“دراجو العدالة”.. رحلة البحث عن مفجر القطار بعيدا عن الشرطة

د. أمــل الجمل
“التنبؤ بالأحداث قبل وقوعها هو هدفنا، كذلك تطوير النُظم الحسابية نظريا، فعندما نمتلك البيانات اللازمة ننجح في تشكيل نتيجة حقيقية، مما يساعد على اكتشاف الخلل وتفسير الأشياء، فغالبا ما نُصنف الأشياء على أنها مصادفة، لأننا لا نمتلك دلائل كافية، فجميع الأحداث هي نتاج سلسلة من الأحداث السابقة.
هكذا يُؤكد بحماس كبير “أوتو” وصديقه “لينار” على الخوارزمية التي ظلّا يعملان عليها لعدد من السنوات، ومع ذلك سيطردان من العمل لعدم اقتناع المسؤولين عن الشركة بحججهما وتفسيراتهما، وذلك ضمن أحداث فيلم ” درّاجو العدالة” (Riders of Justice) للمخرج الدانماركي المتميز “آندرس توماس جنسن” الذي نال أوسكار 2021 عن فيلمه “جولة أخرى” (Another Round) كأفضل فيلم أجنبي، وهو من بطولة نجمه المفضل الذي يقوم ببطولة أغلب أعماله “مادس ميكلسن”، ويقدم هنا دورا مملوءا بالتحدي لعدم وجود حوار له إلا نادرا، إذ يعتمد على تجسيد المشاعر الجوّانية المكتومة التي يحاول أن يكبحها أغلب الوقت.
رجل البيتزا والعصير الغامض.. انفجار في القطار المزدحم
يحمل أوتو صندوق أوراقه وبحوثه عقب طرده، يركب القطار كالمعتاد، لكن قبل موعده بثلاث ساعات، يجلس يتأمل الركاب، فأسلوب عمله يُؤثر على رؤيته للحياة، وكأن عقله يُحاول أن يُحلل كل شخصية وما وراءها، يتوقف أمام رجل ضخم ذي أوشام كثيرة على ذراعيه ورقبته، وشخص نحيف غريب على متن العربة نفسها، يراه ينهض فجأة، يُلقي بشطيرة بيتزا وكوب عصير كبير مغلق -تكلفتهما تتجاوز 14 يورو- في سلة المهملات، مما يثير دهشته وشكوكه.
وفجأة تصعد فتاة ووالدتها سبق أن رأيناهما في مشهد سابق، إنهما “ماتيلدا” وأمها “إيما”، أما “ماتيلدا” فقد سُرقت دراجتها الزرقاء، وتعطّلت سيارة الأم، ما سبب ضياع اليوم الدراسي على الفتاة، يتصل “ماركوس” من أفغانستان ليُخبر زوجته بعدم حضوره لثلاثة أشهر أخرى، فالإحباط يجعل الأم تُقرر أن تخرج مع ابنتها “ماتيلدا” للترفيه.
الآن هما في طريق العودة إلى البيت عبر القطار، يبدو أنهما تمكنتا من قضاء وقت ممتع، وأحضرتا بعض المشتريات. لقد كان القطار مزدحما فعرض عليهما “أوتو” مقعده ووقف مبتسما حاملا صندوقه، لتجلس الأم ويتحرك القطار، وبعد لحظات يقع انفجار مُدوٍّ تذهب ضحيته الأم من بين 22 شخصا إضافة للمصابين.
مصرع النسر.. بحث عن القاتل بعيدا عن الشرطة
يشعر “أوتو” بالذنب لكونه كان السبب في وفاة هذه المرأة، خصوصا عندما يرى ابنتها في حالة صدمة مُروّعة بالمستشفى، رغم أن السلطات تنفي أنه حادث مُدبّر من قبل إرهابيين، لكن أمام التلفاز تتوالى أخبار حادث تفجير القطار الدانماركي، وتُفيد بأن النسر -وهو أحد أعضاء عصابة “درّاجي العدالة”- كان على متنه، وقد وافته المنية وبصحبته المحامي الخاص به، وذلك فقط قبل 13 يوما من شهادة النسر ضد زعيم عصابة “درّاجين” في جريمة قتل شهيرة آنذاك، راح ضحيتها أربعة رجال أتراك، فزعيم العصابة مُتهم بحيازة المخدرات والسرقة والتواطؤ في القتل وسرقة الخيول وحيازة غير شرعية لسلاح ناري.
