“السفَر الأخير”.. تحية سينمائية للأب العسكري الراحل

د. الحبيب ناصري
قوية هي تلك العلاقات الأسرية في محيطنا العربي، لا سيما علاقة البنت مع أبيها، فهي مدللته وهو حاميها والمدافع عنها في كل مساراتها الحياتية، إن هذه العلاقة تصبح أكثر قوة وحميمية حينما تتحول إلى الفنون، فالسينما الوثائقية هي جزء من هذه الفنون التي نستمتع فيها بهذه العلاقات العائلية الرابطة بين أعضائها.
هنا سنتابع رحلة جميلة وعلاقة إنسانية قوية بين مخرجة فيلم وثائقي وبين أبيها الذي اختار مهنة نبيلة وشريفة، وكانت سببا في جعله لا يحضر للبيت إلا نادرا، إنها مهنة حماية حدود الوطن، وهي مهنة عسكرية لها قيمتها ووزنها الرمزي والاجتماعي والروحي والوطني في كل الأوطان التي تضع ضمن هواجسها الأولى حماية حدودها من كل عدوان غاشم.
لتتبع خيوط هذه العلاقات الوجدانية الرابطة بين البنت وأبيها، وأيضا مع بقية أفراد أسرتها، فلنتبع هذه الرحلة القصيرة الهادفة إلى تحليل فيلم المخرجة لطيفة أحرار “السفَر الأخير” الذي فاز بجائزتين ضمن أيام قرطاج السينمائية لسنة 2019، وهما جائزة هاكا للتوزيع، وجائزة قرطاج للسينما الواعدة.
من أقصى الشرق إلى الجنوب.. رحلة بين الأحضان والثغور
على مدى 26 دقيقة حلقت بنا المخرجة في عوالمها العائلية، لتشرح طبيعة علاقتها بأبيها الذي عاش معظم عمره مرابطا على الحدود الوطنية، مدافعا عن أرضه ساهرا ليل نهار من أجل خدمة وطنه، وفي الوقت نفسه متتبعا لأخبار عائلته الصغيرة المكونة من زوجة وابن وابنتين.
دفاع الأب عن الوطن وعن عائلته الصغيرة هو ما ترك أثرا بليغا في نفسية إحدى طفلتيه، فأرادت تكريمه وقد رحل عنهم إلى جوار ربه. إنه تكريم بلغة الصورة والصوت، لتبوح بعلاقتها بأبيها ومدى اعتزازها به، سواء حين كان حيّا، أو حين ارتحل إلى ربه في دار البقاء.
رحلة حضرت بلغة فنية من توقيع فتاة نحو أبيها العسكري المنحدر من أقصى نقطة من شرق المغرب، ليكون عمله في أقصى نقطة من الجنوب، مما جعل الأب على امتداد حياته يقطع هذه المسافة الزمنية الطويلة والمتعبة بالقطار وبالحافلة العمومية أيضا، ليزور أسرته بين الفينة والأخرى، وفي بعض المناسبات الدينية أو أثناء عطلته السنوية.
وقد تمكنت المخرجة على امتداد الفيلم من خلخلة ذاكرة أسرتها وأقربائها، ليبوح الكل بطبيعة ما كان يربطهم بالراحل، إنه نبش في وجدانهم وعشقهم للأب وهو يقوم بواجبه العسكري الجميل، وبواجبه أيضا في تتبع أخبار الأسرة وعن بعد، مما جعله فعلا بطلا استثنائيا في عيونهم وعيون من رافقوه، إنه نموذج الأب المغربي والعربي والإنساني الذي ظل صامدا محترما لواجباته الوطنية والعائلية إلى أن تقاعد ورحل إلى دار البقاء.

