“ما بعد الحُب”.. قصة أرملة عاشقة تكتشف الوجه الآخر لزوجها

د. أحمد القاسمي

يقول جميل بثينة العاشق المتيّم:

وجاور إذا ما متُّ بيني وبينها

فيا حبّذا موتي إذا جاورت قبري

ويجعل هذا الدعاء كناية عن الحب الأبدي الخالد الذي لا يبلى ببلاء الدهر.

والحب هو شعور كوني رمزت إليه مختلف الأمم بزوج يختزل الفداء والوله الشديد، من قيس وليلى إلى روميو وجولييت إلى لانسيوت وغوينفير وغير ذلك كثير. لكن لنطلق العنان أكثر للخيال، ولنتساءل عمّا يكون عليه الأمر حين يجتمع عاشقان من أمتين مختلفتين، ألم يجمع الحب بين القائد الروماني أنطونيو وملكة مصر كليوباترا فانتحر لإشاعة كاذبة تعلن موتها، ثم انتحرت هي أسى عليه؟

 

يقدّم لنا الفيلم الطويل الأول “ما بعد الحب” 2020  للمخرج البريطاني من أصل باكستاني عبد العليم خان إجابته الخاصة عن علاقة مثالية جمعت أحمد حسين قبطان العبّارة التي ترحل يوميا ذهابا وإيابا عبر قناة المونش بين دوفر جنوب إنجلترا وكاليه الفرنسية؛ وماري البريطانية المحبة له منذ سنوات المراهقة، والتي تحدت في سبيله عائلتها، حيث اعتنقت الإسلام حبّا فيه.

“أنك خلقت لأجلي”.. سيل من الحب يغمر أرجاء المنزل الباكستاني

يسير كل شيء على ما يرام بين الزوجين المتحابين، فالزوجة “ماري” تنهمك في إعداد الطعام لزوجها، وتسهر على خدمته بحُبّ، وتناقشه في تفاصيل حياة العائلة الكبرى، كأن تتحدّث عن المولودة الجديدة التي سيقصّ شعرها قريبا حتى ينمو بغزارة أكبر وفق العادات الباكستانية، وعن ابتهاجها لفرح “فرزانة” شقيقة زوجها بهذه الحفيدة، فتكشف اندماجها الكلي في صلب حياة زوجها.

تشكل الديكورات والأصوات المصاحبة سبّابة سرية تقود المتفرّج إلى هذا الانطباع، فأغنية الفيلم الباكستاني الرومنسي “كابهي كابهي” (Kabhi Kabhie) تتغنى بهذا العشق الأبدي مردّدة “أحيانا يخطر بقلبي ذلك الإحساس، أنك خلقت لأجلي.. أن هذا الجسد وهذه العيون مُلك لي وحدي”.

أما الآيات القرآنية فتؤكد البُعد الإيماني العميق الذي يكتنف هذه العلاقة، فترد في شكل لوحة للخط العربي الأنيق معلّقة بالمطبخ تتحدث عن الهداية، أو تلاوة من أحمد للآية السادسة من سورة التحريم “يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ”.

الممثلة “جوانا سكانلان” التي قامت بدور “ماري”، وهي المرأة المخذولة من زوجها بعد أن اكتشفت وجهه الآخر بعد وفاته

 

تحاول هذه اللقطة المتوالية الأولى أن تختزل حياة الزوجين، لكنها تستوقفنا عند عنصرين خصوصا، فتقدّم لنا “ماري” المرأة اللطيفة جدا المحبة لزوجها، والمنغمسة في الثّقافة الباكستانية وبمعتقداتها، حيث تجعلها في واجهة الصورة، فتوردها في لقطات متوسطة تُسجّل حركتها وهي تعد الطّعام، ثم تقترب منها لتلتقط مشاعر الغبطة المرسومة على وجهها، فهي لا تعبأ بأحمد وهو يدخل المطبخ من الخارج، ثم ينصرف إلى غرفة الجلوس، ولا تقدّم صورته إلا من منظورها هي، بصرف النظر عن شخصيته الحقيقية، ثم تحدث المفاجأة حين يموت أحمد فجأة ليظهر بعدها جينيرك البداية (لائحة في بداية الفيلم أو نهايته تعرض معلومات عن الفيلم).

