“العنف الجسدي ضد الأطفال”.. مدربون برتبة ذئاب بشرية

قيس قاسم

يلاحق المخرجان الفرنسيان “بيير إيمانويل” و”لونو دورينياك” القضية التي أثارتها مقابلة صحفية اعترف خلالها لاعب كرة القدم السابق “آندي وودوارد” لصحفي في الغارديان البريطانية عام 2016، بتعرضه لاعتداء جنسي من قبل مدربه “باري بينيل” حين كان ابن 11 سنة.

أثارت اعترافات اللاعب السابق بتعرضه للانتهاك الجنسي من قبل مدربه على مدى سنوات ردود فعل قوية بين الأوساط الرياضية والشعبية، وازداد الاهتمام بالموضوع بعد انضمام لاعبين آخرين إليه، قدموا بدورهم شهادات حول تعرضهم للاغتصاب من قِبل مدربيهم خلال بداية مسارهم الرياضي، ومن بينهم المهاجم السابق في نادي توتنهام والمنتخب الإنجليزي “بول ستيوارت”.

يستقصي الوثائقي الفرنسي “العنف الجسدي ضد الأطفال” طيلة أربع سنوات تفاصيل جرائم اغتصاب وانتهاك أجساد الأطفال الأبرياء من قبل وحوش آدمية تستغل حبهم للرياضة.

 

مدرب الجمباز.. أربعون عاما خلف القضبان

يثبت الوثائقي الفرنسي حقيقة وجود مثل تلك الممارسات المشينة في عالم الرياضة بنقله مقاطع فيديو قديمة متعلقة بمحاكمة مدرب ألعاب الجمباز التي تشمل ألعابا ورياضات كثيرة، وقد حكم عليه بالسجن لمدة أربعين عاما بعد ثبوت ارتكابه جرائم اغتصاب رياضيين صغار السن.

يدعم الوثائقي ذلك بشهادات أطباء نفسيين واجتماعيين تؤكد تعرض أعداد كبيرة من الأطفال الرياضيين للاعتداء من قبل مدربين وعاملين في الوسط الرياضي، فأرقام الدراسات والبحوث المعروضة خلال مسار الوثائقي تُشير إلى تعرض واحد من كل سبعة رياضيين لم يبلغوا سن الرشد إلى نوع من التحرش أو الاعتداء الجنسي، مما يدعو حسب الخبراء الذين يستعين بهم الوثائقي إلى كسر حاجز الصمت المحيط بهذا الجانب، إذ يذهب ضحية ذلك الصمت أطفال تلازمهم عقدة تأنيب الضمير طيلة حياتهم.

اللاعب الإنجليزي “بول ستيوارت” الذي تعرض لاعتداء جنسي في طفولته رفض الإعلان عنه خوفا من عدم تصديقه

 

“بول ستيورات”.. نجاح تنغصه عقدة الطفولة

يذهب الوثائقي لمقابلة اللاعب “بول ستيوارت” في منطقة بلاك بول البريطانية، بعد قبوله الحديث عن تجربته الموجعة، حيث يعترف بأنه انتظر طويلا قبل الافصاح عنها، ولولا اعترافات “آندي وودوارد” لما تجرأ وتحدث هو عما تعرض له خلال طفولته على يد مدربه طيلة أربع سنوات، فقد كان خلالها يتعرض يوميا تقريبا لاعتداء جنسي، لكنه سكت عن الإفصاح خوفا من عدم تصديقه، وبشكل خاص عائلته التي كانت تكن احتراما كبيرا للمدرب.

أصبح “ستيوارت” الآن في سن تجاوز الأربعين، لكنه ما زال يشعر بمرارة التجربة، يتذكر تفاصيلها وكيف استغل مدربه حُبه لكرة القدم وحلمه في أن يصبح يوما أحد نجومها لأغراض مرضية دنيئة، فما زالت تهديداته له بالطرد من الفريق إذا ما قام بإعلام أهله عما يفعله به ترنّ في أذنه، فقد لزم الصمت خجلا وخشية من عدم تصديق الأهل قصته، وظل محتفظا بها سنوات طويلة لم يشعر يوما خلالها بالراحة.