صور وحقيبة ولباس عسكري.. مُكوّنات الذاكرة
ما بين القاعة المغلقة وبيت الأسرة القديم المتآكل الآن والفضاء الصحراوي وتلك الأمكنة التي كان يمر منها القطار الحامل لأبيها من الشرق المغربي نحو الجنوب الصحراوي المغربي حيث كان مكان عمله؛ استطاعت المخرجة أن تُقربنا إلى جوهر ولُبّ رسالة فيلمها الوثائقي الهادف إلى الوفاء والحب والدفاع عن رمزية أب جميل.
أب ما زالت الأسرة تحافظ على بعض مكونات ذاكرته التي كان يحملها معه إلى مقر عمله، حيث الصور العائلية (بعضها بالأبيض والأسود) والألبسة العسكرية وحقيبة سفره التي كانت ترافقه طيلة رحلاته الطويلة، فجميع تلك التذكارات كانت حاضرة بقوة في هذا الفيلم الذي جعلنا ننتبه إلى هذه الأمكنة ذات البعد العائلي والاجتماعي والوطني والإنساني.
استحضار الأب الحاضر الغائب.. بوح زمني
هناك عدة أزمنة نبش فيها الفيلم وجعلنا نشعر بقيمة الأب على وجه الخصوص، وبكيفية استثمار زمنه للدفاع عن الوطن، وأيضا وهو هناك في مكان عمله على الحدود، حيث كان زمن عائلته الصغيرة حاضرا بقوة في وجدانه.
من الممكن اعتبار هذا البوح في هذا الفيلم بوحا زمنيا يتعلق بالسفر في ذاكرة الأسرة للبحث عن ذلك الزمن الذي عاشه الأب وهو يتنقل بين بيته ومقر عمله العسكري، إنه نبش في طفولة المُخرجة وكيف كانت تشتاق لأبيها وهو بعيد عنها، وفي الوقت نفسه كيف كانت تُعبر عن فرحتها حينما كان يزور أسرتها.
صحيح، فزمن الحاضر هو المتحكم اليوم في زمن الأب والأسرة والمهنة العسكرية الجميلة التي كان يقوم بها الأب، إذ استحضار زمن الأب الآن معناه أنه شوق له وتعلق دائم به على الرغم من رحيله الأبدي، لكن صورته ورمزيته حاضرتان على الدوام مهما زحف الزمن على هذه الأسرة التي تكبر، إذ يظل الأب حاضرا على الدوام مُخلّدا في وجدانها بشكل عام، وفي وجدان المخرجة بشكل خاص، لا سيما وأنها فضلت أن تُكرمه بطريقة سينمائية وثائقية قوية ودالة، لتدفعنا جميعا ونحن نشاهد الفيلم إلى استحضار آبائنا الذين رحلوا عنا إلى دار البقاء.

قبلة وتحية عسكرية للجنرال.. مشهد الوداع الأخير
كانت المخرجة حاضرة في الفيلم بصوتها وهي تتلمس آثار أبيها في البيت وفي الصحراء، ومن خلال ما قاله أفراد أسرتها في حق أبيها، وكان تعليقها بلغة عامية مغربية وجدانية، ويتلخص في اشتياقها لأبيها وفي اعتزازها بما كان يقوم به.
كم كانت المخرجة قوية حين مات أبوها رحمه الله، فقد طلبت من الفقيه الذي غسله وفق القواعد الشرعية الإسلامية الحنيفة أن تودعه بقبلة على جبينه وهو جثة هامدة راحلة إلى جوار ربها، فلم تكتفِ بقبلة على جبينه، بل أعطته تحية عسكرية، ونادت عليه بـ”الجنرال”، وذلك في إشارة رمزية وجدانية وإنسانية قوية لترقيته إلى هذه الرتبة العسكرية الكبرى التي يستحقها في نظرها، نظرا لطبيعة المهام التي كان يقوم بها طيلة حياته.
لم يكن صوت الراوية نشازا ولا صوتا مجانيا في فيلمها الوثائقي هذا، بل تمكنت من اختيار كلماتها العفوية والقوية المشحونة بعاطفة ذات بُعد أبوي اتجاه أب يستحقها، فهو الذي وهب عمره لخدمة وطنه مع ترحال دائم من أجل زيارات قليلة سنوية لتفقد أحوال أسرته.

