“بعيدا عن بشار”.. ألم الغربة وطيف المفقودين يلاحق السوريين في المنفى

بعد مشاركته في الانتفاضات الجماهيرية ضد نظام بشار الأسد منذ عدة سنوات؛ اضطر عدنان المحاميد للفرار من سوريا مع زوجته بسمة وأطفالهما الأربعة إلى مونتريال، حيث تكيفوا مع الحياة فيها كمدينة مُسالمة، لكنهما ما زالا يخافان على أحبائهما في بلادهم التي لا تغادرها الحرب، ويصل لهيبها إليهما عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

يرافق فيلم “بعيدا عن بشار” -الذي عرضته الجزيرة الوثائقية- هذه العائلة اللاجئة في يومياتها، ويكون مع عدنان وبسمة وأطفالهما ساعة بساعة، ويوما بيوم، في البيت والعمل والمدرسة والنشاطات، لينقل للمشاهد أن هذه العائلة تعيش بسلام وأمان، وباتت جزءا من المجتمع الكندي، لكن ألم الرحيل وفقدان الأعزاء والاشتياق للأحباء ما يزال يلاحقها في لجوئها القسري.

“لم أتخيل يوما بأنني سأنجو وأخرج من هذا المعتقل”

يعود عدنان الذي ينحدر من درعا (المدينة التي انطلقت منها المظاهرات المناوئة لنظام الأسد) إلى أحد أيام عام 2012، وذلك عندما اعتقلته قوات النظام وهو في طريقه إلى عيادته، وساقته إلى أحد المراكز الأمنية وأجبرته على نزع ملابسه، وفتّشته بطريقة مُهينة، وأخذت منه كل ما كان بحوزته، ثم رمته في إحدى الزنازين التي كانت تفوح منها رائحة كريهة، وتضم نحو 200 شخص، بينهم “المريض والجريح والمتألم والذي يصرخ ويبكي، لم أتخيل يوما بأنني سأنجو وأخرج من هذا المعتقل”.

وبينما تقوم بسمة زوجة عدنان التي وصلت مع زوجها وأطفالها (بنتان وولدان) إلى كندا عام 2014 بأداء مهامها المنزلية كزوجة وأم؛ فإنها تتابع بأدق التفاصيل ما يجري في بلادها والقصف الذي يستهدف المدن، إضافة إلى القتلى الذين يسقطون بشكل شبه يومي.

علم الثورة السورية.. تعريف الحُرية في كندا

يظهر الأطفال في الفيلم وهم يتعلمون اللغة الفرنسية إلى جانب إتقانهم للغة الإنجليزية، ويحاولون أن تكون بلادهم الأم وثورتهم جزءا مُهما من أحاديثهم مع أصدقائهم، ومن المشاريع التي يقدمونها في مدرستهم.

باسل الابن البكر لعدنان المحاميد يتحدث عن وشاح أعطاه إياه عمه الذي قتل عام 2013 على يد رجال الأمن في سوريا

ومن بين هذه الأمور أظهرت البنت الكبرى -خلال تعريفها بنفسها ومن أين أتت باللغة الفرنسية- علم “الثورة السورية” لتُعرّف بعلم بلادها، أما باسل الابن البكر، فتحدث عن وشاح أعطاه إياه عمه الذي قتل عام 2013 على يد رجال الأمن.

ولكي تكون معلوماتهم مُفصّلة أكثر، تسأل بنت عدنان الصغيرة عن أسباب بداية الثورة، وهل صحيح أن الشعب كان يطالب فقط بالحرية؟ فيجيبها والدها قائلا: الشعب كله طالب بالحرية، غير أن الأمن السوري قتل الناس الذين خرجوا بمظاهرات سلمية ومطالبات بحياة كريمة، كما يعيشها الناس في كندا.

“خفت أن يستدعوه للتجنيد الإجباري”.. عوامل الهجرة

يروي عدنان كيف أمضى عامه الأخير في سوريا -بعد خروجه من المعتقل- بعيدا عن عائلته ومنزله، ويقول: كنت أقيم في منطقة بعيدة عنهم، وكانوا يأتون كل ثلاثة أسابيع أو شهر لزيارتي، وكنت أعيش في منزل واحد مع طبيب كان مطلوبا من النظام السوري أيضا، وأجبر على الفرار والانتقال إلى منطقة لا يسيطر عليها النظام والقوات الموالية له كي لا يعتقل، وحين قررت الرحيل، شجعني على هذا الأمر، لكنني أشعر بأنني تخليت عنه وتركته وحده يعاني في سوريا.

