“البحث عن شجرة القيقب”.. رحلة صناعة الكمان في غابات الألغام البلقانية

عدنان حسين أحمد
لم يكن “غاسبر بورشاردت” صانع آلة الكمان مُولعا بمهنته فقط ومفتونا بها، وإنما كان باحثا عن الكمال، فلا غرابة أن يُذكِّرنا على وجه السرعة بالملك والنحّات “پجماليون” الذي صنع منحوتة لإمرأة ووقع في حبّها، لأنها ببساطة شديدة نموذج للفتنة والإثارة والكمال.
هذا هو بالضبط ما يبحث عنه صانع الكمان “بورشاردت” الذي انتقل من ألمانيا إلى مدينة كريمونا في شمال إيطاليا معقل صناعة الكمان في العالم، واستقر فيها حيث يعيش ويعمل ويحلم بالتفرّد الفني، فثمة صوت إبداعي مُرهف يناديه من أعماق روحه لأن يصنع تُحفة وتريّة لا مثيل لها في العالم، أو أن تكون على الأقل بمستوى ما أبدعه أساتذة الكمان الكبار، أمثال “أماتي” و”بيرغونزي” و”غوارنيري” و”ستراديڨاري” الذين تُباع آلاتهم الموسيقية المُتقنة الصُنع بملايين الدولارات الأمريكية.
آل “بورشاردت”.. شغف الزوجين بالآلة الوترية
يركِّز المخرج النرويجي “هانس لوكاس هانسن” في جانب من قصته السينمائية على السيرة الذاتية لصانع الكمان الألماني “غاسبر بورشاردت” وزوجته “سيبيل” التي تشاركه العمل في ورشته، وهي صانعة كمان أيضا، ومشغوفة مثل شريك حياتها بهذه الآلة الوترية التي تأخذ الإنسان إلى مشارف العذوبة والرِّقة والحنين الأبدي.

تلتزم المرأة بالبيت والورشة وإدارة الأمور المنزلية، لتفسح المجال لزوجها كي يواصل مغامراته التي لا تخلو من أخطار جدية على حياته، وتأثير ذلك على زوجته “سيبيل” التي تشبه في جانب منها حياة “پنيلوپي” التي تنتظر عودة زوجة “أوديسيوس” في “أوديسة هومر”.
ضوء اتقد ولم ينطفئ أبدا.. عشق صوت الكمان منذ الطفولة
يسلّط المخرجُ الضوءَ على الشخصية الرئيسية “غاسبر بورشاردت”، فنعرف أنه وقع في حُب آلة الكمان منذ كان ابن 6 سنين، وتعلّق بصوتها الساحر منذ وقت مبكر جدا، ويصف هذا الصوت بأنه مثل الضوء الذي اتقد على حين غرة ولم ينطفئ أبدا، وظل يُديم زخم هذا الضوء حتى الآن وهو يقف على مشارف الستين.
لقد تتلمذ على أيدي صُنّاع مهرة، مثل السيد “أليساندرو كريلوفي”، ثم بدأ يعمل في ورشته الخاصة بمدينة كريمونا، وهو يصنع العشرات من آلات الكمان، ثم يبيعها للعازفين المحترفين، لكنه ظل يحلم بصناعة “آلة العمر” كتلك التي صنعها “ستراديفاري”، أو أقرانه الثلاثة المُشار إليهم سلفا.
مدينة كريمونا.. منافسة المحترفين في موطن الصناعة
تحتفي مدينة كريمونا بمسابقة صناعة الكمان التي تُنظّم كل ثلاث سنوات، وقد وصل عدد الدول المشاركة إلى 40 دولة، حيث أسندت لجنة التحكيم جوائزها إلى ثلاث شخصيات مهمة، وهي على التوالي: الكوري الجنوبي “بارك جيوان” الذي نال الميدالية البرونزية، والياباني “يوكيو جين” الذي حصل على الجائزة الفضيّة، بينما فاز بالميدالية الذهبية الفرنسي “نيكولاس بونيه”.

كثيرون يظنون خطأً أنه ليس باستطاعة أحد أن يصنع كمانا مُتقنا كما فعل الأساتذة قبل 300 سنة، لكن “بورشاردت” لا يريد أن يُنهي حياته من دون هذه المحاولة الاستثنائية التي يبرهن فيها على براعته في صناعة هذا الكمان الذي سوف يصبح مرجعا لصُنّاع الآلات الوترية.
يتمتع “بورشاردت” بصحة جيدة، حيث يرى الأشياء بوضوح، ويسمع بشكل جيد، ولديه معرفة وافية بعلم الموسيقى والأصوات، ويمتلك حِسا مُرهفا وذوقا رفيعا، لكن ما يحتاجه هو الخشب الجيد الذي استعمله ستراديڨاري في صناعة آلاته، وهو أفضل أنواع الخشب الذي رآه الإنسان حتى يومنا هذا.
“خشب القيثارة”.. بحث عن الشجرة المنشودة في البلقان
تتكئ القصة السينمائية برمتها على مسارَين سرديين، الأول يدور حول” غاسبر بورشاردت” وسعيه الحثيث للحصول على شجرة القيقب أو “خشب القيثارة” الذي يجسّم الأصوات الموسيقية إلى أعلى درجة، ويمنحها رنينا عاليا لا يمكن أن يصدر عن أي نوع آخر من الخشب، الأمر الذي يدفعه لمغامرة قد يدفع ثمنها حياته. لقد شبهنا هذه الرحلة بـ”الأوديسة”، ولا نعرف إن كان البطل سيعود أم لا؟
لا توجد أشجار القيقب إلا في دول البلقان، وخاصة في البوسنة وصربيا اللتين عانتا من الحرب بين عامي 1992-1995 م، وزرعت في غاباتها أكثر من مليوني لغم تتفجر بشكل دائم كلما وطئها إنسان، أو داس عليها أحد حيوانات الغابة.

