“استمع”.. صرخة أم مُهاجرة في وجه الأنظمة البيروقراطية

“أطفالنا ليسوا للبيع”.. هي صرخة تُطلقها أم مهاجرة يتهدّدها مصير أولادها بتسليمهم عنوة إلى عوائل أخرى، إنها صرخة تُلخص حدّة نبرتها وحرقة قلبها على أولادها وخوفها من فقدان أعز ما تملك، وذلك في بريطانيا التي جاءت إليها من البرتغال مع بقية أفراد عائلتها أملا في تحسين وضعها الاقتصادي، لكنها دخلت دوّامة رعب بسبب صرامة موظفين بيروقراطيين لا يعرفون سوى تنفيذ ما هو مُسطّر أمامهم في سجلات أنظمتهم الإدارية.

تلك العبارة التي أطلقتها الأم داخل أروقة محكمة مختصة بقضايا اللجوء والهجرة؛ تُمهد لقراءة متأنية في فيلم “استمع” الذي تتجاوز حكايته المثيرة لمشاعر الحزن والغضب في آن، إلى معاينة الجوانب السياسية والأخلاقية للأنظمة المعنية بمعالجة قضايا المهاجرين، وذلك ارتباطا باللحظة التي كانت بريطانيا تمهّد فيها لخروجها من “الوحدة الأوروبية” نحو انغلاق وانعزال يشبعان نزعة أنانية يقودها تيار يميني، وتنعكس نتائجها على حياة كثير من المهاجرين القادمين إليها بحثا عن فرصة عمل تعوّض ما يفتقدونه في بلدانهم.

من البرتغال إلى بريطانيا.. نظرة على هموم المُهاجرين

الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرجة البرتغالية “أَنا روشا دي سوسا”، والمعروض في الدورة الأخيرة لمهرجان الجونة السينمائي 2020، والحائز على جائزة لجنة التحكيم الخاصة بمسابقة “آفاق” في الدورة الـ77 لمهرجان البندقية الدولي 2020؛ تدور أحداثه حول عائلة قادمة من بلد أوروبي وليس من أحد بلدان العالم الثالث، لتجرب حظها في بريطانيا بعدما عجزت عن توفير حياة جيدة لأبنائها في بلدها الأصلي.

تلك الميزة القليلة التقديم في السينما الأوروبية المهمومة بسؤال الهجرة، تمنح السيناريو (كتابة المخرجة مع “باولا فاكارو” و”آرون بروكنر”) والاشتغال البصري الرائع مساحة أكبر تسمح لصانعته بتقديم رؤية أوسع لمشكلة كونية الطابع لا تتعلق بجغرافيات أو أعراق معينة.

ما يزيد من عمق النص السينمائي النقدي هو وجود طفلة صمّاء بين أطفال العائلة المهاجرة، ما يمنح الفيلم بُعدا إضافيا يتجلّى في مساره الدرامي الحزين، وأيضا في عنوانه “استمع” الدال ضمنا على عجز الطفلة عن أداء هذا الفعل لعُطل خلقي في جسمها، وللنظام السياسي الأوروبي الذي يعجز أو لا يريد سماع الطرف “الضعيف” القادم إليه بدافع إنساني غريزي.

فكل كائن بشري يريد تأمين حياة جيدة له ولعائلته، بخاصة في زمن الأزمات الاقتصادية والكوارث، وهذا كان الدافع الرئيس للزوجين البرتغاليين “بيلا” (الممثلة لوسيا مونيز) و”جوتا” (الممثل روبين غارسيا).

الأم البرتغالية “بيلا” في أحد شوارع لندن مع أطفالها

ملونون في استقبال مهاجرين بيض.. كسر النمطية

ولا يكتفي النص بذلك التميز والتفرد، فيضيف إليهما عناصر جديدة تُلغي الانطباعات السائدة حول طبيعة المتعامل مع المهاجر في البلد الأوروبي. ففي الغالب الأعم من الأفلام يكون من أبناء البلد، وهو أبيض البشرة يتعامل دوما بعقلية المتفوق مع مهاجرين من أعراق مختلفة ذوي بشرات سمراء.

موظف بريطاني ذو بشرة سوداء يمثل الحكومة البيروقراطية التي تنفذ القوانين الجائرة على المهاجرين

في منجز المخرجة “دي سوسا” يوجد انتباه فريد إلى هذا الجانب، وإلغاء واعٍ له يتمثل في رسم مختلف للشخصيات المتعاملة رسميا مع العائلة المهاجرة، فهم في “استمع” بريطانيون من أصول غير أوروبية، بشرتهم سمراء، بينما الطرف القادم إليهم هو أوروبي أبيض.

