“من قتل مانويل بوينديا؟”.. خمس رصاصات أودت بحياة أشهر صحفي مكسيكي

عبد الكريم قادري
“إذا تعرضتُ للقتل، واستطعتُ قول كلمات أخيرة شهيرة، فلن أقول سوى: كنت أتوقع ذلك”.
عاش الشعب المكسيكي حالة كبيرة من الرعب والخوف في النصف الثاني من القرن العشرين بين كل فئات المجتمع تقريبا، لكن أكثرهم رعبا هم الصحفيون والمثقفون والسياسيون ورجال المال والأعمال، وذلك بسبب التصفيات الجسدية التي كان يتعرض لها كثير منهم لإسكاتهم والقضاء على أي معارضة محتملة، أو أي شخص يُهدّد مصالح السلطة وتحالفات رجال العصابات والأمن والدول مع الفاسدين وأصحاب المصالح.
لقد كانت تلك الفترة حاسمة، وشكلت فضاء يلتقي فيه كل جواسيس العالم يتصارعون على تقاسم النفوذ والسيطرة والهيمنة، خاصة بين عملاء الاتحاد السوفياتي الـ”كي جي بي” الذين يبحثون عن موطئ قدم لهم من خلال نشر الشيوعية، وبين الولايات المتحدة الأمريكية عن طريق جهاز مخابراتها الـ”سي آي إيه”، وقد قامت أمريكا بالمستحيل لمنع هذا الأمر، فهي تعتبر المكسيك بلدا حيويا وإستراتيجيا مهما بالنسبة لها، إذ تجمعهما حدود برية طويلة، لهذا صنعت عددا من التحالفات الكبيرة من خلال وكالة المخابرات الأمريكية التي كانت تُصدّر السلاح سِرّا للمتمردين في الدول المجاورة لمحاربة الشيوعية، ويدعم هذا الأمر عن طريق تجارة المخدرات التي تجلب من تلك الدول.
لقد كانت المكسيك دائما نقطة انطلاق وعبور لهذه التجارة الفاسدة، لهذا عُقدت تحالفات كبيرة بين المسؤولين الفاسدين ورجال السياسة والصحافة والمخدرات، وكل من يتعرض لهذا التحالف سيكون مصيره التصفية الجسدية.
هذا ما حدث للكثيرين، ومن أشهرهم الصحفي الكبير “مانويل بوينديا” (1926-1984) الذي تم قتله بخمس رصاصات من الخلف، وهو الأمر الذي تطرق له الفيلم الوثائقي “الشبكة السرية.. من قتل مانويل بوينديا؟” (?Private Network: Who Killed Manuel Buendía)، وهو من الأعمال المهمة التي تندرج تحت تصنيف أفلام الجريمة والاستقصاء، وقد أنتجته “نتفليكس” وعرضته على منصتها عام 2021، ويعالج تلك المرحلة المهمة والغامضة والخطيرة من تاريخ المكسيك، مُسلّطا الضوء على قضية اغتيال هذا الصحفي الشهير لإسكاته وطمس الحقيقية أمام قُرّائه ومتابعيه، وتخويف باقي الصحفيين وكل من يتعرض لتكتلهم الفاسد.
صحافة برتبة رجال الشرطة.. ذر الرماد في العيون
تطرّق فيلم “الشبكة السرية.. من قتل مانويل بوينديا؟” إلى عدد من الحقائق المهمة التي شهدتها المكسيك خلال مراحل تاريخية مهمة عاصرها الصحفي “مانويل بوينديا”، خاصة المرحلة المتعلقة بالعمل الصحفي، وظروف ممارسة هذه المهنة وسط جملة من التحولات الكبرى التي عاشها المكسيكيون.
وقد تمتّع وقتها الصحفيون على مدار عقود من الزمن بحريّة تعبير غير مشروط، لكنها مقيدة بطريقة غير مباشرة، ومن بين التسهيلات التي كانت تُقدم لهم -لذر الرماد في العيون- تسليم بعض الصحفيين شارات شرطة لتسهيل عملية تنقلهم لأماكن الحوادث والجرائم، حيث يتسللون بين الحشود ويستجوبون حتى الشهود.
أما الصحفيون الكبار أمثال “مانويل بوينديا”، فقد كانوا يعقدون علاقات قوية مع رجال السياسية والسلطة والأمن من أجل أن يأخذوا منهم المعلومة ويوظفوها في الجرائد التي يسيرونها أو يعملون فيها، وكان “مانويل” يدرس من خلال هذه الشخصيات أيضا، لهذا أصبح عموده الصحفي من أكثر الأعمدة قراءة ومطالعة من الكل، حتى أن عددا من الصحف الأخرى باتت تعتمد عليه كمصدر للمعلومة.
وقد سأله زميل -حسب شهادة قدمت في الفيلم- عن كيفية حصوله على المعلومات، فكان رده بسيطا بقوله إن كل المعطيات والمعلومات موجودة في الصحف، ويكفي أن تقوم بتحليلها وربطها بمعطيات معينة.
احتكار الورق.. ديون مؤجلة لكبح الصحف المعارضة
وسط كل هذه التسهيلات احتكرت الدولة صناعة الورق واستيراده، ثم بيعه للجرائد التي تتراكم عندها الكثير من الفواتير مع الوقت، وتبقى الدولة تغضّ الطرف عن هذا الأمر، لكن حين تتجاوز أي جريدة الخطوط الحمراء التي رسمتها، تقوم الدولة بتفعيل خاصية تسديد الديون، وهو الأمر الذي لا تقدر عليه الجرائد الورقية، لهذا تصبح خاضعة لها، وتستجيب لضغوطها بسهولة تامة، وبذلك تصبح حُرية التعبير مُقيّدة بشكل غير مباشر، وكل صحفي يتمرد ويخرج عن هذه القاعدة سيكون مصيره التصفية الجسدية.
هذا ما حدث تمام مع “مانويل بوينديا” الذي تنبأ بموته حين قال في أحد التسجيلات النادرة: كتبت مقالات عن مُهربي الأسلحة، وعن مجموعة الـ”تيكو” في غوادلاخارا، والطغاة مثل “روبين فيبغيروا”، لكن إن واجهت زعماء المخدرات فإني لن أجازف فحسب، بل سأضحي بحياتي أيضا.
من هنا وجب طرح السؤال المحوري الذي جاء في عنوان الفيلم: مَن قتل الصحفي “مانويل”، هل هم زعماء العصابات، أم السلطة السياسية، أم الرئيس “ميغيل ديلا مدريد”، أم الجماعات اليمينية المتطرفة، أم أن هناك أطرافا أخرى؟

