“أنا غريتا”.. المراهقة التي صرخت في وجوه القادة لأجل البيئة

قيس قاسم
لم يصدق أحد أن الطالبة البالغة من العمر 15 عاما التي وقفت عام 2018 عند جدار البرلمان السويدي ورفعت لوحة مكتوبة عليها بخط اليد “إضراب عن الدوام المدرسي من أجل البيئة”؛ سوف تصبح بعدها واحدة من أشهر الناشطات البيئيات في العالم.
فقد أصبح يقتدي بها ملايين الشباب في كل مكان، ويتخذون من نشاطها وشخصيتها رمزا ومثالا للفتاة الواعية للمخاطر التي تهدد مستقبلهم. أما بالنسبة للسياسيين فهي أضحت واحدة من أكثر الضاغطين عليهم من أجل العمل الحقيقي لحماية كوكب الأرض.
هذه الفتاة اسمها “غريتا تومبرغ”، وقد حمل وثائقي المخرج السويدي “ناثان غروسمان” اسمها في عنوانه “أنا غريتا” (I Am Greta)، في إشارة إلى مضمونه المُتمحور حول شخصيتها ودورها الكبير رغم صغر سنها.
محاربة التلوث.. رحلة عبر المحيط إلى الأمم المتحدة
عُرض وثائقي “أنا غريتا” في الدورة الأخيرة لمهرجان البندقية الدولي (2020) وحاز على العديد من الجوائز العالمية، ويفتتح مساره بلقطات تظهر فيها “غريتا” وهي داخل يخت كان يقلّها عبر المحيط إلى مدينة نيويورك الأمريكية، وذلك للمشاركة في اجتماع للأمم المتحدة خُصِّص لمناقشة قضايا البيئة ومشاكل الاحتباس الحراري.
يبدو التعب والإرهاق ظاهرين عليها بعد طول رحلة يصعب على جسد طفلة تحملها، فقد ركبت البحر ورفضت السفر بالطائرة، وذلك لما تسببه محركاتها من تلوث يزيد من تلوث جو الأرض، مما يشير إلى تطابق بين قناعاتها وبين ممارساتها.
هذا الجانب اهتم الوثائقي به وحرص على إبرازه، وذلك لقوة مدلولاته الأخلاقية، مقابل سلوكيات تتصف بالرياء ونكران حقيقة ما يجري من تدمير متعمد لكوكب الأرض، ليخلق الوثائقي بذلك تضادا بين سلوك الصبية وبين مَنْ يُسهم في خراب الأرض وما عليها، من خلال نقله مقاطع من أقوال مجموعة من السياسيين والخبراء من نفس طينتهم ينكرون حقيقة ما تتعرض له الكرة الأرضية من مخاطر.