موطن الأسرار.. طقوس العشق تكشف الوجه الآخر لأحمد

هل كان كل شيء على ما يرام فعلا؟ لقد باتت هواتفنا اليوم موطنا لأسرارنا، وشاشات تعرض على صفحتنا هوياتنا الحقيقية التي قد نخفيها عن أقرب أقربائنا، وهاتف أحمد سيكون الشاشة التي ستكتشف فيها “ماري” الوجه الآخر لزوجها، وحياته المزدوجة التي يعيشها، والجسر الذي سيعبر به إلى الضفة الفرنسية من المانش، لتكتشف أن لا شيء كان على ما يرام في الحقيقة.

لم يكن ذلك الملخص الموجز الذي عُرض قبل الجينيرك غير الشجرة الجميلة التي تستدرجنا إلى الغابة الغريبة الأدغال، فأثناء بحث “ماري” في ذاكرة هاتف زوجها تكتشف طقوس عشق كان يمارسها يوميا مع سيدة أخرى، ثم تجود عليها محفظة أوراقه ببطاقة تحمل اسمها وعنوانها.

 

ورغم حرصها على تجاهل الأمر بداية، وعلى ممارسة حياتها اليومية كما أراد لها أحمد، فتعتني بالمنزل وتسهر على أداء صلاتها في أوانها، فإن هذه المرأة الغامضة “جينيفييف لوجيه” التي تظهر فجأة؛ تفرض عليها نفسها بشدة عبر المهاتفات والرسائل الحميمية، ممّا يفقدها توازنها وخشوعها واطمئنانها، ويؤجج لديها الرغبة في التعرّف عليها.

لقاء الضرّتين.. رب صُدفة خير من ألف ميعاد

يوجد السيناريو الحوافز الضرورية لبطلته “ماري” حتى ترحل إلى الضفة الأخرى بحثا عن هذه المرأة، ولا شكّ أن هذا ما ينتظره المتفرّج، وقد غذّى المخرج رغبته في التلصص على شخصية أحمد الغريبة.

تُرتَب الأمور ترتيبا مصطنعا، حتى إذا ما حلّت بكاليه الفرنسية وطرقت الباب لتواجه منافستها؛ استقبلتها “جينيفييف لوجيه” على أنها إحدى المعينات اللواتي ترسل بهنّ شركة الخدمات العامّة، وتعاملها على هذا الأساس. وهل يوجد ما هو أفضل من هذه الوضعية أمام “ماري” والمتفرّج في الوقت نفسه؛ أن تتنكّر الزوجة خلف شخصية المعينة، وأن تدخل المنزل الذي كان يرتاده زوجها، فتتسلّل إلى حياته الأخرى التي لم تكن تعرفها.

لقاء بالصدفة يجمع البطلة “ماري” بضرتها  “جينيفييف لوجيه” في مدينة كاليه الفرنسية

 

يحدث كل شيء صدفة، ومن شأن الصدف أن توهن حبل السرد وتضعف البناء الدرامي، لكن المخرج يتخطى هذه العقبة بسلام معوّلا على الأداء المذهل للممثلتين، فقد استطاعتا الإقناع بهذه اللحظة، وجعلتاها تبدو تلقائية إلى أبعد الحدود.

تلقائية السهل الممتنع.. لمَسات السينما الإيرانية

تميل بعض الأفلام إلى تعقيد أحداثها التعقيد الشديد، فتمزج بين الممكن والمستحيل، أو بين الواقع والحلم، وتجعل خط السّرد متوتّرا متقلبا. وعلى خلاف ذلك فإن المخرج لم ينهج هذا النهج، فبالرغم من عرضه لحياة مركبة، فقد اختار المخرج عبد العليم خان البساطة في سرد اليومي.