يبدأ “أوتو” وصديقه “لينار” رحلة البحث عن الشخص المشتبه فيه الذي هبط من القطار مُسرعا حين ألقى العصير والبيتزا قبل الانفجار، وذلك بمساعدة صديقهما البدين العصبي “إيمنتالر” المتخصص في قرصنة المعلومات عبر الشبكة العنكبوتية.
تتطابق المواصفات مع رجل من نزلة السمان بمنطقة الهرم في مصر بنسبة 99.12%، لكن “أوتو” و”لينار” يرفضان هذا الاقتراح بإصرار لأنه غير منطقي، فالتفجير وقع في الدنمارك، ويُعاد البحث ليستقر بنسبة 95% على رجل آخر يكاد يُشبهه لكنه دنماركي، وبالبحث عنه يجدون أنه مهندس كهربائي متخصص في مركبات القطار، وأنه شقيق “كورت أوليسن” رئيس عصابة “درّاجي العدالة”، وأنه في الليلة السابقة للتفجير كان موجودا في محطة قطار الشحن الذي اصطدم لاحقا بقطار الركاب.

ورغم تأكيد الشرطة أن وقوع الحادث كان مجرد مصادفة، فإن “أوتو” و”لينار” المتخصصين في قانون الصدفة ينفيان ذلك، ويتواصلان مع الشرطة ثلاث مرات لكن لا أحد يُنصت إليهما، بل يعتبرونهما اثنين من الدجّالين الأذكياء، فيقرران مواصلة الطريق بعيدا عن السلطات، خصوصا أنهما يُدركان أن بعض رجال الشرطة يقدمون خدماتهم لأفراد العصابة وزعيمهم.
يقرر الصديقان -لسبب غامض حتى الآن- البحث عن مساعد لهما، وإشراكه في البحث عن الشخص المشتبه فيه ومواجهته، إنه “ماركوس” (مادس ميكلسن) الجندي في أفغانستان الذي راحت زوجته “إيما” ضحية الحادث الأليم الذي لم يتعاف من صدمته بعد، ولديه رغبة انتقامية متأججة، وإن بدا ظاهريا أنه هادئ جدا في كثير من المشاهد.
“ماركوس”.. شعور الجندي بالتقصير تجاه زوجته المتوفاة
ينجح الاثنان في إقناع ماركوس، خصوصا أن النسر أحد أعضاء عصابة “درّاجي العدالة”، وهو الشاهد الأساسي ضد زعيمها، كان النسر شخصا منهجيا في التفكير، فيستخدم نفس جهاز الركض بسبب وسواسه القهري، لذلك دائما يجلس في العربة الثانية من القطار بذات الرقم الذي يفضله دائما على الجانب اليمين من العربة، لدرجة أنه تشاجر في إحدى المرات مع راكب رفض التخلي عن ذات المقعد، مما يجعل الأصدقاء يُرجحون أن العصابة كانت تعلم بذلك، وخططت للتفجير. على الأخص أن الجانب الأيمن من العربات الأمامية الثلاث هي التي تضررت بشكل رئيسي.
تتشابك كافة الخيوط التي تؤكد خوارزمية “أوتو” و”لينار” بمساعدة صديقهما المُقرصن “إيمنتالر”، ويتحول “ماركوس” إلى أداة التنفيذ القتالية.

ظاهريا يبدو فيلم “درّاجو العدالة” فيلما عن فكرة الانتقام التي ينقاد لها زوج فقد زوجته فجأة، وهو غارق في شعور كبير بالذنب تجاهها لتقصيره معها ولغيابه الدائم، خصوصا أن “ماركوس” بعد أن صار من أفراد القوات الخاصة في أفغانستان بقي طويلا في الحرب هناك، ويبدو أنها أثرت عليه نفسيا وعاطفيا، فأصبح يغيب عن البيت لشهور ممتدة، وحتى عندما يعود يظل جالسا وحده في الحظيرة الواسعة لا يفعل شيئا، كأنه قد استسلم لمصيره، فصارت علاقته بابنته “ماتيلدا” وزوجته “إيما” غير جيدة وتفتقد التواصل، مما أثر على الفتاة نفسيا.