قادته تمزقاته النفسية إلى تعاطي المخدرات في سن الشباب، وسببت له مشاكل مع اللعبة التي أحبها، حيث لم يستطع ماله ولا شهرته التي نالها كلاعب محترف إطفاء الألم الذي ظل متقدا داخله منذ الطفولة، وبعد جهد جهيد استطاع التخلص منه.

بالرغم من موت مغتصبه بمرض السرطان وعدم تقديمه للمحكمة، فقد أصر اللاعب الموهوب على مواصلة حياته، فتزوج وصار لديه أطفال يعيش معهم اليوم براحة أكبر، وذلك بعد تقديم شهادته وتخلصه من أعباء السكوت عنها سنوات.

مجموعة من الأطفال اللاعبين الذين تم استغلال أجسادهم من قبل مدربيهم

 

تحرش النادي وخوف المنزل.. صمت الأطفال

يسأل الوثائقي معالجين نفسيين ومختصين اجتماعيين عن أسباب سكوت الأطفال طويلا على ما يتعرضون له من أذى، وتُحيل أجوبتهم إلى مجموعة من الحقائق تعزز ذلك السلوك، ومن بينها ضعف الأطفال مقابل سطوة المدربين.

يتلقى الطفل الرياضي في بداية مساره تربية رياضية توصي بطاعته، وتقترن الطاعة عادة بالخوف من الطرد والحرمان من ممارسة الرياضة التي يحبونها ويحلمون أن يصبحوا أبطالا لها، وذلك لأن المدرب لديه سلطة مطلقة، وإذا كان من ذوي التوجهات الجنسية الشاذة فسيعمل على استغلال سلطته.

أما العامل الآخر الدافع للصمت فيكمن في خشية الطفل من عدم تصديق الأهل لكلامه، فلدى أغلب العوائل قناعة بأن المدربين شخصيات مشهورة وجذابة لا تحتاج للتحرش بالأطفال، وهذا ما يُعَقد الوضع عادة، ويجعل المصارحة أمرا صعبا، لهذا ينبغي وضع ضوابط صارمة ومراقبة دقيقة للعلاقة بين المدرب والطفل الرياضي، والتقيّد بما جاء في “إعلان الطفولة” الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1989.

هذا بعض ما شدد عليه الخبراء للحد من التحرش الجنسي للأطفال، فمساهماتهم أغنت كثيرا المتن الوثائقي، وقدمت تفسيرات وتحليلات غاية في الأهمية.

مدرب ألعاب الجمباز الإسباني الشهير “خيسوس كاربالو” الذي استغل جسد اللاعبة الإسبانية “غلوريا فيسَراس”

 

اغتصاب الأطفال.. فضيحة تستر عليها الاتحاد الإسباني

لعرض أشمل يتعدى فضائح كرة القدم، يتوجه الوثائقي لمقابلة لاعبة جمباز سابقة قبلت بتقديم شهادتها عن حالة الاغتصاب التي تعرضت لها من قبل مدربها وهي في سن الطفولة، إذ تقر اللاعبة الإسبانية “غلوريا فيسَراس” بتأخرها في كشف الاستغلال الجنسي الذي تعرضت له، حتى بلوغها 36 عاما.

يظهر حتى اليوم القلق واضحا على ملامحها وهي تحكي عن طفولتها، وكيف قام مدربها نجم ألعاب الجمباز الإسباني الشهير “خيسوس كاربالو” باستغلال جسدها، فهي تصفه بأنه يتمتع بجاذبية ولطف، لذلك لم يكن أحد يصدق قصة اغتصابه لها وهي في عامها العاشر، وبشكل خاص عائلتها التي خافت من مصارحتهم خشية عليهم من الصدمة، لهذا كله لجأت إلى الصمت، وقررت وقتها أخذ سرها معها إلى القبر.