ثمة أسباب متعددة لهذه المغامرة، أوّلها صناعة هذه التحفة الوترية المتفردة، والثانية تأكيد الذات التوّاقة إلى الكمال، والثالثة إهداؤها إلى عازفة موهوبة من طراز الهولندية “جانين يانسن” التي تقدّر هذه الهدية المثالية حق قدرها، وتعتز بها كأثمن شيء في الوجود.
يقوم “غاسبر بورشاردت” بأكثر من رحلة من كريمونا إلى سراييفو وبعض المدن المجاورة لها، ويلتقي بتجار الخشب والعصابات التي تتاجر بالأخشاب القيّمة النادرة، وتُهرّبها من الغابات إلى صُنّاع الآلات الموسيقية ضمن حدود القارة الأوروبية.
يعثر الباحثون عن الخشب على الشجرة المنشودة، لكنها تحتاج إلى 200 سنة أخرى حتى يكتمل خشبها، وتصبح صالحة للاستعمال، فشجرة القيقب يجب أن تكون “صحيّة” أي غير منخورة، ولم يتعرّض أي قسم منها للتعفن، ويجب أن يكتمل نموها خلال 200 أو 300 سنة في أبعد تقدير، وحينما تقطّع، يجب أن يجفّ خشبها تماما كي لا يتأثر بالحرارة والبرودة.
غابة الألغام.. جنات أشجار القيقب المحفوفة بالموت
تتكشف شخصيات الفيلم تباعا، فقد تعرّفنا على “بويان” في سراييفو، وعلى “ميركو” في دوبوي الذي كان ضابطا، وتحوّل إلى صانع كمان، حيث ينصح “بورشاردت” أن لا يطلب كمية كبيرة من الخشب، لأنه سيوحي بأنه تاجر وليس صانع كمان.

لقد وافق “ميركو” على مجيء “بورشاردت” لرؤية الشجرة، لكن عليه أن يكون حذرا جدا لأن الغابة مليئة بالألغام، وعليه أن يمشي خلف الدليل لكي لا يدوس على أي لغم مختبئ تحت الأعشاب، والدليل لا يمشي في هذه المناطق الخطرة من دون كاشفة ألغام.
وحينما يصلون إلى الشجرة، يكتشف “بورشاردت” أنها ليست كبيرة بما فيه الكفاية، ويجب أن ينتظر حتى يصل عمرها إلى 300 سنة قبل أن تكون جاهزة للقطع.
“عزيزتي جانين”.. رسالة من شجرة لم تبلغ السن القانوني
بما أنّ “جانين” تعرف بمغامرات “بورشاردت” فإنه يكتب لها رسالة ويحيطها علما ببعض التفاصيل التي برى أنها مهمة بالنسبة لها، إذ يقول:
“عزيزتي جانين، أخشى أن تكون لديّ أخبار مُثبطة، فسرّ الشجرة في غابة “ميركو” أنها صغيرة جدا، وستحتاج إلى مئات السنين لكي تكون كبيرة بما فيه الكفاية لكي تُقطع، لكن من المحتمل أن نجد هذا الخشب، أشعر بذلك، أنا أعرف أن هناك شجرة في مكان ما بانتظاري”.