“ماتيلدا”.. أحاديث الصراع النفسي وقراءة الصدفة
إذن، ليس الانتقام هو الأساس في هذا العمل الذي ينتمي للكوميديا السوداء، فجوهر الفيلم يدور حول منطقة أخرى أشد إنسانية، فهؤلاء الأصدقاء الثلاثة حينما يدخلون إلى بيت ماركوس تراهم “ماتيلدا” بالصدفة، فتتساءل بدهشة، خصوصا أن بينهم “أوتو” الذي شاهدته في القطار.

محاولة الكذب وإخفاء حقيقة الانتقام تجعلهم يتورطون في علاقة صداقة مع الابنة “ماتيلدا” التي تتوهم أنهم الأطباء النفسيون الذين كان والدها يرفض حضورهم إلى البيت ليساعدوها في تجاوز منحة فقدان الأم، ومن ثم تجد الفتاة مَنْ تتواصل معه، فتحكي مع “لينار” عن هواجسها وأفكارها وخوفها أن تُصبح مثل أبيها، أن تشبهه في قسوته وموت قلبه، فهي تشعر بأن قلبها فيه قسوة مثله، فقد رأت قطة تُدهس ولم تتأثر، لذلك تخشى أن تُصبح شبيهة به، حيث تستيقظ كل صباح ولا تشعر بشيء في الحياة، مثلما تخشى على أبنائها في المستقبل عندما تُنجب.
“لكي أجد شخصا ألومه وأُلقي عليه بالمسؤولية”
عندما يدخل “أوتو” إلى غرفة “ماتيلدا” ليحاول محو غضبها على والدها المتهور الذي ينفعل بسرعة ويضرب الآخرين، يكتشف خلف سريرها قصاصات من الورق المُلوّن مكتوب على كل منها سلسلة الأحداث التي لو لم تقع لما ارتادت هي وأمها القطار في ذلك اليوم. ثم تتساءل “ماتيلدا” كاشفة عن الصراع النفسي المعتمل بداخلها، مستعيدة كلمات جنازة الأم: “كانت الكاهنة لديها يقين بأن الله لديه سبب يستدعي وفاة أمي، لكن أبي غير مؤمن بهذه الحجة، لأنه غير مؤمن بوجود الله، زاعما بأنه على الإنسان أن يفرّق بين الواقع والخيال، وأنه عليَّ أن أنسى ما قالته الكاهنة، فهي لا تفهم نصف ما تقوله من هراء”.
يخبرها “أوتو” بأن تفكيرها متقدم، لكن لو استسلمت لسلسلة المصادفات فلن تصل إلى نتيجة، لأنها سلسلة لا نهاية لها، فكل حادث يبدو صدفة يرتبط به عشرات الحوادث الفردية، فمثلا لو أرادت تأمل حادثة أنه ترك الكرسي لوالدتها في القطار فعليها أن تعود للرجل الذي علمه ذلك، ولماذا وكيف التقيا، وهي بعقلها البشري ستعجز عن فهم ذلك، لذلك فإن كل هذا لن يفيد، وعليها أن تركز على الأشياء الجيدة في الحياة.

تصمت “ماتيلدا” قبل أن تجيبه قائلة: هناك حلم يتكرر معي، أرى فيه نفسي وأنا أجري وراء الرجل الذي سرق دراجتي، ولا ألحق به أبدا. حتى لو لحقت به لن أفعل شيئا ضده، لكني سأسأله لماذا فعل هذا؟ ربما، فقط لأهدأ، ولكي أجد شخصا ألومه وأُلقي عليه بالمسؤولية.
التخلص من الذنب.. دوافع شخصيات الفيلم الخفية
يندهش “أوتو” من مستوى وعي “ماتيلدا، وكأنها بجملتها الأخيرة أضاءت له شيئا، أي أنه خلال تلك المحاولة للتقرب من “ماركوس” ومساعدته في الانتقام لمقتل زوجته، كأنما كان يفعل ذلك ليتخلص من الشعور بالذنب، ليجد شخصا آخر يلقي عليه بالملام.
