“حدّ الطار”.. حكاية حب عنيفة تغوص في أعماق المجتمع السعودي

أحمد القاسمي
قيل منذ ظهور الأفلام الأولى “عندما نُحب الحياة، نذهب إلى السينما”، وهذا بديهي، فهناك تجتمع الفنون، وما يثبت صحة هذه القولة هو أنه حالما أضحت المملكة السعودية مُقبلة على الحياة بشغف أكبر؛ أخذت السينما فيها تنتعش، وظهرت بعض الأفلام الجيّدة.
عادت الحياة إلى دور العرض بعد أن توقفت طويلا، فبعد فيلم “المرشحة المثالية” (2019) للمخرجة هيفاء المنصور الذي اختير للتنافس على جائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي، و”المسافة صفر” (2019) للمخرج عبد العزيز الشلاحي الذي عُرض في الدورة الخامسة من مهرجان أفلام السعودية، وحاز على جائزة النخلة الذهبية لأفضل فيلم روائي؛ يظهر فيلم “حد الطّار” (2020) ليجمع بطريقة ذكية بين حُب الفن والإقدام على الحياة، ويجعلها عنصره المحرك لكافة أحداثه، ويضع النمط المجتمع السعودي في صميم اهتمامه بجرأة لا نعتقد أن المجتمع السعودي كان سيتسامح معها في سنوات سابقة، ولعلّه كشف وجها آخر من المعادلة، فأكد أننا “عندما نُحب السينما، نذهب إلى الحياة”.
ابن السياف وابنة المطربة.. حُب مُستحيل بين دايل وشامة
افتتح الفيلم مسابقة “آفاق السينما العربية” في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي 2020، وانتزع فيها جائزة لجنة التحكيم الخاصة “صلاح أبو سيف”، وجائزة أحسن أداء تمثيلي للممثل فيصل الدوخي، وفي مهرجان مالمو السويدي للسينما العربية حاز المخرج عبد العزيز الشلاحي جائزة أفضل إخراج.
وتدور أحداث فيلم “حد الطار” على حُب مستحيل بين دايل الذي يقاوم رغبة عمّه في جعله سيّافا يقطع رقاب مَن صدرت بحقهم الأحكام الشرعية كما كان والده، وشامة ابنة مُطربة الأفراح الشعبية. وبيّنٌ أن اختيار مهنة والدي الشابين العاشقين قد وقع على أساس الجمع بين عنصرين متقابلين هما الدماء النازفة التي ترتبط بالموت، والجنائز التي توحي بها مهنة السيّاف، والغناء الشعبي في مهنة الأم المرتبطة بالزواج، وما فيها من إيحاء بحيوات جديدة.

عنوان الفيلم نفسه يجسّد هذا الصدام، ففي الحد سفك للدماء، وفي الطار (آلة طربية) نقر وطرب، وسيظل المتفرّج يتابع أحداثا تتعاقب على نحو منطقي في الشطر الأول من الأثر، ثم تعصف بها الصُدف العجيبة والمبالغات في الشّطر الثاني، ولن يفهم سر هذا الجمع الغريب بين المفردتين إلا في المشهد الاخير من العرض.
دايل.. صراع العاشق المعلق بين عوالم متباينة
لا يخلو فيلم “حدّ الطار” من خصائص الميلودراما، فيركّز على أحداث مثيرة صُمّمت بعناية لتهزّ وجدان المتفرّج، ويحرص على توريط شخصياته في وضعيات مربكة تضيّق من هامش اختيارها الحُر، وتجعل قرارها مرتهنا بعوامل خارجية، فقد ظل الفتى العاشق دايل ممزقا بين نداء القلب ووضعه العائلي والاجتماعي والمالي، فيتعلق بابنة مغنية أعراس من أحياء الرياض الشعبية في تسعينيات القرن الماضي.
ولا شكّ أنّ المتفرّج يعرف ما يُسقطه المجتمع السّعودي المحافظ على هذه المهنة وعلى أهلها من توصيف أخلاقي وديني قاس، فالغناء والموسيقى -من المنظور السائد حينها- ارتكاب للمحظور الديني، والمهنة تُربط اجتماعيا بالسمعة السيئة والجرأة على القيم المشتركة وتهديد صفائها.