تصف “غلوريا” مشاعرها والخجل الذي لازمها منذ الطفولة، فهي كانت تمشي مطأطأة الرأس بين زملائها، ولا تريد الحديث مع أحد، فقد نجح المدرب في عزلها عن العالم بحجة التدريبات، ومنع عنها الاختلاط بالأولاد من عمرها ومنهم إخوتها، وأقنعها بأنه الراعي لها بدلا من أهلها.

انتظرت اللاعبة موت والديها لتعلن عما جرى لها مع وحش آدمي انتهك جسدها الصغير دون رحمة، فقررت رفع دعوى ضده، وانضمت إليها رياضيات تعرضن مثلها للاغتصاب من قبله، إلا أن المدرب أنكر كل التهم الموجهة إليه، كما تستر الاتحاد الإسباني على أفعاله خشية من جرّ مسؤوليه إلى المحاكم بتهمة المشاركة والسكوت على الجريمة.

السباح الأمريكي “مايكل فيليبس” الذي خطف لوحده عشرات الميداليات خلال مسيرته الرياضية

 

اتحاد السباحة الأمريكي.. إمبراطورية حصد الميداليات

يعتقد أكثر الرياضيين أن اتحاداتهم تدافع عنهم وتبعد عنهم الأخطار، لكن الواقع يقول عكس ذلك، فالوثائقي يقدم اتحاد السباحة الأمريكي مثالا على السوء والفساد، فهو يتمتع بسطوة ومكانة خاصة نتيجة لحصوله على أكبر عدد من الميداليات الذهبية الأولمبية.

ففي أولمبياد 2016 حصل سباحوه على 33 ميدالية، وقد خطف السباح الأمريكي “مايكل فيليبس” لوحده عشرات الميداليات خلال مسيرته الرياضية، فهو اتحاد لديه 400 ألف منتسب، وميزانيته السنوية بالملايين.

ظل “تشوك ويلجاس” رئيسا للاتحاد طيلة عشرين عاما، وخلالها صار واحدا من الأغنياء، بعد أن حوّل السباحة من رياضة إلى تجارة، وشهدات فترة رئاسته الكثير من جرائم الاعتداء الجنسي على السباحين الصغار.

شهادة بخط اليد لأحد المدربين يعترف فيها المدرب بارتكابه أفعالا موحشة بحق طفلة لم تتجاوز 15 عاما

 

“مُدرب العام”.. رسالة اعتراف بالتحرش بخط اليد

“جوناثان ليتل” هو واحد من المحاميين الذين تولوا الدفاع عن ضحايا التحرش والعنف الجنسي ضد صغار السباحين، فهو يعرف الكثير من الخفايا، ولديه أرشيف ضخم مليء بالفضائح التي تستر عليها الاتحاد خشية من فقدان سمعته، وبالتالي خسارة مسؤوليه المنافع الكبيرة منه.

يقدم “جوناثان” بالدليل شهادة أحد المدربين كتبها عام 1986 بخط يده، حيث يعترف فيها المدرب بارتكابه أفعالا فاحشة بحق طفلة لم تتجاوز 15 عاما، ورغم ذلك حصل من الاتحاد بعد ثمانية أعوام من كتابة شهادة الاعتراف على جائزة “مدرب العام”، وظل يعمل بوظيفته لمدة 26 عاما.

إجهاض في المراهقة.. محكمة انتقائية في مملكة الاتحاد

اعتمد رئيس الاتحاد سياسة منفعية إزاء الأعضاء المُقَدم ضدهم شكاوى، حيث كان يطرد “غير النافعين”، ويتجاهل الشكاوى المقدمة ضد السباحين الحاصلين على ميداليات، فهو كان يتبع سياسة خاصة به مفادها أننا نحمي المتحرش الذي يجلب لنا المال، ونطرد غير النافعين.

