“الرجل الأعمى”.. اختطاف العاشق المعاق في رحلته من أجل الحب
عدنان حسين أحمد
ينطوي فيلم “الرجل الأعمى الذي لم يرغب بمشاهدة تيتانيك” (The Blind Man who Did not Want to See Titanic) للمخرج الفنلندي “تيمو نيكي” على مفاجآت عدة، بعضها لا يخلو من المفارقة وروح الدُعابة، فكلاهما مريض، لكنهما يرفضان الشفقة المزيّفة والحنان الكاذب، فالعاشق “ياكو” مُصاب بمرض التصلّب العصبي المتعدد الذي يسبب له الشلل في الأطراف السفلية، ويُفضي بصاحبه إلى العمى، أما المرأة المعشوقة “سيريا” فتُعاني من ضعف البصر، ولم ترَ “ياكو” وجها لوجه، وإنما كانت تلتقي به عبر الهاتف، وقد تطورت العلاقة بينهما حتى وصلت إلى مرحلة الحب والتعلّق بالآخر إلى درجة الوله.
ولعل أبرز ما يجمعهما هو حب السينما والشغف بالأفلام العالمية لـ”جيمس كاميرون” و”جون كارينتر” وغيرهما، إضافة إلى هاجس الحرية الذي يدفعهما للتخلص من أسْر الزمان والمكان معا.
خمسة غرباء في خمسة أماكن.. رحلة الرجل المُقعد
يتلقّى “ياكو” خبرا صادما مفاده أنّ حبيبته “سيريا” مُصابة بفيروس الدم، وتحتاج بشكل مُلح إلى جلسات علاج كيميائي في منطقة بعيدة نسبيا، لذلك يقرر زيارتها للمرة الأولى والتخفيف من حدة هذه الصدمة.
قد تبدو مغامرة أي رجل سليم ومُعافى عادية، لكنها تُصبح استثنائية ومُلفتة للانتباه إذا كان الشخص المُغامر مُعاقا ومُقيدا بكرسيه المتحرك، ولا يستطيع الجلوس عليه أو مغادرته من دون مساعدة أحد المرافقين له، فكيف إذا كانت الرحلة إلى خمسة أماكن، ويساعده فيها خمسة أشخاص غرباء؟
هكذا يضعنا كاتب السيناريو والمخرج “تيمو نيكي” في قلب هذا التحدي الكبير لشخص كفيف مشلول الحركة، يدفعه الحُب الصادق لأن ينتقل من دون مُرافق إلى خمسة أمكنة، من البيت إلى سيارة الأجرة، ومن سيارة الأجرة إلى المحطة، ومن المحطة إلى القطار، ومن القطار إلى سيارة الأجرة، ومن سيارة الأجرة إلى حبيبته “سيريا” إن سارت الأمور على ما يرام.
مرض “سيريا”.. سفر بالقطار للقاء الحبيبة
ثمة مفاجأة جانبية لم تكن في الحُسبان، فقد فاز “ياكو” بمبلغ 6000 يورو بلعبة الكينو، وسيتحول هذا المبلغ إلى رصيده الشخصي خلال مدة تتراوح بين يوم وثلاثة أيام. وعلى الرغم من هذه المفاجأة الصغيرة المُفرحة فإنّ الخبر المشؤوم لمرض “سيريا” قد هزّه من الأعماق، ولا بد أن يتخلص من سجنه المنزلي، ويشعر بنوع من التحرر من ربقة الخوف من بعض الأشرار في المجتمع الفنلندي المرفّه.
يطلب “ياكو” من موظفة الرعاية التي تقوم على خدمته أن تجمع له بعض الأقراص المُدمجة التي تحتوي على أفلام “جيمس كاميرون” و”كارينتر” وتضعها في حقيبته، ثم يتصل بمحطة القطار ويستفسر عن مواعيد حركة القطارات من تامييرا إلى هامينلينا، فيأتيه الرد “مرة واحدة في الساعة حتى التاسعة مساء”، فيخبرهم بأنه أعمى ويحتاج إلى كرسي متحرّك، ويريد أن يأخذ قطار الساعة الثانية بعد الظهر، يحيطونه علما بأن هناك مقعدا متوفرا لذوي الاحتياجات الخاصة، لكنهم لا يستطيعون أن يؤمّنوا له مُرافقا خلال هذه المدة القصيرة، فيخبرهم بوجود هذا المرافق، وكل الذي يحتاجه هو مجيء سيارة الأجرة في الساعة 01:20.
يتصل بحبيبته “سيريا” من سيارة الأجرة، ويتجاذب معها أطراف الحديث، فتطلب منه أن يأخذ معه المنبّه، لكنه يخبرها بأنه لا يعمل إلاّ في المنزل، وأنه سيكتفي بالهاتف النقال في حال طلبه للمساعدة.