يعتمد “بورشاردت” على حدسه كثيرا، فهو يرنّ في أعماقه مثل جرس عندما يرى الشجرة الصحيحة التي كان يبحث عنها طول حياته، ففي العشرينيات من عمره قام برحلة إلى البوسنة على دراجته الهوائية، ورأى شجرة قيقب مكتملة النمو، لكنه لم يستطع جلبها معه، ومصادفة من هذا النوع لا تحدث إلا مرة واحدة في هذا العمر القصير.
وفي خضم هذه الانشغالات والهواجس الكثيرة يتصل “بويان” ليخبر “بورشاردت” بأن شجرته قد قُطعت للتوّ، وقد أرسل له بعض الصور، وتعهّد له بمساعدته في تخفيض السعر، لكن تاجر الخشب “سمير” يتمتع بذكاء نادر، ويعرف قيمة الخشب الذي يتاجر به، وما إن عرف بسعر الكمان حتى قدّر عدد الآلات التي سينتجها هذا الجذع الخشبي.
يوافق “بورشاردت” على السعر من دون أن يصنع للتاجر كمانا خاصا به، ومع ذلك تهيمن الأخبار السيئة حينما نعلم أن الشجرة قد قُطعت إلى أجزاء صغيرة وستلتهمها النيران، وعليه أن ينساها تماما مثل الشجرة الأولى التي لم تكتمل بعد.
“لقد وجدتُ شجرة حياتي”.. كنز مدفون بين ألغام الغابة
بعد تسعة أشهر نتعرّف على الشخصية الثالثة، وهو “ملادين” الذي يطلب من “بورشاردت” أن يغادروا الغابة، لأن ما يقومون به غير قانوني، وعليهم أن يتفادوا نظر الأهالي.

لا يبعد موقع الشجرة المطلوبة التي تعادل وزنها ذهبا أكثر من 1200 متر، وعمرها 300 سنة بالتمام والكمال، وتحيط بها الألغام من الجهات الأربع، الأمر الذي جعلها محميّة من المتطفلين والمغامرين، ولعل هذه الشجرة هي الأخيرة في هذه المنطقة التي تحرسها الألغام.
“ملادين” يريد أن يبيع ويكسب النقود، و”بورشاردت” يفكر بالشجرة “الماسة” التي يجب أن تموت لكي تصبح كمانات متعددة تمنحنا أصواتا جميلة تلامس الروح وتسرّ السامعين. وبالمقابل فهو يريد خشبا مثاليا لكمانه، ولا بد من قطع هذه الشجرة حتى وإن كانت الأخيرة في هذه الغابة المكتظة بالأشجار.
لا شكّ في أنّ هذا الخبر المُثير يهم “جانين” ويعني لها الكثير، لذلك يتصل بها من سراييفو هاتفيا، ويسجل كلامه “لديّ خبران: الأول لقد وجدتُ الشجرة المطلوبة وهي شجرة حياتي، إنها جميلة وضخمة جدا وبحالة جيدة، وأظن أنّ عمرها 300 سنة، أما الخبر الآخر، فهو أني ليس لديّ القلب الذي يؤهلني لقطع الشجرة، إنها جميلة جدا، بل هي أثر طبيعي، لا أدري ماذا أقول لكنني سأتصل بك حالا، أبعث لك أمنياتي الطيبة”.
“اصنع مني كمانا”.. هدايا الطبيعة الساحرة لمن يحبها
يسوق “غاسبر بورشاردت” مثالا آخرَ للموقف الذي هو فيه الآن، فهو أشبه بالصيّاد الذي يبحث عن وحيد القرن، وعندما يراه أمامه فجأة يتأثر بجماله، ولا يستطيع قتله. تُرى هل يستطيع قتل الشجرة الجميلة وتحويلها إلى كمانات مُتعددة تصدح بموسيقاها في الصالات وعلى خشبات المسارح العالمية؟

بعد مرور سنة كاملة يتصل “ملادين” ويسأله إن كان مهتما بشجرة القيقب أم لا، لأن الناس بدؤوا ينظفون حقول الألغام، وقد قطعوا شجرة منخورة، لكن جزءا منها بحالة جيدة جدا.
يأتي على وجه السرعة ويرى الجذع المقطوع من الشجرة والمخبأ تحت أغصان كثيفة، يزيحها بسرعة ليكشف عن هدايا الطبيعة المتواصلة للإنسان، وحينما يبدآن بتقطيعها يرى الضوء المنبعث منها، ويستمع إلى الصوت المجسّم لنقرات أصابعه، وكأنها تقول له “اصنع مني كمانا”.
كمان العمر.. هدية ملفوفة بالورود بعد رحلة محفوفة بالخطر
رغم أنّ “جانين” لديها مشكلة مع “غورنيري”، وتحب “ستراديفاري” أكثر، فإن شخصيتها قوية جدا، وهي بحاجة ماسّة إلى كمان مفتوح ليحتوي هذه الشخصية المهيمنة التي تعزف ألحانا رائعة فيها من الحلاوة والطلاوة ما لا يمكن أن تصدّقه الأذن الموسيقية المُرهفة.
ينجز “غاسبر بورشاردت” كمان العمر ويأخذه إليها مع باقة ورد جميلة ملونة، ويطلب منها أن يجلس على مسافة بعيدة بعض الشيء ليستمع لهذا الكمان الذي أوشك أن يكلّفه حياته.

لعل أهم ما في هذه اللحظة التي انتظرها سنينا طوالا هو أن يسلّم الكمان إلى يد تحبه، وأنامل تتمنى العزف على أوتاره، فلا غرابة أن يكون التسليم بمثابة إعلان حُب صاخب على أهمية ما فعله في حياته، مُنهيا رحلاته الثلاث المحفوفة بالأخطار إلى بلد تطوّقه حقول الألغام من كل حدب وصوب.