لقد أراد السيناريو أن يظل الفتى معلقا بين السماء والأرض، وأن يواجه هذه التحديات الجسام بعد أن انتزع منه الإرادة وسحب منه شروطها تقريبا، فجعله في تبعية مالية لعمه، فوالده قد توفي قبل جده، وهذا يعني أن لا حق له شرعا في نصيب من الإرث العائلي غير سيف خلّفه والده، رغم تيسر حال عائلته في الأصل، لكن عمّه سيجود عليه بمقدار إذا ما اشتغل سيافا وابتعد عن شامة وأنقذ شرف العائلة من هذا الزواج المشبوه الذي سيلوث تاريخها، فأقنعه بأن شقيقه لم يمت بعد، وأنّ روحه تسري في جسد ابنه، وفي ذراعه التي تنفذ الحدود وتقطع الأعناق.
شامة.. عاشقة ممزقة بين نداء الواجب ونداء القلب
للفتاة العاشقة أسبابها التي تنتزع منها إرادتها الحرة، فهي تبدو إلى حدود ثلثي مدة الفيلم قوية متمرّدة، تعمل على النضال من أجل حبها وتحدي عائلتها التي تريدها أن تعمل “طقاقة” (مغنية أعراس)، فترفض تعلم عزف الأورغ (آلة طربية) الذي تحتاجه أمها بشدة لإحياء عرس أحد الأثرياء. ومن أين للأم بعازفة تُجيد استخدامه؟
بالمقابل يشجعها حبيبها على الفن الراقي، ويساعدها على تحقيق حلمها في احتراف فن تصميم الفساتين وفق آخر صيحات الموضة. لكن السيناريو يقسو عليها ويضعها أمام قدر خفيّ كما فعل مع دايل، فتسجن أمها لعدم قدرتها على تأمين مبلغ مالي قدّمته ضمانا لدية ضحية ابن عمها وخطيبها، فقد ارتكب سرور جريمة القتل العمد، ولا مخرج له من تطبيق الحُكم بالإعدام إلاّ بدفع المبلغ المطلوب، ولا مخرج للأم إلا بتأمين مقدار الشيك الخالي من الرصيد.

هكذا تجد الفتاة نفسها ممزقة بين نداء الواجب ونداء القلب، فهي مجبرة على الانضمام إلى الفرقة لتعويض أمها ولجمع المال وتحرير السجينين. ويصادف ذلك جفوة بين الحبيبين نتيجة لسوء تفاهم، وتنفصل عرى العلاقة الجميلة فجأة.
مسارات الفيلم.. سيناريو هندسي متناظر الأركان
استقبل فيلم “حد الطار” بحفاوة كثيرا ما تجاوزت الموضوعية إلى المجاملة النقدية، فمن ما تمت الإشادة به “بساطة القصة وتلقائيتها”. والحق أن بناء القصّة لم يكن تلقائيا ولا بسيطا أبدا، فقد كان السيناريو أشبه بتصميم عمل هندسي متناظر الأركان، حتى كأن كاتبه كان يستخدم المسطرة والبركار أكثر مما يستخدم القلم، فأساسه مساران يتوازيان بشكل آلي، فيجسّد دايل المسار الأول، ويتوفر لديه من الحوافز الدّاخلية ما يجعله يقبل على الفتاة ويتحدى في سبيلها عمه ويترك لأجلها ابنته، ويعترضه من العراقيل الخارجيّة ما يفت عضده.
أما شامة فهي تجسّد المسار الثاني، ويوفر لها السيناريو من الحوافز الداخلية ما يجعلها تُقبل على فتاها، وتتحدى في سبيله أمها، وتقرّر ترك ابن عمّها سرور لأجله، فترفض العمل في الأعراس، وتصمّم على عدم عزف آلة “الأورغ” في الحفل الموعود، ثم يضع في طريقها أزمة سجن أمها، ممّا يفلّ من عزمها كما فُت عضد حبيبها.

يصطدم المساران بحدّة فجأة، فكل من العاشقين يسيء فهم الآخر، ويرى أنه كان ضحية لخيانة الحبيب، ويقرر الانسحاب الصّامت، فتستعد الفتاة للحفل، ويقبل الفتى بمهنة السيّاف.
عالم المثالية.. إنقاذ الغريم من السيف في اللحظة الأخيرة
من عجيب بناء قصّة الفيلم أن دايل في مهمته الأولى يمد أمامه عنق سرور غريمه في حُب شامة، بعد أن حان موعد تنفيذ حكم الإعدام فيه، لكن النهاية تكون أكثر عجبا، فهي مخالفة لمنطق العشق نفسه، فما الحب غير الرغبة في امتلاك الحبيب ومشاعر الغيرة؟
لكن لحُب دايل شأن مختلف غارق في المثالية، فبدل أن يحمل السيف ويقطع رقبة سرور كما كان يشتهي، فإنه يقتطع صكّا من دفتر شيكاته ويدفع ديته بنفسه، ويمنحه حياة جديدة.
ثم يأخذنا المشهد الختامي إلى حفل زواج شامة من ابن عمها تحت أنظار دايل الفخور بما فعل.

