدليل دامغ على نوبات الإعاقة البالغة التي تُصيبها فجأة وبدون أي سبب.
كانت هذه البداية الحَيّة كفيلة بأن تستحوذ على انتباه المتفرج وتؤهله لسلسلة معلوماتية وشعورية دسمة عن ملابسات مرض متلازمة التعب المزمن، كما أنها جاءت ملائمة تماما لطبيعة هذا المرض الغامض المقبض.
بعدها يسير الفيلم بخطة موفقة، تبدأ من التركيز على حالة مخرجة الفيلم وبطلته، بدءا من فترة تخبطها حول تشخيص ما تعانيه من طبيب لآخر، ومرورا باكتشافها حقيقة المتلازمة، ثم عثورها عن طريق الإنترنت على بعض الحالات التي تُشاركها الإصابة، حيث يوضح هذا التجمع ملابسات ذلك المرض وصعوبته، ويطرح سؤالا عن الحالات الشبيهة به على مدار التاريخ، وكيف كان يجري التعامل معها، ثم ينتهي الفيلم على محاولات التكاتف الدائمة بين المرضى من كافة أنحاء العالم، مع التشبث بالأمل، حتى وإن لم يؤتِ بثماره أبدا مع البعض.
“جيسيكا”.. سفر بالعقل إلى أعماق البحار
اختارت “جينيفر” لحظات في محلها حينما أرادت تجسيد مخاوف كل مريض تواصلت معه، فآثرت أن يتحدث ألمهم الفعلي عنهم أكثر منهم، حيث وضعت الكاميرا أمام ” جيسيكا” -التي ما زالت في العشرينيات من عمرها- حينما كانت تحاول أن تضع قدميها على الأرض للمرة الأولى منذ 8 سنوات، لنرى تلك الارتعاشة التي سرت بخباثة في بدنها حينما أثقلت على ساقيها بنية الوقوف، وكيف أخفقت بعدها وعادت لنومتها، لتستحيل تلك الرجفات البسيطة إلى نوبة تشنجات رصدت الكاميرا جزءا كافيا منه.

ومع جرعة الإحباط والرعب تلك نرى “جينيفر” وهي تجاري خيال “جيسيكا” بينما كانت تحكي كيف يمكنها أن تغادر الفراش بعقلها، وتسافر إلى أستراليا وتغطس تحت مياه بحرها الزاخرة بآلاف الأسماك الملونة، فنجد “جينيفر” وهي توازي في القطع بين كلمات “جيسيكا” التي تتفوه بها من فوق الفراش، وبين قاع البحر وأسماكه بأدق تفاصليه الصوتية، ليبدو وكأن “جيسيكا” اختبرت شعور الغوص في قاع بحر أستراليا أكثر منا، بل وأكثر ممن نزل إلى هناك بالفعل.
صرخات الاحتجاج.. موسيقى تصويرية مفعمة بالأمل
جزئية العودة التاريخية لتأمل الحالات النسائية المرضية الشبيهة، كانت من أكثر مناطق الفيلم إثارة للفضول، وبعثا للحماس تجاه تلك النوعية الغامضة من الأمراض، فضلا عن مجهود تجميع الصور والمقاطع الفيلمية للنساء المريضات في تلك الحقب السحيقة، واختيار موسيقى تصويرية تزيد من وقع غرابة هذه الحقائق القديمة بخصوص المرض منذ الأزل، ليتحول هذا التوقيت من الفيلم إلى حالة مستقلة تليق بطبيعة أمراض المناعة الذاتية الملغزة.

وفي موضع آخر من الفيلم قُرب النهاية، نجحت “جينيفر” ثانية في التوظيف الموسيقي للأغاني الباعثة على الأمل، لتحوم حول اللقطات التي يتبدى فيها تعاون المرضى لتنظيم وقفات احتجاجية في كافة أنحاء العالم اعتراضا على تجاهل الحكومات لحقوق مرضى متلازمة التعب المزمن، هذا بالرغم من أن نهاية الفيلم نفسها لم تكن تشي بأن ثمة تغيرات فعلية قد حدثت في الواقع، إلا أن اختيار بث الأمل فوق كل شيء، والتوفيق في تجسيده كشعور ممزوج بالحزن والألم رغما عنهما، كانت بادرة واعية من مخرجة ما زالت قادرة على القتال بتصوراتها الفنية.
أما مشهد النهاية فقد جاء رمزيا كمشهد بداية الفيلم، حيث نجد زوج “جينيفر” يضع يديه على كاميرا الهاتف الأمامية التي توجهها “جينيفر” ناحيتهما معا، وقد صمم لمدة لحظات طوال أن لا يرفع عينه إليها ولو مرة، وكأنه سئم من حالة الرصد المستمرة لما يعيشانه سويا، وقرر أنه مهما بلغت قسوته سيظل مشكلتهما وحدهما.
غموض المشاهد التي لم تغلق.. نقاط الفيلم الرمادية
احتاج الإيقاع في نصف الفيلم الأول على وجه الخصوص لبعض الحسم في التعامل مع عدد من المشاهد، فثمة لحظات كثيرة أُهدِرت في الصمت بعد حديث ما، إضافة لإطالة عُمر لقطات ليس لها أهمية، وهذا بالتأكيد قد أثّر بالتبعية على حالة الفيلم العامة، وأفقده نوعا من التكثيف الذي كان يحتاج إليه موضوعه.
كما أن ثمة نقاطا خاض فيها الفيلم دون أن يغلق ملفها كما ينبغي، فالجزئية الخاصة مثلا بمحاولة “جينيفر” إيجاد السبب الدقيق للمرض أملا في وضع علاج جذري له؛ كانت موحية ومحفزة أكثر من اللازم، حيث كنا نراها تعكف على إجراء الاتصالات مع المتخصصين، وتواكب على تفنيد أفكارها على سبورة كبيرة مليئة بالتكهنات، وعلى الرغم من كل هذا المجريات الملحوظة التي كانت تستتبع وضع نهاية ما، فقد تجاوز الفيلم هذه النقطة إلى ما بعدها تجاوزا مخيبا للآمال، لأن هذا النشاط بخصوص البحث عن الأسباب والعلاج استلزم وفقا لطريقة عرضه ختاما يليق به، حتى وإن كان ختاما خالي الوفاض يرفع رايته البيضاء مُستسلما.