ويتابع عدنان قائلا: الأمر الذي سرّع رحيلي كان أن ابني باسل يزداد طوله بسرعة، وخفت أن يستدعوه للتجنيد الإجباري، لأنه يكبر في السن.

“فقد ثلاثة من أشقائه في الحرب”.. جائزة زمالة العمل التطوعي

أصبح عدنان أول سوري يحظى بزمالة من مؤسسة “آيكان”، وقد نال جائزة “زيلدا روث هاريس” التي تُمنح للمساهم الأكبر في النهوض بمبادئ المساعدة الذاتية والعمل التطوعي والقيادة.

وتقول مقدمة الحفل عن عدنان: أول تواصل بين مؤسسة “آيكان” وعدنان عندما كان في درعا، وكان الاتصال بالمؤسسة يشكل تحديا بالنسبة له بسبب انقطاع الخدمات، وعدم توفر خدمة الإنترنت بشكل دائم وبنوعية جيدة، لكنه تحدّى الصعوبات، وأراد أن يكون أول اختصاصي اجتماعي سوري يُساعد بلاده لتتعافى من صدمة ما بعد الحرب.

عدنان المحاميد من درعا هو أول سوري يحظى بزمالة مؤسسة “آيكان”

وتتابع متحدثة عنه: عمل عدنان بجد في عامه الأول، فحين أتى إلى هنا كانت لغته الإنجليزية ضعيفة جدا، لكنه عمل ليلا ونهارا، ليس فقط لتحسين لغته الإنجليزية، بل ليكون زوجا وأبا لأطفاله الأربعة، وباحثا أكاديميا ممتازا، فهو كان يواظب على القراءة وإجراء الأبحاث يوميا، وكان مهتما أيضا برفع مستوى الوعي فيما يتعلق باللاجئين السوريين القادمين إلى كندا، وكذلك كان منهمكا بشكل يومي بتوضيح الصراع السوري وتفاصيله.

وختمت مقدمة الحفل قائلة: عدنان فقد ثلاثة من أشقائه في الحرب السورية، لذا فإن رغبته في أن يكون اختصاصيا اجتماعيا ومُهتما بالثورة السورية ليس خيارا، بل ضرورة.

“تحوّل الأمر إلى روتين”.. حالة القصف اليومي في درعا

في الفيلم يظهر اندماج أطفال عدنان بشكل كامل في المجتمع الكندي، من خلال أصدقائهم في المدرسة، واحتفالهم بالهالوين، ولعبهم للرياضات المنتشرة والشهيرة في كندا، وقد أصبحت ابنة عدنان الكبرى عضوة في فريق التمثيل بالمدرسة، وأدت مشهدا تمثيليا باللغة الفرنسية على المسرح أمام عشرات الحاضرين، رغم أنها كانت حديثة العهد في تعلم الفرنسية.

أطفال عدنان المحاميد اندمجوا في المجتمع الكندي

يتابع عدنان بشكل يومي أخبار القصف والتدمير وسقوط القتلى في سوريا، ويقول: تحوّل الأمر إلى روتين، ولست مُتفاجئا مما حصل ويحصل، إذ لم تُتخذ أي إجراءات أو مواقف فعلية لوقف الحرب منذ 2011، لكنني أشعر بالقلق على الناس، فأنا عشت في حلب لخمس سنوات، أعرف المدينة بشكل جيد، وعدد من أحيائها لا تزال محاصرة، أتعجب من اهتمام الناس بالمباني والأماكن التاريخية أكثر من اهتمامهم بالبشر.

وتقول بسمة التي اختطف والدها وأصبح في عداد المفقودين: الطائرات تقصف درعا، وآخر مرة تواصلت فيها مع شقيقي وعائلتي كانت قبل أسبوعين، الوضع صعب للغاية في المدينة.