“إذا صرختَ في طلب المساعدة فسأقطع حنجرتك”
يحضر الإحساس بالحرية بقوة في هذا الفيلم، ففي البيت يرفع “ياكو” صوت الموسيقى ويخلق جوّا احتفاليا في منزله، وفي سيارة الأجرة يطلب من السائق أن يفتح النوافذ، ويرفع صوت الموسيقى.
وفي خضم هذا الجو الصاخب يخبر “سيريا” بأنّ قطاره سينطلق إلى هامينلينا في الثانية بعد الظهر، لا تُصدّق “سيريا” أنه يتصل من القطار ويطلب عنوانها فترسله إليه، لم يتوقع “ياكو” أنه سيُخطف في هذه الرحلة، وأن خاطفه كان يجلس على مقربة منه، ويتحدث معه حديثا عابرا عن الأفلام المشهورة وبعض المخرجين السينمائيين، وعن هاتفه النقال الذي سقط على أرضية عربة القطار.
وبينما كان “ياكو” يسأل عن الحرّاس وقاطعي التذاكر أخبره الخاطف مُهددا “إذا صرختَ في طلب المساعدة فسأقطع حنجرتك”، وحينما حاول النطق بكلمة واحدة أخرسه في الحال، وصعّد من لهجته التهديدية قائلا “سأحشركَ تحت القطار”.
أخذ اللص هاتف “ياكو” النقال وبطاقته المصرفية، وألقى نظره سريعة على حقيبة ظهره، فلم يجد فيها سوى رزمة أفلام قديمة، طلب أحدهما الرقم السري لبطاقته المصرفية مقابل أن يتركه يذهب لحال سبيله، بينما اتجه الآخر لسحب النقود.
لقد راوغ “ياكو” بعض الوقت، وكذب عليهما منتظرا مساعدة الآخرين، لكنه لم يكن يعرف بأنهما جلباه إلى منطقة معزولة في المحطة، وخالية تماما من البشر.
“هل صديقتك جميلة؟”.. حديث حميمي بين الخاطف والمخطوف
كان اللصان يعرفان بالتفصيل المنافع المادية الكثيرة التي يحصل عليها المعاق، وليس من المعقول أن يكون رصيده في البنك 50 يورو فقط، وحينما يتعرّض “ياكو” للضغط يعطيهم الرقم السري، لكن أحد الخاطفين يتوعده بأنه سيكسر أصابعه الخمسة (الإبهام، والسّبابة، والوسطى، والخنصر، والبنصر) واحدا إثرَ الآخر.
وعلى الرغم من عدوانية الشخص الأول الذي أخذ الرقم السري وذهب إلى آلة الصرّاف الآلي، فإن الشخص الثاني أخف وطأة من الأول وأكثر حميمية منه، ولا يجد ضيرا في الاستماع إليه، أو الاستجابة لبعض طروحاته وهواجسه.
يسرد له “ياكو” في غياب الخاطف الأول أنه التقى بامرأة على الإنترنت وظل يتواصل معها هاتفيا، إلى أن أحبها وتعلّق بها، وأنه قام بهذه الرحلة من أجلها بعد سماعه خبرا صادما عن إصابتها بفيروس الدم، لكنه تعرّض إلى عملية الخطف والسرقة والتعذيب، فالخاطف الأول قاسٍ ولا يتردد في ضربه وقطع حنجرته إن استوجب الأمر، أما الثاني فيخوض معه في نقاشات عدة، ويطرح عليه أسئلة كثيرة من بينها: هل صديقتك جميلة؟ فيرد عليه: إنها تُشبه “سيغورني ويفر”، وأنا في طريقي لرؤيتها.
يعود الخاطف الأول وهو يتميّز غضبا لأنه سحب 200 يورو فقط، ولديه في حسابه 6000 يورو، ولا بد من طريقة لسحبها من رصيده. يتدخل “ياكو” موضحا بأنه قد ربح هذه الآلاف الستة في لعبة الكينو، ولا بد أنها نزلت في حسابه من دون أن يعرف ذلك.
“ألم ترَ المرض يأكلني حيا؟”
تتركز قصة الفيلم على قسوة الأشرار تجاه رجل عاجز ومُصاب بأكثر من عِلة أبرزها العمى والشلل النصفي، وإذا سقط من كرسيه المتحرك فلا يستطيع أن يجلس، ومع ذلك فإن هذا الشرير يوسعه ضربا وصفعا على وجهه، ويطلب منه أكثر من مرة حسابه على الأونلاين، ويدّعي بأنه لا يعرفه، وإذا ما أراد أن يسحب مبلغا من المال فإنه يستعين بمساعِده لأنه لم يكن أعمى تماما، ولا يحسن قراءة لغة البرايل.