هناك جزئية أخرى في الفيلم جاءت غامضة بطريقة سلبية، وهي الجزئية التي كانت تتحدث فيها “جينيفر” عن وجود مكَوِّن بيئي محيط يوجد في كل مكان بعيد عن الأماكن البرية، وهو يُعد المسؤول بعينه عن تحفيز التهابات المتلازمة وتفعيل قدراتها على إعاقة المريض، حيث اكتفت “جينيفر” بإلقاء هذه المعلومة عابرة وألحقتها بمشهد مُلتبس نجد فيه أنها وضعت خيمة في حديقة منزلها، واعتبرتها بيتها الجديد المُنَقَّه من هذا المُكَوِّن المُسمى بـ”عفن الفطر”، بينما نراها هي وزوجها يتجاذبان أطراف الحديث حول ضرورة غسله لملابسه بشكل دوري حتى لا يُصيب خيمتها بالعفن مرة أخرى، ثم يتجاوز الفيلم للمرة الثانية النقطة بأكملها، ولا ينتبه لكونها بقيت ملتفة وغير مفهومة على الإطلاق بالنسبة للمتفرج.
هواجس المصابين تحت المجهر.. حسنة الفيلم
ثمة أسئلة كثيرة تدور في أذهان المصابين بهذه الأمراض بخصوص وضعهم الإنساني، ولأن تجربة مرضهم فريدة من نوعها فإنهم لا يتمكنون من إيجاد نماذج محيطة بهم لتناقش استفهاماتهم ومخاوفهم حيال أوضاعهم. والحقيقة أن من الحسنات التي جعلت وستجعل هذا الفيلم مهما دوما، هو أنه اهتم بمناقشة هذه التساؤلات، وعرض لها إجابات مُفصلة وعذبة.
فنجده يضع نموذجين لموقف الزوج المرافق للحالة، فالنموذج الأول (زوج جينيفر المخرجة) نراه داعما حاضرا ومتفهما تماما لما تمر به زوجته، وغير آبهٍ بعجزها عن توفير البيئة الزوجية الطبيعية له، بل يعمل في المقابل على توفير بيئة حاضنة وملائمة لمرضها.

لكن على النقيض نجد نموذجا آخر لإحدى الحالات التي يهجرها الزوج بعد وقت من إصابتها، بينما تكون هي في أسوأ مراحل مرضها حيث تلازم السرير، وقد بدر منه هذا التصرف لاعتقاده أنها مسؤولة بشكل ما عن هذا الوهم الموجود في عقلها فقط، فقد سئم من تمريضها وأعطاها ظهره، وهو يظن أنها ستضطر من بعده أن تفيق وتتحمل مسؤولية أطفالها.
والحقيقة أن ما رأيناه في بقية قصتها حول تكلف أطفالها برعايتها من بعد هجران الأب، وكيف بنوا معها علاقة وثيقة رغم وجودها الدائم في الفراش، كان باعثا على أمل حقيقي يطمئن أيّ سيدة تكون عرضة لافتراس هذه الأمراض لجسدها، باعتبار أن النساء هن الفئة المستهدفة لأمراض المناعة الذاتية دون غيرهم.
متلازمة التعب المزمن.. مخاوف الوراثة ومواقف السلطة
هناك سؤال آخر تجيبه الحالة السابقة ذاتها عن التخوف بخصوص قدرة هذه الأمراض على الانتقال بالوراثة للأبناء، فنرى هذه الأم وهي تحكي عن قسوة اللحظة التي بدأت تهاجم فيها الأعراض ابنتها بعدما كبرت وعلمت أنها مصابة بذات المتلازمة، تروي لنا كيف انهارت هذه الأم، وكيف استعادت رباطة جأشها حينما راقبت الابنة وهي تتعامل مع مرضها بشجاعة، وتحيا بين أولادها دون أن يفصلها هذا المرض عنهم، وكأنها تعيد سيرة الأم من جديد.

إجابة أخرى غاية في الأهمية طرحها الفيلم حول موقف الحكومات التعسّفي في التعامل مع المصابين بتلك الأمراض، حيث لم يقف الأمر عند إنكار حقوقهم في التأمين الاجتماعي، وقلة تفهم عجزهم عن ممارسة العمل الذي يستلزم مجهودا بدنيا وذهنيا، بل بلغ هذا الإنكار حدا لا يوصف، وذلك حينما ناقشت “جينيفر” حالة الفتاة الدنماركية ” كارينا” التي جاءت الشرطة واعتقلتها بتهمة التمارض، وبغية إبعادها عن أهلها الذين يساعدونها على عيش وهم مرضها بمتلازمة التعب المزمن.
في النهاية، لن تسع هذه السطور عرض كل ما قدمه هذا الفيلم لك وللمرضى المقصودين بأحاديثه، فهو يفتح عينيك على وضع إنساني لم تعرف عنه من قبل شيئا، ومن جهة أخرى يفتح لهؤلاء المنبوذين مجالا لأن يُسمَعوا، ويقوموا برواية قصتهم دون التنكيل بها وبهم.