تُعطي هذه المعادلة عمقا للمسألة المطروحة تتجاوز اللون والعرق، وصولا إلى جوهر الأنظمة البيروقراطية القاسية التي لا يهمها طبيعة الشخص المنفذ لأوامرها، بقدر ما تريد من خلاله فرض رؤيتها على بقية البشر، الراغبة بقوة بالإحساس بالتفوق بإخضاعها لقوانينها ونواميسها.

قوانين التبنّي العمياء.. تفوق البيروقراطية على الإنسانية

سنرى في مشاهد كثيرة الضابط الأسمر والموظفة الآسيوية الأصل وهما يحرصان على تنفيذ كل ما يُسطّر في لوائح الأنظمة البريطانية حرفيا، من دون مراعاة لما تسببه تعميماتها من عذاب لعائلة وجدت نفسها مهددة بفقدان أطفالها وتسليمهم إلى عوائل تنتظر تبنيها لهم، من دون موافقتهم ولا موافقة أهاليهم.

صورة تجمع العائلة البرتغالية المكونة من الأب “جوتا” والأم “بيلا” والابن الأكبر “دييغو” وأخته الصماء “لو”

قضية التبني مفردة إضافية ومحورية في الفيلم، فمساراته الدرامية المؤلمة تجلي جانبا من قسوتها يوم يجري ترتيبها وفق إرادات بيروقراطية، لا وفق دوافع إنسانية تعوّض حرمانا.

مشهد العائلة.. ظاهر الحب السائد وباطن المعاناة القاسية

يرسم مشهد العائلة المهاجرة على دفعات، فكل مشهد يكمّل ما قبله، وصولا إلى المواجهة مع المؤسسات الاجتماعية وأجهزة الشرطة البريطانية، فرغم القلق وضيق الحال بسبب الشُحّ المادي، نرى وجودا لتماسك عائلي وحُب بين أفرادها الصبي الأكبر المراهق “دييغو” (الممثل جيمس فيلنر) وأخته الصماء “لو” التي تصغره سنا (أداء تمثيلي باهر للطفلة مايسي سلاي)، إلى جانب توأم يعتني بهما الأب أثناء غياب زوجته في العمل كمنظفة براتب غير كامل.

الشرطة يقتحمون البيت برفقة موظفي الشؤون الاجتماعية وينتزعون الأطفال من أحضان أمهم

الحب يسود المكان والشخوص، والشُحّ ظاهر في المنزل الذي توفره لهم دائرة الشؤون الاجتماعية وفق شروط عليهم تطبيقها.

ينقل المشهد الذي يسبق زيارة موظفيها لبيتهم حالة الخوف والحرص على الظهور أمامهم كعائلة سوية تقوم بتربية أولادها، وتعتني بهم حسب “المواصفات” البريطانية. كل شيء عادي داخل المنزل، هكذا يوحي المشهد الأول، لكنه في الواقع ليس هكذا، فثمة نواقص وحاجات لا تغطيها الإعانة الاجتماعية، مما يدفع الأم لسرقة بعض الحاجيات المنزلية من المتجر القريب من بيتهم.

رجال الشرطة البريطانية يقتحمون بيت العائلة البرتغالية المهاجرة ويعتقلون الأم بحجة أن وجودها خطر على حياة أبنائها

الزوج الذي يمارس هواية الرسم بالقلم الرصاص يبدو أنه كان يعمل في السابق عند صاحب معمل بريطاني طرده من العمل ورفض دفع مستحقاته، أما الطفلة الصماء فقد انكسرت سماعة أذنيها، ولعجز أهلها عن شراء واحدة جديدة بديلة لها قاموا بتصليحها بشكل سيء.

سماعة الأذن التالفة.. منعطف يفجر أحداث الفيلم

لم يتصور الزوجان أن سوء عمل السماعة سيكون سببا لدخولهما مع أطفالهم إلى الجحيم البريطاني، فبعد أن رأت معلمة الطفلة كدمات بسيطة على جسدها، ظنتها ناتجة عن تعرضها لعنف أسري، وبسبب سوء التواصل عبر السماعة المكسورة نشأ سوء فهم بينهما، بلّغت إثره الجهات الاجتماعية عن “تعرض الطفلة للضرب”.

