“أنشودة البقرة البيضاء”.. أم أرملة تحارب مقصلة القضاء وسياط المجتمع الإيراني
د. أمــل الجمل
ربما كان من الممكن لامرأة أخرى في مثل وضعية وظروف مينا بطلة هذه الحكاية أن ترضخ لقانون المجتمع، وتستسلم لحكم القضاء العالي، فتقبل بوفاة زوجها ظلما، وتعيش في كنف أسرته، حيث تتزوج رغما عنها بأخيه الذي يرغب فيها، وتُربي ابنتها الصغيرة التي لا تسمع ولا تتكلم، وهي تلك الفتاة الموهوبة المملوءة بالرقة والحنان وذكاء الإحساس، لكن مينا بشخصيتها القوية لن ترضخ لكل ما سبق، وأثناء ذلك ستعتني بابنتها، وستكشف لنا في مشاهد متقشفة بسيطة مدى بيروقراطية وازدواجية الدولة القمعية.
تبدأ حكاية مينا بالفيلم الإيراني “أنشودة البقرة البيضاء” (Ballad of a White Cow)، وذلك من بقرة بيضاء موجودة في ساحة كبيرة للسجن، لكن ما الذي أوجدها هنا، وماذا تفعل، وما علاقتها بالمساجين، أم أن علاقتها مرهونة بالسجن ذاته الذي سيشيد من حول البطلة؟
ربما تحمل إشارة لسورة البقرة والذبيحة التي طالب بها موسى مقابل قتل رجل، لكن ما العلاقة بين السجن ومصنع الألبان والفتاة الصمّاء البكماء؟
ربما يكون هذا التشكيل رمزيا دلاليا للطبقة الدُنيا في إيران، فكل ذلك يمكن فكّ أسراره بقراءات مختلفة لاحقا وتدريجيا منذ المشاهد الافتتاحية، عندما نعرف خبر إعدام زوج البطلة لاتهامه في حادث سرقة نجم عنه قتل الضحية المسروقة.
“مرّ عام كامل”.. تناقض الشهود يبرئ الزوج بعد إعدامه
في المشهد التالي نُدرك أنه قد مرّ عام كامل على تنفيذ واقعة الإعدام، إذ يقطع شقيق زوج مينا عليها الطريق قائلا لها “مرّ عام كامل، من حقك أن تفرحي، أن تُسعدي نفسك وقلبك، وتكفّي عن تعذيبها”، فتنظر إليه مينا نظرة ذات مغزى كأنها تقول له إنها تفهمه جيدا، فيُعقّب “أنتِ تعرفين أنني مُعجب بك، وأريد الزواج منك”، فتدفعه بعيدا عن طريقها باحتقار، ثم تواصل طريقها.
لكنه من الآن فصاعدا لن يكفّ أذاه عنها، إذ سيبدأ في مطاردتها ومراقبتها وملاحقتها كلما أمكن لغلق كافة المنافذ أمامها، كأنه ليس له همّ آخر، وأن هذه المرأة صارت هي مهنته الوحيدة المُكلّف بالحصول عليها، لكن المفاجأة والصدمة الحقيقية على وجه البطلة سنراها في المشهد التالي، وذلك عندما تخبَر في المحكمة ببراءة زوجها الذي أُعدم ظلما، إذ اختلف الشاهدان -وهم الشريكان الحقيقيان في السرقة- واعترف أحدهما على الآخر.
بعد ذلك يُعرب الشخص المسؤول بالمحكمة عن أسفه جراء تنفيذ حكم الإعدام بالخطأ، لكن الزوجة لا تريد هذا الأسف، فهذا لن يُعيد إليها زوجها، وهذا الأسف لن يُعوّض خسارتها الفادحة، وإنما تريد الثأر لزوجها ووالد ابنتها الذي تحبه، فهو كان سندها الأوحد في ذلك المجتمع القاسي، إنها الآن تريد مقابلة القاضي الذي أصدر حكمه بالإعدام، تريد أن تسأله لماذا لم يُصدق زوجها عندما ظلّ يصرخ مرارا وتكرارا بأنه بريء؟
إنها الآن تريد القصاص من ذلك القاضي، ولن ترتضي عن ذلك بديلا.