“يقولون أشياء ويفعلون عكسها تماما”.. ألاعيب الساسة
ينقل صانع الفيلم أصوات السياسيين على شاشة سوداء، حيث أقوالهم تُكَذِب المعطيات التي يقدمها الخبراء والناشطون والحريصون على مستقبل الأرض ويصفونها بالأخبار الكاذبة، استعارة للعبارة نفسها التي يصف بها الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” الإعلام المناهض لتوجهاته، فبعضهم يذهب بعيدا في استهزائه بالقول “قليل من الاحتباس الحراري ليس سيئا، ولا أظن أن روسيا الباردة سوف ترفض درجات حرارة أكثر”.
بعد نقله تصريحات السياسيين يدلل الفيلم على أكاذيبهم بعرض مَشاهِد لكوارث بيئية مخيفة مردها ارتفاع درجة حرارة الأرض، ومنها يعود إلى “غريتا” ونشاطها المبكر المستند على معارف علمية وحقائق اطلعت عليها وقادتها إلى إعلان إضرابها عن الدوام المدرسي والوقوف أمام البرلمان السويدي عام 2018 وحيدة.
أمام كاميرات الصحفيين الذين جاؤوا لنقل إضرابها أعلنت “غريتا” بخجل خيبتها من وعود الكبار وتكرارهم جملا فارغة، فهم “يقولون أشياء ويفعلون عكسها تماما”. قدمت “غريتا” نفسها وستبقى تقدمه بنفس الطريقة، وهي: اسمي غريتا تونبيرغ، وأنا من السويد، أقوم بإضراب من أجل البيئة توافقا مع انعقاد جلسات انتخاب البرلمان السويدي في ستوكهولم.
يُقرِب الوثائقي كاميرته من الصبية ويوثق كلام الناس المستفسرين منها عن أسباب إعلان إضرابها، فأجوبتها موجزة مُستندة على معطيات علمية ورؤية لمستقبل تريده أن يكون أحسن لها ولجيلها وأكثر إشراقا للبشرية.
عالم المنزل.. دعم العائلة يتحدى التنمر والتوحد
ساهم صبر “غريتا” وقوة شخصيتها في مساعدتها على المضي في نشاطها، وبمساندة والديها تمكنت من تجاوز تعقيدات مرضها المعروف بمتلازمة أسبرغر (أو ما يسمى اضطرابات طيف التوحد)، ففي كل أسفارها كان والدها معها ووالدتها تقدم الدعم لها، حيث كانا مُتفهمين لحالتها الصحية، وأيضا لحماسها وإكمال ما عزمت على تحقيقه.
ينقل الوثائقي جوانب من حياة “غريتا” الخاصة، ففي المنزل تعزف الموسيقى وتقرأ كثيرا، ويقول والدها إن لها قدرة عجيبة على الحفظ، فهي تسمع ما يجري حولها بانتباه، وتحب كلابها وترعى حصانها في الحقل، أما في المدرسة فتعاني من عزلة وتنمر، لكنها قادرة على تجاوزها والمضي بممارسة ما تحب من هوايات دون أن تُعِقيها بعض السلوكيات السيئة الصادرة من زملائها، فقد كانت مجتهدة في دروسها، وظلت رغم انشغالاتها الكثيرة مُحافظة على مستوى من التفوق.
ذات اللسانين الجريئة.. نقد المخربين وجذب الجماهير
يجمع الوثائقي بين كلام “غريتا” وما تبوح به بصوت عال وبين نشاطاتها العامة، فهي لا تتردد في وصف الأشياء كما هي بشجاعة نادرة، وتعيد صياغتها بلغتين السويدية والإنجليزية التي تجيدها، وتظهر تجليات ذلك السلوك في مقابلاتها لزعماء الدول، فأمامهم تعلن موقفها دون مواربة، وتذهب بعدها في طريقها غير عابئة برود فعلهم.
ذلك السلوك المتحرر من الذاتية والمُرَكِز على الأهداف النبيلة جعلها أيقونة للفتاة التي تُكرس كل وقتها وطاقتها من أجل حماية البيئة، وقد استطاعت بسرعة قياسية جذب ملايين من الشباب إلى جانبها لتبني مواقفها.
في إحدى اللقاءات التي دعاها الأمين العام للأمم المتحدة إلى المشاركة فيها، تحدثت “غريتا” أمامه بكل صدق، وانتقدت السياسيين الذين يعدون بإصلاح ما خُرب من الأرض، لكنهم سريعا ما يتملصون من التزاماتهم، حيث لم تعبأ بالدعاية، وظلت تردد أنها جزء من حركة شعبية كبيرة كل فرد يسهم فيها بقدر طاقته.

“إنهم يعرفون ماذا يبيعون”.. حديث إلى الرئيس الفرنسي
يسجل الوثائقي السويدي رحلات “غريتا” داخل أوروبا، وبشكل خاص إلى مقر الوحدة الأوروبية في بروكسل، حيث ينقل أجزاء من خطاباتها الموجزة والمكثفة المدعومة بمعلومات ومعطيات دقيقة، وبعد خروجها من كل اجتماع تنطلق مظاهرات عارمة مؤيدة لما طرحته من أفكار وحلول.
بكل وضوح تقول “غريتا” للرئيس الفرنسي ويسمعها العالم “أنتم في الدول الغنية عليكم مساعدة الدول الفقيرة لتحسين بيئتها وحياة سكانها”، وتعبر عن اشمئزازها من القلاع والقصور القديمة التي تُستَقبل فيها عادة من قبل رجال سياسة واقتصاد، فبعد كل اجتماع فيها تعلن عدم فهمها لما يقولون، فكلامهم بالنسبة لها -هي الواضحة الدقيقة- ملتبس عمومي خال من الدقة، لكنها تختصر انطباعاتها عنهم بجملة “إنهم يعرفون ماذا يبيعون”.