زوجة العسكري.. دور الأم والأب في المنزل
لم تكن الأم (زوجة العسكري) مجرد زوجة أو أم عادية، بل هي هنا شخصية تستحق أن يُحتفى بها وتكرم أيضا، وذلك لما قدمته من خدمات عائلية لأبنائها طيلة غياب الأب العسكري، فهي أم جمعت بين وظيفة الأم والأب معا لتوفير كل الظروف الملائمة لتعليم أبنائها.
صحيح أن غياب الأب شبه الدائم لا يمكن أن يُعوّض، لكن لم يكن لها أي خيار آخر غير القيام بمهمة مزدوجة في أفق تحقيق الرسالة المنشودة، إذ يكفي اليوم أن تكون واحدة من ابنتيها مخرجة أفلام وثائقية، وجامعة بين التمثيل والتحضير للدكتوراه في مجال الدراسات الوثائقية، وهي درجة تستحق الشكر والتنويه بدور الأم لاسيما في زمن غياب الأب بشكل شبه دائم.
على مدار الفيلم كانت الأم ناجحة في التعبير عن عواطفها وتعلقها بزوجها الراحل، وكانت قوية وهي تتحدث عن زوجها، وتقدم بعض التوضيحات المتعلقة بالصور العائلية أو بألبسته العسكرية أو ببعض ذكرياتها معه، وكيف اقترحت عليه أن يسجل شوقه وسلامه لأسرته في شريط صوتي، ويرسله مع أحد أصدقائه العسكريين أبناء منطقته، حيث اقترحت عليه هذا الحل كبديل عن كتابة الرسائل التي كان يجد صعوبة في البحث عمن يكتبها له، ولا يستطيع أن يكتبها بنفسه لكونه أميا.

شهادات العائلة والأقارب.. نبش في الذكريات
حضرت أخت المخرجة في الفيلم -وهي أصلا ممثلة- بكل قوتها الفنية والوجدانية لتعبر عن علاقتها بأبيها، ولكي تنبش في ذاكرتها عن ما بقي لها من آثار وجدانية وإنسانية، معبرة عن شوقها لأبيها الذي كانت تحبه بشكل كبير. هو حب تجلّى في كونها كانت محظوظة لحضور لحظة وفاة أبيها، وكيف كانت هي من أبلغت أختها المخرجة لكي تسرع بضرورة الحضور لتوديع أبيها، بعدما أدركت أن لحظة الموت قد اقتربت.
أما عن الابن الوحيد في هذه الأسرة، فقد سافر بدوره بنا في علاقته مع أبيه منذ طفولته، ووضح لنا كيف كان يساءل نفسه وهو طفل عن غياب أبيه شبه الدائم، ونبش في بقايا أبيه واستحضر زمن دراسته وذكرياته بصحبة أبيه وأمه وأختيه، وهي ذكريات يحتمي بها ضد حاضر ومستقبل دون أب.
أما الأقارب فقد رحلوا بنا نحو رمزية الراحل وعطاءاته المهنية والإنسانية، وما كان يجمعه معهم من قواسم مشتركة تتعلق بالصحبة والمحبة الجامعة بينهم. إنهم أقرباء تمكنت المخرجة من دفعهم إلى البوح بأسئلة بسيطة نتعرف عليها من خلال أجوبة هؤلاء الأقرباء الذين كانوا صادقين وعفويين في حديثهم عن الراحل، مما جعلهم يساهمون في تحقيق بُعد إنساني جميل لهذا الفيلم الوثائقي.

أنين من خلف الكاميرا.. لحظة البكاء الجماعي
من أبرز اللحظات الوجدانية القوية في الفيلم تلك اللحظات التي بكت فيها الأسرة جميعا على الراحل، بكاء لم يكن من لدن الأم والأخوين الباقيين فقط، بل كان بكاء عفويا سمعنا أنينه حتى من خلف الكاميرا، وقد كان آتيا من المخرجة.
بهذا البكاء العفوي غير المصطنع -لأننا هنا في حضرة الفيلم الوثائقي، وفي حضرة أب وهب حياته للوطن- نكون فعلا أمام مشهد حياتي إنساني حضر فيه الأب الغائب، ليجعلنا ندرك جميعا قيمة ذلك الأب الذي لا ندرك قيمته عادة إلا بعد رحيله، حيث يصبح البيت فاقد لأحد العمودين، مما يجعل الخيمة مهددة بسقوطها النهائي بعد رحيل الأم، ليصبح الأبناء يتامى في هذه الحياة التي ما إن يضيع فيها الإنسان والديه، إلا ويضيع من يفكر دوما في أدق تفاصيل حياته.
وحدهم الآباء حينما يرحلون يتركوننا بلا بوصلة ولا معنى لهذه الحياة، على الرغم مما يمكن أن نحققه فيها. لكن هي سنة الحياة وقوانين من خلقها، حيث البقاء لله وحده.