السماعة التالفة كانت السبب في دخول العائلة في مشاكل كبيرة مع الحكومة البريطانية

دون مقدمات ولا دراسة مُعمّقة لملف العائلة، يقتحم رجال الشرطة برفقة موظفي الشؤون الاجتماعية بيتهم، ويقومون بانتزاع الأطفال من أحضان أمهم بحجة وجود خطر على حياتهم.

انفعال الأم الهستيري.. حين تصبح لغة الإشارة جريمة

ينتقل مسار الفيلم الدرامي بعدها إلى مرحلة شديدة التوتر والتجاذب بين الأطراف المتنازعة. فالزوجان لا يفهمان ولا يقبلان بانتزاع أطفالهم من أحضانهم بالقوة بحجج غير صحيحة مبنية على سوء فهم لا أكثر. أما الجهات الرسمية فتتشبث بموقفها، وتستند على لوائح صماء تنفذها.

الكلام بلغة الإشارة مع الطفلة الصماء ممنوع وفق اللوائح البريطانية

كل حركة وردّ فعل حاد داخل المؤسسة التي احتجزوا الأطفال داخلها في انتظار نقلهم إلى عوائل أخرى؛ يعزز موقف الجهة الرسمية، فغضب الأم وصراخها يُحسب عندهم “انفعالا هستيريا يُدلل على نزعة عدوانية تنعكس على الأطفال”، أما الكلام بلغة الإشارة مع الطفلة الصماء فهو ممنوع وفق اللوائح، وذلك “خشية من تفاهمات على هروب أو تلقينها شهادات كاذبة”.

هذا يولد مرارة ممزوجة بسخرية، لأن الأهل لا يملكون غير لغة الإشارة وسيلة للتواصل مع ابنتهم، بينما يرفض الموظفون ذلك. فما العمل؟ سؤال يثير غضب الأم العاجزة عن فهم رفضهم لغة الإشارة، مما يزيد من تشدد الجهات الرسمية ضدها، ويعزز موقفهم القانوني.

ناشطة تدعم المهاجرين.. عناصر درامية تحرك المياه الراكدة

تضيف صانعة الفيلم لفض الاشتباك المستحكم عناصر درامية جديدة على مشاهده، وتتمثل بشخصيات تُحيِل مواقفها التضامنية مع المهاجرين لتأكيد وجود واقع آخر مواز في المجتمع البريطاني، وأن الناس ليس كلهم يشبهون مؤسساتهم البيروقراطية والسياسية، فهناك كثير منهم لا يتوانون عن تقديم المساعدة للمهاجر.

الأب “جوتا” والأم “بيلا” في حيرة وقلق بعد أن أخذت الشرطة البريطانية أطفالهما

ومن بينهم ناشطة في منظمة مستقلة لدعم المهاجرين، وقد سبق لها العمل في دوائر الشؤون الاجتماعية، وتعرف جيدا نقاط ضعفها ومقدار قسوتها، حيث وضعت مع الزوجين خططا لتهريب الأطفال واتباع سبل قانونية أصولية.

لقنت الناشطة الأم دروسا بضبط الانفعال، وتوافق الطرفان المتعاونان، وبدأ فصل جديد من التوتر وصل إلى قاعة المحاكم، حيث رفع موظفو الدوائر الرسمية شكوى إليها، وعليها استدعيت الأم وزوجها إلى المحكمة.

“أطفالنا ليسوا للبيع”.. مرافعة بارعة ترسم النهاية

في يوم استدعاء الأم إلى المحكمة وفي مرافعتها البارعة بلغة إنجليزية جيدة هبطت عليها فجأة بدافع الخوف من فقدان أطفالها، شرحت الأم تفاصيل ما حدث، وقالت في تحدٍّ صارخ للأنظمة البيروقراطية “أطفالنا ليسوا للبيع”.

صرخة مُدوّية أطلقتها فما كان من القاضي سوى إصدار قرار لصالحها.

الأم تصرخ في وجه القاضي في تحدٍّ صارخ للأنظمة البيروقراطية “أطفالنا ليسوا للبيع”

لم ينته الفيلم لأن هناك حركة (مشهد) كان لا بد لها أن تقع لتعزيز الموقف السينمائي من كل ما جرى، حيث يظهر ما بين الأحراش ليلا الصبي الأكبر وهو يحاول اجتياز الحدود، لكن هذه المرة من بريطانيا إلى خارجها، بعد أن فقد وعائلته أمل العيش بكرامة في بلد لم يعد يرغب، ولا يريد صون كرامة الواصلين إليه.