مينا.. أرملة تُحارب جور القضاء وظلم المجتمع
تتقدم مينا بعدد من الالتماسات للمحكمة ضد القاضي، لكنها تُرفض جميعا، حيث يُؤكد زملاء القاضي أنها مشيئة الله، مما يجعلنا نتساءل: وأين مشيئة الله من فعل الجريمة ذاته، ولماذا المعاملة بمعيارين، أين القصاص، أم لأن القاضي ينتمي للطبقة العليا التي تصدر الأحكام؟
يمر الوقت كالدهر ولا يزال الحال كما هو، فالمحكمة ترفض، ومينا تجلس كالتائهة في مصنع الألبان الذي تعمل فيه، بينما شقيق الزوج يُواصل مضايقتها لأنها تصدّه كلما حاول أن يتقرب منها، ثم يأتي دور الجيران في الهجوم والضغط والابتزاز لأنها امرأة وحيدة بدون رجل، وكأنها كائن يفتقد الأهلية.
فرغم أنها تعمل وتُعيل نفسها وطفلتها دون أن تمدّ يدها لأحد، فإن المجتمع والجيران لا يرحمان، إذ يطلبون منها الرحيل من السكن طالما أنها غير متزوجة، فتبدأ في البحث عن سكن آخر، لكنها كلما زارت أحد مديري مكاتب الاستئجار يرفض مُتعلّلا بالمُلّاك الذين يعتبرون المُطلقات والأرامل مثل الكلاب والقطط، إذ يرفضون تسكينهن، ثم يأتي دور الجيران بالقول: لو عرف من حولك أنك أرملة لألقوا بأشيائك إلى الشارع.
رغم كل ما سبق، لا تستسلم مينا لقوانين وأحكام المجتمع، لأنها قررت أن تفعل ما تريده، فقد أصرّت على أن لا تتنازل عن حقوقها، وأن تكون سيدة قرار نفسها، وأن لا تترك شخصيتها يمحقها مجتمع يُعامل المرأة كمواطن من الدرجة العاشرة، أو يضعها في مرتبة الحيوان.
صديق الزوج.. هدية الأقدار لسداد دين قديم
ذات يوم من أيام الأحد يدق جرس الباب، فتفتح مينا لتجد رجلا سمح الوجه تبدو الطيبة على سيماه، نراه للمرة الأولى يُخبرها أنه تربطه علاقة صداقة منذ أيام الدراسة بزوجها، وأنه كان مَدينا له بمبلغ من المال، وأنه قد آن الأوان لتسديد دينه.
كان المبلغ كبيرا، والزوجة في حالة دهشة لأن زوجها لم يُخبرها به أبدا، لكنها تشعر بالراحة لهذا الرجل، إذ يُصرّ على أن يُنهي إجراءات منحها المبلغ المالي المَدين به، فتذهب معه إلى البنك، ثم يُصرّ على توصيلها بسيارته إلى مقر عملها، بينما هي لا تدرك أن شقيق الزوج ما زال يترصدها لإحكام الحصار من حولها، فهو يهددها، ولن تخشاه، لكن زوجة صاحب البيت الذي تسكن فيه تطلب منها الرحيل في نهاية الشهر لأن زوجها قد شاهدها برفقة رجل ليس من المحارم، تُحاول مينا التفسير والتبرير، لكن المرأة الأخرى لا حيلة بيدها، إنها مجرد أداة لتبليغ الأوامر في مجتمع يضع قيودا هائلة على النساء.
يعرف صديق الزوج (الرجل الطيب) بمشكلة مينا فيما يخص السكن الذي تسبب فيه بدون أن تخبره مينا، فيعرض عليها شقة يمتلكها ولم يعد يستخدمها منذ فترة، وهي تحتوي على بعض الأثاث، فتنتقل مينا للسكن فيها، وتواصل حياتها بصحبة ابنتها تعلمها وتحكي معها، وكأن إعاقة السمع والكلام ليست بحاجز على الإطلاق، ثم يدور الحوار بينهما من حول هذا الرجل الطيب الذي أرسلته لهما الأقدار فجأة، وصار يزورهما بين حين وآخر، وتفاعلت معه الطفلة كأنه تعويض للأب الذي فقدته، لكن دوام الحال من المحال، فما زال شقيق الزوج يُواصل محاولاته لتخريب حياة مينا، وسنرى آثار ذلك سريعا.
آلام في الضمير وفوضى في العائلة.. عقدة الذنب
ينشب خلاف حادّ بين هذا الرجل الطيب وبين ابنه الشاب الموسيقار وعازف العود، فيُقرر أن يهجر البيت مُحتجا على تصرّف والده، ومن خلال ثورة الابن نُدرك أن هذا الرجل هو رضا (الممثل علي رضا سانيفار)، وهو ذاته القاضي الذي أصدر حكم الإعدام على زوج مينا بالخطأ.