“ميغيل ديلا مدريد”.. شكوك تلف حول رئيس المكسيك
قدّم “ميغيل ديلا مدريد” الذي توّلى رئاسة المكسيك (1982-1988) تعازيه الخالصة لزوجة وعائلة الصحفي “مانويل بوينديا” في مجلس العزاء، رغم أنه من بين الأشخاص الذين تحوم حولهم الشكوك، فقد كشف عن عدد من ملفات الفساد الثقيلة، ونشر أسماء المتورطين في هذا الفساد، وهم أعضاء ووزراء ورجال دولة تحت مسؤولية الرئيس “ميغيل”.
إضافة إلى اتهام جهاز المخابرات الأمريكية “سي آي إيه” بالوقوف وراء هذا الاغتيال، إذ أنه كشف أعمال هذا الجهاز وفساده وتورطه في عدة جرائم، كما كشف قائمة بأسماء العملاء والجواسيس وعناوين سكنهم، إضافة إلى أهم الجرائم التي نفذوها، ومن بينها تهريب السلاح وتهريب الكوكايين من الدول التي تحدث فيها الفوضى.
كما اتهم رجال العصابات بهذا الأمر، لأنه كشف تورطهم وسعيهم الحثيث لتولي مسؤوليات في الدولة ورشوة العملاء والأمنيين، إضافة إلى أنه كان ينوي أن ينشر خبرا على تخصيص مدرج طائرات تعمل على تهريب المخدرات.
وهناك أيضا جماعات اليمين المتطرفة التي كانت تراقبه، وأمرت باغتياله في حالة كانت هناك فرصة لذلك، وكل هذه الفئات شكّلت تكتلات قوية من أجل حماية مصالحهم المالية والسياسية والأمنية، وكل من يحاول تعطيل هذا الأمر فمصيره الموت المحتوم.

“أنتونيو زوريلا”.. سيناريو مدير الأمن الفيدرالي
بعد مقتل الصحفي “مانويل بوينديا” أحسّ الصحفيون بالخطر والخوف، لهذا نظّموا مظاهرات حاشدة تُطالب بضرورة الكشف عن الجناة وتقديمهم للعدالة، وقد أمر رئيس الجمهورية بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة، لكنها لم تجد ما تمسكه بيديها نظرا لإخفاء الأدلة كلها، ومن بينها أرشيف “مانويل” الذي أحكمت السيطرة عليه، واللباس الذي كان يرتديه يوم قتله، وهو الأمر الذي طمس كل الحقائق.
لكن الضغط المتواصل وعدم تعاون السلطة أجّل نتائج التحقيق لخمس سنوات، لهذا كان لزاما على السلطة البحث عن كبش فداء بعد تواصل الضغط، فوجه الاتهام إلى “أنتونيو زوريلا” مدير الأمن الفيدرالي المنحل بالوقوف وراء التخطيط والتدبير لعملية الاغتيال، وقد حكم عليه لمدة 35 سنة، لكنه خرج سنة 2009 بإطلاق سراح مشروط، ليُعاد مرة أخرى إلى السجن، ثم يطلق سراحه مجددا سنة 2013، ويوضع تحت الإقامة الجبرية.
لقد كان هذا الرجل صديقا مقربا من “مانويل”، ويتدرب معه في ميدان الرماية، إضافة إلى القبض على مجموعة أخرى من الأفراد الميدانيين والحكم عليهم، ومن المعروف عن “زوريلا” علاقاته الوطيدة مع زعماء المافيا والمخدرات، كما أنه أعطى لبعضهم شارات شرطة، وهو الأمر الذي جعله يصلح لأن يكون كبش فداء جيد، لكن الصحافة لم تصدق رواية السلطة، واعتبرت هذا الأمر مجرد سيناريو حاكت خيوطه السلطة لإسكات المطالبين بالكشف عن المتورطين الحقيقيين.