يتأملها بحب وإعجاب، يذكرنا بقصته التي حكاها قبل قليل صديقاه “لينار” و”إيمنتالر”، وذلك عندما انفعل عليه ماركوس وحطّم أنفه وألقى به خارج السيارة، فيحكي الصديقان قصته، لنُدرك أن الإعاقة في ذراعه الأيمن بسبب حادث وقع له أثناء قيادة سيارته وهو مخمور، ففقد ابنته وزوجته في ذلك الحادث، أما “إيمنتالر” فكان يعزف على البوق وهو يرتدي لزي الأسد في طفولته على المسرح بين أقرانه، ويشارك في العروض الأدائية الناجحة، لكن حين بلغ سن الرشد لم يعد مسموحا له بممارسة أكثر شيء يحبه في الوجود.
أما حكاية “لينار” فهي مختلفة، إذ كان عازف غيتار ضمن فرقة شهيرة، لكن يبدو أنه وقع اغتصابه على أيدي بعض الرجال، وصار ذلك أمرا يتكرر بصورة لم تعد محتملة، فهرب من بلده، وتخفى هنا تحت اسم آخر، لذلك نراه قد تجاوب عاطفيا مع الفتى المُقيد المعُتدى عليه جنسيا في بيت أخي زعيم العصابة والمشتبه فيه.

لذلك أيضا عندما قتلوا أفراد العصابة طلب من “ماركوس” أن لا يقتل هذا الفتى الجميل وأن يأخذوه معهم، فأنقذ حياته، وهو ذاته الشاب اللطيف الذي سيُعامل “ماتيلدا” برقة ورعاية، ويُعد لهم جميعا وجبات لذيذة، إذ أصبح يفضل العمل كمدير للبيت على مهنته السابقة المُهينة لإنسانيته، ثم يحكي لهم عن سبب تورطه في هذا النشاط بسبب الفقر، وأمه التي باعته، فقد أنجبت عددا لم تستطع إطعامهم، فكان هو ثمنا لتربية أخواته، واشتراه أحد الرجال، وهناك صار مثل كلب القرية يركبه الجميع، ولم يستطع التخلص من ذلك أبدا، إلا عندما عثر عليه عازف الغيتار “لينار” وأنقذ حياته.
قلب الأحداث.. مفاجآت النهاية الصادمة
الأمر الذي لا يمكن إغفاله في هذا الفيلم هو عنوانه “درّاجو العدالة” الذي يحمل اسم العصابة الشهيرة ضمن أحداثه، وفي هذه الحالة فإن ترجمته هي “درّاجو العدالة”، لكن العنوان أيضا يشي ضمنيا بمحاولات الفريق الطيب (“أوتو” و”لينار” و”إيمنتالر” و”ماركوس”) بالانتقام من القتلة بعد أن رفضت الشرطة تصديقهم. وهنا يمكن ترجمته إلى “فرسان العدالة”، وذلك رغم أن الأصدقاء الثلاثة “أوتو” و”لينار” و”إيمنتالر” كانوا ضد فكرة القتل في البداية، لكن تطور الأحداث وتهور “ماركوس”، ومحاولة الدفاع عن أنفسهم ضد القتلة؛ دفعتهم إلى ذلك دفعا، وكأنه قدر محتوم عليهم.
ما بدا لي مفتعلا بعض الشيء بالفيلم هو محاولة صُنّاع العمل الوقوف ضد الانتقام الفردي في النهاية، فهو بذلك ينسف فكرة قانون الصدفة الذي يُمَّكن من التنبؤ بالأحداث التي طرحها “أوتو” و”لينار” في بدايته، إذ يتضح أن الرجل المصري هو بالفعل مَنْ كان بالقطار قبل أن ينفجر، وأنه رمى البيتزا والعصير لأن طعمهما كان سيئا، وأنه لا علاقة له بالحادث، وأن المهندس أخا زعيم العصابة كان بريئا.
لكن الفيلم يقول بوضوح شديد إن موت إيما والدة ماتيلدا لم يذهب هباء رغم وجع الفراق الذي عانته أسرتها، فقد تحلّق حول “ماتيلدا” هؤلاء الفرسان، فصاروا أفراد عائلتها التي تحتضنها الآن، وكأن كلا منهم كان بحاجة إلى الآخر، وأن هذا لم يكن ليحدث إلا بوفاة الأم.