توثيق الذاكرة العائلية.. رسالة المُخرجة
أن تُخرج مخرجة فيلما وثائقيا عن أبيها العسكري الراحل، وتنبش في ذاكرته وذاكرة أسرتها وأقربائها؛ هو رسالة قوية من مخرجة فضلت البقاء في محيطها العائلي، لتستخرج منه هذه الشحنة من الأحاسيس بلغة الصورة والصوت، وبهذا تتغلب على ذلك الغياب الدائم للأب عنها وعن بقية أفراد أسرتها وفقا لطبيعة عمله العسكري الوطني والإنساني.
ما بقي من هذا “السفر الأخير” هو جعل المتلقي يُسافر بدوره في ذكرى كل من سافر من أسرته القريبة نحو الخالق، لا سيما حينما يتعلق الأمر بالأب أو الأم، إنه درس بليغ من الممكن أن نتعلمه من هذا الفيلم الوثائقي، ويتعلق الأمر بضرورة توثيق ذاكرتنا العائلية، لا سيما في ظل هذا الزمن التكنولوجي الذي سخّر وسائل التصوير وجعلها في متناول الجميع، فلم لا نسافر من خلالها إلى عوالم الآباء والأمهات والأجداد والجدات؟ لم لا نسافر إلى عوالم الطهر والجمال، لا سيما في هذا الزمن المُثقل بجروح عولمة عدة أصابت ما أصابت ودمرت ما دمرت؟
كلما اقتربنا من محيطنا العائلي للنبش في ذاكرته بلغة الفن والجمال، وجدناه حمّالا لمعاني ودلالات مملوءة بالقيم النبيلة والدافئة التي تجعلنا نستحضر أزمنة أفلتت من بين أيدينا، وعلينا العودة إليها من أجل الاحتماء بها ضد كل أشكال القبح والعنف.

“السفر الأخير”.. تكريم سينمائي من ابنة لأبيها
فيلم “السفر الأخير” للمخرجة والفنانة لطيفة أحرار هو رحلة في ذاكرة أب اختار مهنة العسكر ليدافع عن حدود جغرافية وطنه، وليبتعد بشكل شبه دائم عن أسرته التي ظلّ يزورها بشكل محدود إلى أن تقاعد، ثم ما لبث أن مرض ورحل إلى ربه. إنه فيلم من توقيع ابنته التي فضّلت تكريمه وهو في دار البقاء بلغة فنية سينمائية وثائقية منحوتة من رحم ذاكرتها المُتعلقة دوما بأبيها الراحل.
الفيلم شحنة مكانية وزمانية ووجدانية وإنسانية نشعر بها على امتداد الخط الزمني، مما يجعلنا فعلا نستحضر بدورنا كمتفرجين آباءنا الذين رحلوا عنا بصمت، لكن صورتهم لم تزل تفعل فينا فعلها على امتداد حياتنا، حتى أننا حين صرنا آباء لم يزل الطفل الساكن فينا المحتاج دوما إلى أبيه منحوتا في عوالمنا الداخلية، مما يجعل مكانة الأب مكانة وجدانية إنسانية رمزية، لا سيما من لدن الأنثى التي ترى في أبيها ذلك النموذج الإنساني الراقي الذي يظل المُحب الأول لها.
بهذا الفيلم إذن، تتحقق التفاتة وثائقية فنية لأب عسكري ظلّ يُدافع عن وطنه بعيدا عن حضن عائلته.