يجسّد المخرج عبر لقطة ما قبل الجينيريك صورة زائفة توهمنا برجل دين محافظ، ولم يكن يرسم هذا الوجه إلا ليؤجج فينا الفضول لمعرفة الجانب الخفيّ منه، ويجعلنا شركاء مع “ماري” نقاسمها همّها، فتغدو مختلف آثار أحمد من ملابس ورسائل وتسجيلات فيديو علامات تساعدنا على إعادة تشكيل هذه الحياة، ويغدو سوء فهم “جينيفييف لوجيه” لمهمة “ماري” ومعاملتها على أنها معينة عنصرا مساعدا بدوره، فكثيرا ما كانت تنخرط في عملية إفضاء يكشف صورة مختلفة جذريا لأحمد الذي عرفنا، فإذا هو رجل مرح غير ملتزم دينيا يشرب الجعّة ويعيش علاقة حرّة خارج إطار الزواج، فينجب فتى نكتشف لاحقا أنه مثلي الجنس، ويسلّم بعلاقات شريكته مع رجال آخرين.

“ماري” المرأة المغدورة التي خانها زوجها ولم تعرف ذلك سوى من خلال هاتفه المحمول وبعد وفاته أيضا ا

 

ويؤمن هذا السرد التلقائي عبر عدد قليل جدا من الشخصيات تتمثل خاصة في المرأتين والابن المراهق وأحمد الذي يظهر من حين إلى آخر عبر الفيديوهات والرسائل، وعدد قليل من الشخصيات الثانوية، فنكاد نلمس حضورا لسمات السينما الإيرانية التي تنطلق بمهارة عجيبة من العادي والمبتذل أحيانا، لتصل إلى أعمق المشاعر الإنسانية، ولعمري إن هذا السرد السهل الممتنع ليس اختيارا بسيطا مطلقا، ولا يتيسر لجميع من أراده.

“العائلة المرآة”.. مهارات إدارة الحياة المزدوجة

كثيرا ما مثّل علم النفس معينا للسينما يزودها بالقصص المشوقة، كحالات الانفصام التي يعيشها البعض، أو عمل اللاوعي الذي يدفع الشخصية من حيث لا تعلم لتأتي ما لا نتوقع من الأحداث.

انطلاقا منه يأخذنا عبد العليم خان إلى عالم “الحياة المزدوجة” وما فيها من الإثارة، فهي لا تكشف الودّ بين الأحبة إلا لتحجب سلوكا أكثر حدة من الخيانة، وتشير الأبحاث النفسية إلى انتشار الظاهرة بين الأثرياء، خاصة الذين يخوّل لهم وضعهم الاجتماعي الموازاة بين حياتين تكون ثانيتهما سرية يطلق عليها علم النفس اسم “العائلة المرآة”، لأنها تُناظر الأولى بشكل ما.

وتظل إدارة هذه الحياة المزدوجة دون إثارة الشريك صعبة وتقتضي مهارات كثيرة، لذلك تمثل حياة المهاجرين حقلا خصبا لنشوئها، فالحياة بين بلدين مختلفين تساعد على التّكتم، وتوفر لأصحابها الحصانة بعيدا عن كلّ رقابة، ولا تخلو الظاهرة من أعراض مرضية، فالحياة المزدوجة تعني لغة مزدوجة وإيماءة مزدوجة وشخصية مزدوجة بالنتيجة، وتكشف عن شخصيات هشّة نتيجة لمعاناة نفسية ونقص عاطفي يُخلّف انعدام الثقة المطلق بالنفس، كثيرا ما يتخفى في شكل جنون للعظمة، يضع الذات فوق كل اعتبار، بما في ذلك نمط الأسرة التقليدي.

 

ولم يشأ الفيلم أن يجعل من هذه الحياة المرضية موضوعه الأساسي، فليست خيانة أحمد ودوافعها النفسية ما تعنيه، وإنما حياة “ماري” ما بعد الحب، وكيفية تصرفها في رصيد ذكرياتها التي بات يخالطها الزيف، وبات يفسد عليها أن تعيش حدادها بسلام روحي.