وحينما يشعر الخاطف باليأس يقول لصاحبه دعنا نذهب ونسحب النقود، لكن “ياكو” يحذره بأن نقل الحساب البنكي سيترك له رقم حساب الشخص المحوّل واسمه، فلا فائدة من سرقة النقود أو قتل الضحية العمياء. أمّا الشخص الآخر فقد أخذ كل الأدوية التي يستعملها “ياكو”، وسجائره المخدرة وحبوبه المهدئة للآلام.
يفكر الخاطفان بزيارة صديقته وقتلها من أجل النقود، وعلى الرغم من ضرب الكفيف وتعذيبه بطريقة قاسية، فإنه يفرغ ما في جعبته من وجع حين يقول: ألم ترَ المرض يأكلني حيا؟ لقد أخذ بصري، شلّني من الصدر فما دون. لا شيء يعمل في جسدي بشكل صحيح سوى الألم والتشنجات، وكل شخص يعاملني كرضيع، لن تحصلوا على ينس واحد، اقتلني، اقطع حنجرتي مثل خنزير.
يلتمس “ياكو” من خاطفه أن يترك له هاتفه النقال، لكن الخاطف الشرير يرميه بقوة، فنسمع وقع سقوطه على أرض صلبة. ولعل المصادفة خدمتهُ في نهاية المطاف، إذ اقترب منه كلب وراح يداعبه، وبعد قليل وصل صاحب الكلب، فأنقذ “ياكو” وأوصله إلى عنوان “سيريا” التي خرجت مدهوشة وهي ترى حبيبها “ياكو” لأول مرة، لتحتضنه في مشهد حميمي قلّما ينساه مُشاهد يتوفر على خبرة بصرية تنتصر للسينما قبل انتصارها للكلام المُنمق بلغة أدبية رفيعة.
معاناة من منظور الرجل المعاق.. وحشية البلدان المُرفّهة
لم يكن فوز فيلم “الرجل الأعمى الذي لم يرغب بمشاهدة تيتانيك” للمخرج “تيمو نيكي” مفاجئا لأي ناقد حصيف، ومتلقٍ يتمتع بالقليل من الخبرة البصرية، فلا غرابة أن يفوز بجائزة الجمهور في مهرجان البندقية لعام 2021، أو أن يخطف نجمة الجونة الذهنية لهذا العام (قيمتها 50 ألف دولار أمريكي)، وسوف ينال العديد من الجوائز في مهرجانات عالمية أخرى.
ليس نجاح الفيلم نابع من كونه عن المعاقين ويحاول أن يستدر عطف المُشاهد أو لجان التحكيم، وإنما لأنه فيلم من منظور شخصية مُعاقة يتعامل معها الناس بكل قسوة ووحشية في دولة تنتمي إلى البلدان المرفهة اقتصاديا، لكنها تفتقر إلى أبسط المقوِّمات الأخلاقية التي تحمي الكفيف والمقعد والمشلول، وتدافع عن كل الناس الذين لا حول لهم ولا قوة، وتؤمِّن لهم حياة حرة كريمة تقيهم من أذى الأشرار والخارجين عن القانون.
“تيمو نيكي”.. قصة مستعارة من حياة صديق الطفولة
لا شكّ في أن “تيمو نيكي” قد حقق رؤيته الإخراجية المذهلة التي جمعت بين رمزية الإنسان المُعافى الذي كان يمشي بخطوات سريعة في الغابة، وبين الكفيف والمُقعد المشلول “ياكو” الذي هو صديق المُخرج منذ كانا يؤديّان خدمة العلم، لكنه أُصيب بمرض التصلّب العصبي المُتعدد، وأسفر عن العمى والشلل النصفي، لكنه لم يقتل في صاحبه الرغبة في التمثيل، الأمر الذي دفع “نيكي” لأن يكتب له دورا في فيلم قصير، لكن هذا الدور سيتطور إلى بطولة كاملة في فيلم روائي طويل يحمل معنى إشكاليا بأن هذا الأعمى لا يرغب بمشاهدة تيتانيك، مع أنه يحب الأفلام النوعية بمختلف أجناسها الإبداعية.
لم تكن قصة هذا الفيلم من بنات أفكاره، لأنه استعارها من صديقه “بيتري يويكولاينن” الذي أصبح كفيفا ومشلولا، ولا تتحرّك منه إلا يده اليمنى، ومع ذلك فقد كان يسافر لوحده من دون الاعتماد الكلي على الآخرين.
هذه الفكرة طوّرها “تيمو نيكي”، وصنع منها فيلما روائيا ينتقد الأشرار والشخصيات الخارجة على القانون، أمّا أداء “بيتري بويكولاينن” الذي جسّد شخصية “ياكو” فقد كان رائعا بكل المقاييس، وهو الذي حمل عبء الفيلم على كاهله، كما أن أداء “ماريانا مايالا” مُدهشا هو الآخر، لدرجة أنها سرقت الأضواء في الدقيقة الختامية من الفيلم، على الرغم من قِصر اللقطات الجميلة التي يصعب أن تغادر ذاكرة المتلقي.