فثورة الابن مرجعها أن الأب بدلا من التوسّل للمرأة بالعفو عنه ومسامحته عن إصدار حكم خاطئ؛ فإنه يلجأ لهذ الأسلوب غير الصادق ولا الأمين، لكن رضا بالفعل غير قادر على المواجهة والاعتراف لها بالحقيقة.
إنه الآن يعيش عُقدة ذنب قاتلة، يحاول التكفير عن ذنبه، فقد قرر تقديم استقالته، إذ لم يعد قادرا على ممارسة عمله خوفا من التسبب في قتل روح إنسان آخر بريء، وهو في ذات الوقت غير قادر على مواجهة مينا بالحقيقة، بينما الابن يُصر على ضرورة إخبارها بالحقيقة، لذلك يهجر البيت.
على صعيد آخر يسرب خبر عن لقاءات هذا القاضي رضا مع مينا زوجة الضحية، مما يُعرضه للمساءلة القانونية والعقاب، فالقانون لا يعترف بما فعله ويعتبره جريمة، ثم تكتمل الميلودراما بخبر وفاة الابن وصدمة والده، وكأنه يتجرع من الكأس ذاته.
هنا، وبعد قليل من الوقت مع جهود شقيق الزوج الحثيثة لن يبقى الأمر خافيا على مينا، فبعد أن عادت البهجة والسعادة إلى حياتها هي وابنتها وهما بصحبة هذا القاضي، حيث نراهما تضحكان، تبدأ مينا في وضع لمسات من المكياج الذي يضفي رونقا على وجهها، وفجأة يأتي هادم اللذات، ويُخبرها بالحقيقة المؤلمة.
كوب اللبن الكبير.. رغوة قاتلة على منضدة الطعام
هنا، قبيل الختام نرى مشهدين، أحدهما حقيقي، والثاني من المحتمل أن يكون قد دار بمخيلة مينا أو بمخيلة القاضي رضا نفسه، فأي منهما قد يتخيله؟
ذات أمسية -بعد تلك المكاشفة- يجلس القاضي على منضدة الطعام، تقدم له مينا كوبا كبيرا من اللبن، فينظر إليها برهبة وخوف وتردد، ثم يمد يده ويشربه، لا شيء يحدث في البداية، ثم تظهر التشنجات وتبدأ الرغاوي في الخروج من فمه، ويموت.
نتوهم للوهلة الأولى كمشاهدين أننا نشاهد موته بعيون مينا، كأنه الانتقام، لكن من المحتمل أيضا أن يكون هذا هو تصوّر رضا وخياله، أو أمنيته حتى يستريح من عذاب الضمير. وتُؤكد ذلك اللقطة التالية، إذ ينتقل المخرج بنفس الحالة السابقة، لكن نرى البطلة مينا عند الباب تحمل حقيبتها، تلتفت وراءها لتلقي نظرة أخيرة عليه.
تشرد في الشارع وتيه في الروح.. نهاية مفتوحة
نرى رضا ما زال جالسا في مكانه حيّا لم يُصب بأذى جسدي، لكن الندم والشعور بالذنب يشي بأنه سيقضي عليه حتما، ثم يُختتم الفيلم بلقطة للأم وابنتها وهما جالستان على مقعد في الشارع، وذلك في نهاية قد تبدو مفتوحة على الاحتمالات.
مع ذلك يُؤكد لنا صُنّاع العمل أن مينا تواجه خيارات محدودة عندما يتعلق الأمر برعاية ابنتها، وأنها بعد أن أصبحت أرملة صارت تتمتع بسلطة أقل من أي وقت مضى، إذ طُردت من وظيفتها، ومن شقتها، ويجري الضغط عليها للزواج بشقيق زوجها المزعج.
بقي أن نشير إلى أن الفيلم شارك لأول مرة في مهرجان برلين السينمائي، كما عرضه مهرجان كارلوفي فاري الدولي الـ55 ضمن قسم “آفاق”، وهو من إخراج الثنائي بهتاش صنيعه، ومريم مقدم التي شاركت أيضا في كتابة السيناريو، ولعبت دور البطلة مينا، وهذا ليس عملهما المشترك الأول، فقد تعاونا من قبل في فيلم “خطر المطر الحمضي” (Risk of Acid Rain).