صحيح أنّ مُنظِّر السينما الهوليودية “سِيدْ فليد” يلح على انعقاد الفيلم على الصراع، حيث “لا دراما بلا صراع، ولا شخصيّة بلا حاجة”، والقول “إن لكل فعل رد فعل مساويا له في المقدار، ومعاكسا له في الاتجاه” هو القانون الطّبيعي للكون، لكن التطبيق العملي لهذا المبدأ يجعل المعالجة الفيلمية آلية مفتعلة تُضحي بانسجام الحكاية، وتلوي عنقها ليا، وتحدّ من جماليتها، وتجعل أفكارها مسقطة بغير إقناع.
“اخترنا أن تدور أحداث القصة في نهاية التسعينيات وأوائل الألفية”
يدعونا الإنصاف إلى الإقرار بأن الفيلم يتميّز بروح جديدة نادرا ما نراها في الأعمال الدرامية الخليجية عامة، فمن ما يحسب له محاولته التوغّل في قاع المجتمع السعودي لتقديم صورة قريبة من الواقع، بعيدة عن الصورة النمطية لمجتمع الوفرة والمجالس الضخمة والسيارات الفارهة والملابس الفاخرة التي يكرسها الإعلام.
تدور أحداث الفيلم في حي شعبي في الرياض يعاني من البؤس والحرمان والفاقة، وتنتعش فيه الجريمة، ويعاني سكّانه من تدخل هيئات تنغّص عليهم حياتهم، وتحرمهم من أبسط المتع كمشاهدة مباراة في كرة القدم، وذلك باسم حماية الدين.
وواضح أنّ المخرج كان يريد ذلك بقصد ونية، فقد صرّح بأن قصة فيلم “حدّ الطار” مستلهمة من أحداث حقيقية وقعت في منطقة قريبة من منطقة سكنه، وأنه رأى على أرض الواقع شخصيات العمل. إذ يقول في أحد حواراته: صحيح أن السينما مرآة للواقع، فمن يريد معرفة تفاصيل أي مجتمع يمكنه البحث عبر الإنترنت، لكن قد يجد صعوبة في معرفة القصص التي تعيش معهم، وهو ما تناولناه في “حد الطار”، فاخترنا أن تدور أحداث القصة في نهاية التسعينيات وأوائل الألفية.
كان جزء كبير من تلك الفترة غائبا عن التناول والتوثيق، فهو غير موجود، ولا نعرفه إلا من خلال الذاكرة وحكايات المجالس، وحكاية شامة ابنة الطقاقة المطربة الشعبية بالأفراح، أو دايل ابن السياف إنما هي شخصيات من عوالم المجتمع السعودي.
وواضح أيضا أنّ الفيلم لا يخلو من أطروحات جريئة، فقد عمل عبر الجمع بين مهنة الموسيقى والسيافة على خلق تباين بين عنصرين أحدهما العنف من معاداة لمشاعر الحُب، والتمسك بإقامة الحدود، وإطلاق السلطة لجماعة الأمر بالمعروف حتّى تضيّق الحياة على الناس وتتدخّل في خصوصياتهم، وأقسى مظاهره القتل وسفك الدماء، والفن الدّاعم للحب وللإقدام على الحياة، والمؤسس لمجتمع حديث يؤمن بالحريات.
السينما السعودية.. فن وليد يصارع من أجل الاستقلال
لا يمكننا أن نتحدث عن صناعة سينمائية بالمعنى الكامل في البلاد العربية باستثناء السينما المصرية، أي عن قطاع استثماري يُحقق إيرادات لأصحابه، ويضمن استقلاله المالي، لكن يبدو أنّ في أفق السينما السعودية ضوءا واعدا، فإلى عهد قريب كان إنتاج فيلم في المملكة يُعتبر حدثا يستحق الإشادة في حد ذاته بصرف النّظر عن محتواه أو درجة إتقانه، أما اليوم فعدد الأفلام يتزايد، والدولة توفر إمكانيات مُعتَبرة. وأركان هذه الصناعة أخذت في التّشكل شيئا فشيئا، فمن معاهد للسينما ومهرجانات وقاعات عرض وإستيديوهات.
لكن المشهد لا يبدو مشرقا دائما، فالسينما الأصيلة تظل فنّا مناضلا يدافع عن التفكير الحُرّ والممارسة الحرّة، ولا بدّ لها أن تكون ناشئة عن تفكير حُرّ وممارسة حُرة، فذلك ما يبقى بعد أن تزول دهشة الفرجة الأولى، وهذا ما تحتاج هذه السينما الوليدة إلى أن تعيه جيّدا، فهي تبدو استجابة لتطلعات رسمية وتفاعلا مع سياق سياسي وحضاري تعيشه السعودية، أكثر مما هي تجسيد لهموم مبدعيها الجمالية والفكرية. وفيلم “حدّ الطار” نموذج جيّد لما ذكرنا.

لا ننكر أنّ السينما على مرّ تاريخها كانت شديدة الاحتكاك بالسياسة، وأنها كثيرا ما وقعت في خطيئة ممارسة الدعاية بشكل ما، بما في ذلك السينما السوفياتية وسينما هوليود، وربّما يجعلها عجزها عن ضمان استقلاليتها المادية فنّا هشّا تزل به القدم بسرعة، ليجد نفسه في بلاط الحاكم، لكن للسينما السعودية آفاقا رحبة لتحقيق استقلاليتها، فالسوق الخليجية التي يبلغ تعدادها نحو ستين مليون نسمة -دون اعتبار الوافدين- قادرة على ضمان استقرارها المالي.
الوقائع جميعا تؤكّد أنّ الطريق أمام صُنّاع السينما الشباب باتت الآن أكثر وضوحا، ولا مناص لها من الابتعاد عن إنجاز أفلام “تحت الطلب”، إن هي أرادت بالفعل أن تتميّز.