“أحلم يوما أن نلتقي خارج السجن”.. رسالة إلى رفيق الزنزانة

يروي عدنان قصة زميله في الزنزانة علاء الذي وعد أن يفعل كل ما بوسعه لمحاولة إخراجه من السجن، ويقول عدنان: لم أنسَك يوما، وتجربتنا في السجن تعيش معي، وأحاول تتبع أخبارك من خلال الناس الذين يخرجون من السجن، لا أزال أحتفظ بصفحتك على فيسبوك وبكلمة السر، أحلم يوما أن نلتقي خارج السجن، لم تعد وحيدا، بل لدي شقيقان أيضا في السجن، أسأل الله أن يفك أسركم جميعا، لم أتخيل أن يأتي يوم ونتفرق، عدد منا غادر البلاد، وآخرون قتلوا، والبعض في السجن أو مفقودون، كبرنا في السن، وبدأ الشيب يغزو الشعر، وتجاعيد الوجه تظهر.

عدنان المحاميد يروي قصة زميله في الزنزانة علاء الذي وعد أن يفعل كل ما بوسعه لمحاولة إخراجه من السجن

وفي إحدى محاضراته لشرح أوضاع سوريا، يقول عدنان: أتذكر أنني في أحد الأيام كنت أناقش موضوعا مع زميلتي، فقالت لي عليك أن تتذكر دائما أنك تعمل من أجل الآخرين، وكيف ستؤثر بحياتهم، وهذا سيؤدي إلى أن أنسى معاناتي الشخصية، فأنا أعمل مع اللاجئين السوريين الذين قدموا مؤخرا إلى كندا، وشاهدت رغبتهم في الحصول على السلام، وسيخبرك أي سوري جاء إلى مونتريال أنه قدم إلى هذه البلاد من أجل أبنائه، لضمان مستقبل أفضل لهم، هذه فرصة مهمة للحديث عن السلام وتذكر السوريين الذين لا يزالون داخل بلادهم، الأشخاص الذين لا يملكون أي شيء ليأكلوا، ومنهم من يبقى أياما من دون طعام .

“آمل بأنك ستعود ذات يوم وتطرق باب منزلنا”.. رسائل للحبيب المفقود

تلوح بارقة أمل وفرح في الفيلم عندما تتصل بسمة بأشقائها الذين لا يزالون يعيشون في سوريا، ورغم تقطع الإنترنت ونوعيته السيئة؛ فإن بسمة استطاعت أن تطمئن على أشقائها، فأعادوا لها البسمة والفرحة التي فقدتها منذ وصولها إلى كندا، “فأنا كل يوم أنا ودمعتي على خدي خوفا على من بقي من عائلتي في سوريا”. وتقول بسمة إنها لم تضحك منذ فترة طويلة بهذا الشكل، “ورغم الحرب والدمار والقلة والبؤس، تخلقون جوا من المرح والضحك”.

بسمة زوجة عدنان تقول إن دمعتها كل يوم على خدها خوفا على من بقي من عائلتي في سوريا

وينقل عدنان منشورا كتبته على فيسبوك ابنة أخيه موجها إلى أخيه الذي اختفى عام 2012، جاء فيه: أبي، أيامنا باتت تمضي على أمل عودتك، لا حياة من دونك، وصوتي يعلو كلما تذكرت بسمة تخرج من قلبك، اشتقت لمناداتك ولوجهك ولضحكتك ولنصائحك ولكل شيء فيك، ولصوتك عندما تناديني، آمل بأنك ستعود ذات يوم وتطرق باب منزلنا، فأنت في قلبي وعيوني وأنت كل حياتي.

نهاية الفيلم كانت مع كلمات مؤلمة لعدنان موجهة لأخيه، قال فيها: لتوصل الريح كلماتي إليك، حلمت حلما غريبا، كنتم جميعا حولي، ونحن لا نزال أطفالا، أجسادنا ملتصق بعضها ببعض، نائمون على طول الجدار، أمي في المطبخ، لكن المفاجأة عدم وجود ضجة أو أي صوت، أخي زايد يتمدد إلى جانبي لكنه لا يتحرك، لا أدري إن كان يتنفس، أنا خائف، أنظر إلى النافذة، هناك برتقال في شجرة الحديقة، ألتفت فأراك، وأسألك أنت هنا؟ تبتسم تضع ذراعيك حول عنقي، اشتقت إلى ابتسامتك أخي.


إعلان