“الكود النهائي”.. ذئب بشري يفترس ابنته وحفيدته أكثر من 20 عاما

عبد الكريم قادري
اهتزّ العالم نهاية شهر أبريل/نيسان عام 2008 على خبر صادم نقلت تفاصيله معظم وسائل الإعلام العالمية، وكان يفيد بحدوث واقعة نفّذها ذئب بشري في ثوب إنسان، فقد قام باحتجاز ابنته ذات الـ16 ربيعا في قبو منزله لمدة 24 سنة كاملة، حيث اغتصبها وعذّبها بشكل متكرر طوال تلك المدة لتنجب منه سبعة أبناء، أحدهم توفي وهو رضيع، فقام برميه في موقد النار ليحترق.
دغدغت هذه القصة التي حدثت في النمسا وجدان كل من قرأها واطلع عليها، لهذا جرى تجسيدها سينمائيا، فأعيد تمثيل أحداثها ووقائعها في كثير من الأعمال لتبقى راسخة لا تنسى، من بين هذه الأعمال الفيلم الإيطالي “الكود النهائي” (The Final Code) الذي أنتج سنة 2021.
“منبوذ”.. حين اتخذ الإنسان من الكرة أنيس العزلة
كثيرة هي الأفلام التي تناولت مفهوم العزلة والانطواء والحجز والخطف والعيش في المساحات الضيقة، سواء كخيار من الشخصية التي جرى تناولها وتسليط الضوء عليها، أو كواقع مفروض قاهر وأمر غير متحكم فيه.
من هنا يتحوّل الأمر إلى عذاب نفسي وشقاء مستمر تصعب السيطرة عليه وكبح شعوره الجارف الذي يحوّل الأمر إلى حزن مُمتد، لتصبح العزلة فِعلا مُسيّرا لا أمرا مُخيّرا، وبالتالي يتولد إحساس الوحدة والضغط المستمر على الشخص الذي وقع عليه الأمر، لأن الإنسان بطبيعته اجتماعي، وهو بحاجة ماسّة إلى التواصل الاجتماعي كشرط أساسي للعيش.
هذا ما حدث مثلا في فيلم “منبوذ” (Cast Away) -الذي أنتج عام 2000 وبلغت مدته 144 دقيقة- للمخرج “روبرت زمكيز”، حيث وجد ساعي البريد “تشاك نولاند” (الممثل توم هانكس) نفسه في جزيرة مهجورة، لهذا تحتّم عليه مع الوقت خلق شخصية افتراضية يتواصل معها، وهي الكرة التي تحوّلت في نظره لإنسان سمّاه “ويلسون”، حيث صار يتعامل معها كشخص عادي حتى يضمن إنسانيته من خلالها، ولينقل الفيلم أهم قيمة لدى البشر، وهي ضرورة التواصل بين الأفراد، وفي حالة فقدان الأفراد تخلق شخصيات افتراضية لضمان الاستمرار.
“غرفة”.. عُزلة إجبارية لأم وابنها في القبو
هناك أمثلة سينمائية عدّة جُسدت لمحاكاة المواضيع التي ذكرناها، من بينها كلاسكيات راسخة، أو ما تم إخراجه في السنوات الأخيرة، والتي تُحاكي فيلم “الكود النهائي” الذي نسلط عليه الضوء، وتقترب من تفاصيل حكايته ومعالجته، مثل فيلم “غرفة” (Room) الذي أنتج عام 2015، وبلغت مدته 117 دقيقة، وأخرجه “ليني أبراهامسون”، وقد حصد أوسكار أفضل دور نسائي وعدد من الجوائز الأخرى.
يتناول فيلم “غرفة” عملية خطف واحتجاز أم وابنها في قبو مكوّن من غرفة واحدة، وبعد التحرر يجدان صعوبة في الاندماج مع المجتمع بعد العزلة القهرية، وهي تقريبا نفس الفكرة التي تناولها فيلم “الكود النهائي”، لكن بشكل أكثر قسوة وألما وعزلة، ومع ذلك فهما يشتركان في أن تلك العزلة مفروضة كونهما مُسيّرين فيها لا مُخيّرين.
رسم القسمات.. لغة سينمائية مشبعة بالعاطفة
استطاع المخرج الإيطالي “كارلو فوسكو” في فيلمه “الكود النهائي” أن يُسيطر على المساحة المحدودة التي اختارها كفضاء، لتجري فيه أحداث قصته التي تستند إلى حقائق ووقائع لا يمكن أن يحيد عنها أو يخرج عن خطوطها الرئيسية، لهذا عوّل على طريقة التكثيف البصري وخلق لغة سينمائية عن طريق الانفعالات التي تصدر من الشخصيات الرئيسية التي تعكسها الأم “شارون” (الممثلة إيفا ليكوس)، والابنة الصغيرة “سارة” (الممثلة مارا ستيفان)، والأب القاسي السادي (الممثل تشيب تشويبكا).
وقد سيّر المخرج مساحة العرض انطلاقا من حِرفية هؤلاء الممثلين الذين شغلوا مدة الفيلم التي تجاوزت الساعتين، انطلاقا من التلاعب بالقسمات التي تتغير مع استبدال كل حدَث وعاطفة، وفقا لسياق القصة وتصاعد أحداثها الدرامية أو المأساوية، وهو الأمر الذي مدّ جسر التواصل، وسهّل من عملية الفهم بين الفيلم والمتلقي، رغم أن المتلقي وجد نفسه محاصرا بقصة مأساوية لا تُنتج سوى الدموع والأحزان والكآبة.