اختطاف الابن.. صراع نفسي ومقارنات جريئة

يكشف نسق السرد وحركة الكاميرا تعاطف الفيلم مع “ماري”، فالعنصران يحملان المتفرج على وضع نفسه موضع هذه المرأة المغدورة، وعلى الانغماس في تجربتها والشعور بمرارة ألمها، بداية من حاجتها إلى فهم الوجه الآخر من شخصية زوجها التي تدفعها إلى تقمص دور معينةِ منافستها فيه، إلى إلقائها باللائمة على نفسها.

تتأمل “ماري” جسدها في المرآة وتقارنه بجسد “جينيفييف لوجيه”، ويخبرنا انكسارها بما يعتمل في ذهنها، فلا شك أن إهمالها لجسدها المترهل سبب وجيه ليبحث زوجها عن حياة بديلة، وينبهنا إلى انخراطها في أزمة الوجود التي جعلتها ترى في غريمتها مثلا أعلى، بعد أن استطاعت أن تنتزع منها زوجها. أليس “المغلوب مولعا أبدا باتباع الغالب” كما يقول ابن خلدون؟

تتخذ غيرة “ماري” أكثر من وجه، فتعزي نفسها بأنها تفهم أحمد أكثر منها على كلّ حال، ثم تحاول أن تختطف منها ابنها كما انتزعت هي منها زوجها، فتتقمص دور الأم، وتتقاسم معه بعض الأسرار، أو تطبخ له طعاما يروق له، وتُحدّثه عن أصوله الباكستانية، وحين يفتقد والده ترسل له من هاتفه رسائل تُهدّئ من روعه.

 

ورغم ما تعرضت له “ماري” من خيانة، فإنها لم تضع في أي لحظة مشاعرها إزاء زوجها موضع تساؤل، ولم تكشف عن أي شعور حاقد إزاءه، فكان الفيلم قصّة عن التسامح أبدعت خلالها الممثلة “جوانا سكانلان” في شحنها بالعاطفة، وذلك من خلال الأداء البسيط، والاختزال في الحوار بعيدا عن كل ثرثرة لا تحتملها السينما.

إحياء ذكرى الحب الأبدي الخالد.. رسالة الفيلم

يطرح فيلم “ما بعد الحب” عدة مواضيع على قدر من الأهمية، مثل الفجوة الثقافية بين المسلمين وثقافة البلدان التي تستقبلهم، أو كالجرح النرجسي للمرأة حين تكتشف خيانة من تهبه جميع عواطفها، أو كحب الأم لابنها.

جميع هذه المواضيع جدير بأن يكون موضوعا لفيلم بأسره، ذلك هو شأن أفلام البدايات التي تجعلها حماسة مخرجيها تقول كل شيء في الوقت نفسه، مما يضعف وقع رسائلها، لكن في حالتنا هذه يظل موضوع تسامح المُحب ومعاندته للوقائع وإصراره على الاحتفاظ بصفاء صورة من أحبَ بعد رحيله إلى العالم الآخر؛ عنصر الجذب في الفيلم، وعنصر الجاذبيّة أيضا. فلا يمكن للمتفرّج أن يبقى محايدا إزاء امرأة يتحول حدادها إلى كابوس وهي تكتشف من تشاركها زوجها، ومع ذلك تظل تقاوم حتى لا تفسد ذكراه.

 

ولئن توقعنا أن تزعج هذه القصة النسويات، وأن يرين فيها ضربا من التشريع لتعدّد الزوجات في المجتمع الأوروبي الحسّاس لهذه المواضيع، فإن جولتنا بين منصات النقد التفاعلي التي يشارك فيها عامة المتفرجين فاجأتنا بِكَمِّ المديح الذي كالته النساء لهذا الفيلم، وشدة إعجابهنّ بشخصية “ماري”، وما وراءها من رسائل تدعو إلى الحب الأبدي الخالد الذي لا يبلى ببلاء الدهر، وإلى القلب الكبير المتسامح.


إعلان