تنوع المصادر وانتقاء الضيوف.. أركان مصداقية العمل
تجسدت جمالية فيلم “الشبكة السرية.. من قتل مانويل بوينديا؟” في اشتغال المخرج “مانويل ألكالا” على التفاصيل الصغيرة، واهتمامه بكل زوايا بناء العمل، وبالتالي فقد ولّد مصداقية معقولة انطلاقا من زرع شروط التلقي التي تؤدي عادة إلى إقناع المشاهد بتفاصيل القضية التي جرى الاشتغال عليها.
وفي حالة الفيلم المذكور، فإن المخرج لجأ إلى الضيوف النوعيين الذين كانوا قُرب الصحفي “مانويل بوينديا” قبل قتله، فقد عاشوا معه أو كانوا متهمين وأطرافا في تلك القضية، مثل سائق الدراجة “خوان رافائيل مورو أفيلا” الذي يعمل في الشرطة الفيدرالية، وقد سُجن واتُهم بالمشاركة في جريمة القتل، وقد روى وجهة نظره من القصة، وهناك أيضا الشهود الذين كانوا حاضرين أثناء قتل “بوينديا”، إضافة إلى أصدقائه المقربين من صحفيين وسياسيين وأمنيين، وهي المعطيات التي شحنت الفيلم بطاقة إيجابية، وجعلته قريبا جدا من الحقيقية.
ورغم هذا الثقل المعرفي والتنوع الكبير في مصادر المعلومة، فإن المخرج “مانويل ألكالا” لم يمارس أي وصاية على المشاهدين، ووضع أمامهم تصريحات جميع الجهات مدعومة بالمعطيات التاريخية، وفتح أمامهم أبواب التأويل ليحللوا الصورة بأنفسهم، ويستنتجوا من هو الشخص أو الجهة التي قتلت هذا الصحفي اللامع، أي أنه التزم الحياد اتجاه الأمر.

“من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل”
في بداية الفيلم لفت المخرج انتباه المشاهد من خلال جملة عميقة قالها الصحفي والروائي البريطاني الشهير “جورج أورويل” في روايته “1984” الشهيرة، وهي “من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل، ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي”، وكأنه يوصي هذا المشاهد بالتركيز وفتح ذهنه لتحليل الصورة والمعلومة وفهم لعبة الأمم، وكأن تلك الجملة عبارة عن مفتاح سحري يفتح أبواب التأويل والغموض في الفيلم.
بعدها تأتي المشاهد الأخرى المنوّعة بين الأرشيف والمقابلات، وقد احترم فيها المخرج خاصية البداية والعرض والنهاية، وقد حفظ المونتاج -رغم تنوع تلك الوثائق وكثرتها انسجاما وسحرا- انسياب تلك المواد المصورة، وخلق من خلالها شكلا سرديا مقنعا ومفهوما، وقد جاءت عمليات القطع والتنقل بين مشهد وآخر مساعدة على عملية تقبل المدة الزمنية للفيلم (100 دقيقة).

“كنت أتوقع ذلك”.. نبوءة صادقة من صحفي شجاع
فيلم “الشبكة السرية: من قتل مانويل بوينديا؟” هو عمل مميز حفر عميقا في الحقيقة، وقد أدان كل من كان طرفا في عملية الاغتيال الشنيع للصحفي “بوينديا”، وبحث عن المجرمين المحتملين من خلال الاستقصاء والتحري، وتحليل معطيات الماضي من أجل فهم الحاضر، وتقديم رسالة قوية لكل من يحاول أن يزرع الشوك أمام من يبحثون عن الحقائق، وينيرون دروب الرأي العام عن طريق الكتابة والعمل الصحفي.
وكأن المخرج يحذر كل من يفكر بأن يستعمل العنف لإسكات صوت الحقيقة، بأن الزمن كفيل به وسيكشفه عاجلا أو آجلا.
كما كشف الفيلم عن وجه صحفي محترم ومقاوم وشجاع لا يخشى شيئا في مواجهة الحقيقة، لأنه كان يعرف دائما مصيره، حيث قال ذات مرة عن نفسه “إذا تعرضت للقتل، واستطعت قول كلمات أخيرة شهيرة، فلن أقول سوى: كنت أتوقع ذلك”.