لكن ذكاء المخرج الذي يملك مرجعية قوية في عملية تسيير العاطفة وتكثيفها وتوزيع جرعاتها بالتساوي في معظم زوايا الفيلم ومنعرجاته الكبرى؛ ضمِن النفَس السردي السلس، وحافظ على مستوى قوة الأحداث لتحمل نفس الشحنة في اتجاهات متنوعة، لهذا لا نرى مثلا بأن المقدمة قوية، بينما انخفض المستوى في المنتصف، ومن ثمة النهاية.
“المُنزلق”.. تقلبات النفس البشرية بين ليلة وضحاها
حافظ فيلم “الكود النهائي” على نفس الشحنة العاطفية في كل مفاصل الفيلم تقريبا، وهو الأمر الذي ساهم بشكل فعّال في مد جسر التواصل الذي تحدثنا عنه، ويعود هذا إلى تجربة المخرج “كارلو فوسكو” الذي كان قد حقّق أفلاما اعتمد فيها على شجون النفس البشرية وعلاقتها بالآخر، مثل الفيلم الدرامي الذي أخرجه سنة 2017 بعنوان “المنزلق” (The Slider)، ويروي من خلاله قصة بوّاب مستشفى يعيش مع زوجته التي دخلت في مرحلة اكتئاب حاد جدا بعد وفاة ابنهما.

من هنا تدخل العلاقة بين الزوجين منعرجا حادا، وهي العلاقة التي سلّط عليها المخرج “كارلو” عدسته المقربة ليفهم النفسَ البشرية وتقلباتها مع الأحداث الطارئة التي تُغيّر حياة البشر بين ليلة وضحاها، ومن خلال هذه التجربة المهمة في مسار المخرج، فإنه وجد نفسه مهيأ لتجربة أخرى أكثر عمقا، وأكثر تنوعا من ناحية العاطفة التي يطرحها الألم الناتج عن الاغتصاب والفقد والعزلة وظلم الأب والابتعاد عن العالم ورؤية عذاب الأبناء وآلامهم، وهي الأحاسيس الحادة التي وجدها وعكسها في فيلم “الكود النهائي”.
“شارون”.. 24 عاما من القهر في حضن الأب المفترس
من الصعب على المتلقي أن يحسّ بالشعور الكامل الذي مرّت به “شارون” طول فترة احتجازها في قبو المنزل، ليس لأن فيلم “الكود النهائي” قاصر عن إيصال هذا الشعور، بل لأنه من الصعب نقل ما حدث خلال 24 سنة كاملة لهذه المرأة من القهر وتكثيفه في ساعتين من الزمن، كما أن فاقد الشيء لا يعطيه، ولا يمكن للمرء أن يعيش العاطفة بشكل كامل، فقط يُجانبها ويقترب منها، أي أن المتلقي يشعر بجزء بسيط فقط من الألم الكلي الذي تعيشه تلك الشخصيات المأخوذة من أحداث حقيقية.
من هنا يتحوّل الألم إلى جبال من القسوة والحزن والبكاء والفقد والوحدة والظلم والقهر، وهي العواطف التي وُلدت من كون الأب هو المغتصب وهو الذي يحتجز، أي أنه من المنطقي أن يكون الأب هو الحامي وهو مصدر الأمان.