بين التشجيع والسخرية.. “غريتا” بعيون قادة العالم
إذا كانت معظم مقابلات “غريتا” ولقاءاتها تسودها المجاملات والتشجيع الظاهر، فإن بعض القادة وخصوصا الشعبويين منهم لا يترددون في التقليل من شأنها.
ينقل الوثائقي مقطعا مسجلا يظهر فيه الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” وهو يخطب في حشد من مؤيديه، يسأله أحدهم عنها، فيتنكر الرئيس متعمدا ويتجاهل دعواتها لمشاركة أمريكية أكبر في إصلاح ما خربته مصانعها في الأرض. أما الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” فيتهمها بالجهل وعدم إدراكها للمتغيّرات الجارية في العالم، في حين يسخر الرئيس البرازيلي “جايير بولسونارو” من ربطها بين موت السكان الأصليين وموت غابات الأمازون.
لكن هناك في المقابل شخصيات تبنت أفكارها وتعاونت معها على إكمال مشوارها ونشاطها، من بينهم الممثل السينمائي والنائب السابق لولاية كاليفورنيا “أرنولد شوارزنيغر”، وبابا الفاتيكان الذي بارك جهودها وشجعها على مواصلة كفاحها.

“إنها تحترق”.. صرخة في اجتماع البرلمان الأوروبي
لا يخفي والدا “غريتا” خوفهما عليها وخشيتهما على وضعها الصحي نتيجة الإرهاق الناجم عن نشاطها المكثف الذي يتطلب وضعا صحيا جيدا، ومع ذلك فإنهم لم يمنعوها أو يقفوا ضدها، فقد كانا دائما معها، وهذا ما عزّز من قوتها ومنحها طاقة نفسية مهمة استثمرتها للعمل على توسيع وتنشيط حركة بيئية مستندة على المعارف والتجارب الحيّة.
من أجل تحقيق ذلك تذهب “غريتا” لتصوير ما تعرضت له غابات هامباخ في ألمانيا من دمار مُمنهج نتيجة اقتلاع 90٪ من أشجارها وبيعها، حيث وثقت كل ما عاينته شخصيا ونقلته إلى المجتمعين من أعضاء البرلمان الأوروبي في مدينة ستراسبورغ الفرنسية، في اجتماع مخصص لمناقشة مشاكل البيئة.
لم تستطِع “غريتا” خلال الاجتماع من منع دموعها من الانهمار نتيجة لشدة انفعالها وهي تستعرض أجزاء كبيرة من الكرة الأرضية تُباد بالكامل، حيث قالت لهم: ليتصور كل واحد منكم أن بيته يحترق، ماذا سيفعل حيال ذلك، وكيف ستكون ردود فعله؟ مثل هذا يحدث الآن للأرض، إنها تحترق.
“أنتم تكذبون علينا”.. استقبال الأبطال على السواحل الأمريكية
بكت “غريتا” من التعب والإرهاق الذي سببته لها رحلتها البحرية إلى مقر الأمم المتحدة عام 2019 على متن يخت صغير، فلم تتحمل شدة الأمواج ودوار البحر، ولا فراق أهلها وبيتها، حيث شعرت أنها وحيدة تواجه عالما لا يريد الإصغاء إليها وإلى أمثالها من النشطاء والعلماء.
لحظة الضعف الإنسانية تلك قابلها استقبال حافل على طول ساحل البحر، حيث استقبلت استقبال الأبطال من قبل المتوافقين مع أفكارها ودعواتها، وزادها ذلك قوة وعزيمة تجلتا في الكلمة التي ألقتها أمام ممثلي دول العالم، فقد عاتبتهم بكلمات حادة وقاسية وكررت أكثر من مرة بأنهم خذلوا الشباب ولم يهتموا بمستقبلهم، وأعادت ذلك الكلام بحدة أكبر أمام البرلمانيين الإنجليز، فقالت: أنتم تكذبون علينا، تعطونا أملا كاذبا وسرابا، تقولون أن المستقبل سيكون أفضل لنا، لكن هذا لن يحدث ما لم تفعلوا شيئا حقيقيا لنا وللأرض التي نعيش فوقها.
في نهايته ينتقل الوثائقي إلى مدرسة “غريتا” في ستوكهولم ليُسجل مقاطع من حفل توزيع شهادات التخرج السنوية، حيث ينادي المدير باسمها “غريتا”، ويدعوها للوقوف بين الطلاب الأكثر تفوقا خلال العام، وعلى المستوي النقدي، يمكن اعتبار فيلم “أنا غريتا” من بين أهم أفلام العام المنصرم.