من بين هؤلاء كما يأتي في سياق العرض التفصيلي للوثائقي المدرب “أندرو كينغ” الذي حكم عليه لمدة 40 عاما بسبب انتهاكه أجساد 15 طفلة، بينهن واحدة تعرضت للإجهاض وهي في عامها الرابع عشر.

كانت تحدث في كل أسبوع حالة اغتصاب أو حالات تحرش جنسي بالأطفال كما يؤكد المحامي، ومع ذلك ظل رئيس الاتحاد في منصبه حتى وفاته عام 2017، ومن أسباب طول بقائه في مركزه استحداثه نظام حماية خاص به، ويعتمد فيه على شركة تأمين خاصة أسسها الاتحاد، وأوكل إليها تقديم التعويضات المالية لعوائل الأطفال المنتهكة أجسادهم، من دون الحاجة لمرور شكواهم عبر النظام القضائي الرسمي.

كما أسس محكمة خاصة بالاتحاد تتولى النظر بالشكاوى المُقدمة ضد أعضائه، واشترط النظر بها فقط في حالة تقديمها عبر موظفين وشخصيات يعينهم فيها، وقد جَنّبَه هذا لسنوات طويلة المساءلة القانونية، وظلّ الأطفال خلالها نهبا لمخالب وحوش آدمية حظيت دوما بحماية الاتحاد.

مقر اللجنة الأولمبية الدولية التي تتجاهل ما يجري في الاتحادات المحلية نظرا لخوفها على مكاسب مسؤولي اللجنة

 

“اللجنة الأولمبية الدولية”.. عذر أقبح من ذنب

وسط كل هذا الفساد والانتهاك الصارخ للطفولة يأتي السؤال عن دور “اللجنة الأولمبية الدولية”، فرغم الدور المناط بها لحماية الرياضيين، فإن المعطيات على الأرض تشير إلى تجاهل مسؤوليها البحث في التجاوزات الصارخة لروح نصوص مبادئها من قبل مسؤولي الاتحادات المحلية.

ومن الأسباب وراء تجاهل ما يجري في الاتحادات المحلية الخوف على مكاسب مسؤولي اللجنة، وحرصهم على الاحتفاظ بامتيازاتهم المالية الكبيرة.

يقابل الوثائقي إحدى المسؤولات ويسألها عن سبب ضعف متابعة الشكاوى المقدمة ضد الاتحادات المحلية، وقد بررت ذلك بثقتها بالاتحادات، وأن اللجنة تتواصل معها بانتظام وتتابع عملها، وأنها تصدر إليها توجيهاتها من دون التدخل في شؤونها الخاصة.

 

قانون حماية الأطفال.. خطوة في طريق المعالجة

للبحث عن معالجات جادة للظاهرة يرجع الوثائقي إلى بريطانيا لمقابلة محاميين ونشطاء حقوقيين يعملون على الحد منها. يُذِكّر أحدهم بوجود نظام حماية للأطفال صدر عام 2001 في بريطانيا، ولا بد من تفعليه وتعيين أشخاص يتولون تنفيذ بنوده.

ومن بين تلك البنود منع الاحتكاك الجسدي بالرياضيين الأطفال، وفصل أسِرة نوم الرياضيين الصغار عن الكبار والمدربين خلال الرحلات، وعدم الاستحمام في الحمامات نفسها، وتنظيم دورات للمدربين والعاملين في الحقل الرياضي يتعلمون خلالها أساليب وطرق تأمين حماية كافية للرياضيين الصغار السن.

يرجع الوثائقي إلى اللاعب “بول ستيوارت” ليصوره في أحد ملاعب الكرة، وهو يقوم بتدريب لاعبين صغار السن في منطقته، ومعه مجموعة من المدربين الجدد انضموا إلى دورات خاصة بأساليب التعامل مع اللاعبين الصغار، وأبدى الكثير منهم ارتياحه لما حصلوا عليه من معلومات مفيدة لهم وللأطفال الذين يقومون بتدريبهم.


إعلان