لكن في واقع “شارون” فإن الأب هو الذي اغتصبها طول 24 سنة، وأنجب منها سبعة أبناء أخذهم منها وترك معها فقط سارة الطفلة الصغيرة، حتى أنه أحرق رضيعها في المدفأة، واغتصب سارة أمامها، أي أنه اغتصب حفيدته، ووصلت به الجرأة أن جلب معه عاملة الحانة واغتصبها أيضا، وعندما رأى أنها اتصلت بالشرطة قتَلها وقطّعها ووضعها في كيس أسود وأخرجها من القبو.
صور الحيوانات في المعطف.. رسالة مشفرة إلى الأطباء
كانت كل الفظائع التي ارتكبها الأب تقع أمام ناظر ابنته وحفيدته الصغيرة التي لا تعرف شيئا عن العالم الخارجي سوى ما تنقله لها أمها، أو عن طريق جدها ووالدها ومغتصبها الذي حوّل حياتها إلى شحنة كبيرة من العُقد والأمراض، وعليه وجب على الأم أن تُحاول الهرب من قبضة هذا الأب المغتصب، لكن كل محاولاتها باءت بالفشل، لهذا طوّرت طريقة بينها وبين ابنتها تعكس من خلالها حرف الأبجدية إلى حيوانات تتشكل من خلالها كلمات، هكذا دوّنت عنوان البيت.
وعندما مرضت سارة ونقلت إلى المستشفى؛ عرف الأطباء بأن لديها نقصا حادا في الغذاء، وتعرضت للاغتصاب والإيذاء الجنسي، كما وجدوا “الكود” الذي تعكسه صور حيوانات في معطفها، وعندما قاموا بتحليله عرفوا العنوان وحرّروا “شارون”، وقُبض على المغتصِب ورُمي به في السجن، لينتهي مسلسل الحجز والاغتصاب، لكن سيبدأ مسلسل آخر أكثر قسوة في حياة شارون وابنتها سارة، لأنه من الصعب أن يُعيد تأهيلهما في ظل تلك العُقد الكثيرة التي زرعها فيهما الغول البشري.
“كارلو فوسكو”.. تحفة سينمائية تحصد الجوائز والتنويهات
فيلم “الكود النهائي” للمخرج “كارلو فوسكو” هو عمل مشترك بين إيطاليا ورومانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وقد شارك في عدد من المهرجانات السينمائية، من بينهما مهرجان الصورة الذهبية الدولي للسينما الأمريكية الذي حصل فيه على تنويه وجائزة أفضل ممثل، عدا عن مشاركته وتتويجه في مهرجان كالكوتا الدولي، وفوز المخرج بجائزة في مهرجان التنوع الكندي السينمائي، إضافة إلى مشاركات وجوائز أخرى.

ويعود سبب هذا الاحتفاء إلى قدرة المخرج على تفكيك علاقة في غاية التعقيد والتشابك بين الأب المغتصب والابنة المُغتَصَبة وحتى الحفيدة، وهي علاقة متشابكة وعنيفة وصادمة، لكن المخرج رتّبها وفق سياق درامي، وقدمها بشكل مرتب ومفهوم، مُعتمدا على الصياغة والمعالجة الفنية التي تضمن سينمائية الفيلم، وتحافظ على الشحنة التي يود إيصالها للمتلقي، وفي حالة “الكود النهائي” تنعكس تلك الشحنة في جريمة الوالد، هذا الغول الذي يختبئ خلف مشاعر مُزيفة ليفترس الآخرين بكل برودة.