“رأس الأفعى”.. دوافع الأم المتاجرة بالبشر في الحي الصيني

قيس قاسم

يعود المخرج “إيفان جاكسون ليونغ” المحسوب على ما يُسمى بالجيل السادس من الصينين الأمريكيين في فيلمه الروائي الجديد “رأس الأفعى” (Snakehead)؛ إلى قصة مُهربة المخدرات والمتاجِرة بالبشر الصينية “تشينغ تشوي بينغ” المشهورة بلقب “الأخت بينغ”، التي ظلّت تعمل بسرية منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي حتى بداية الألفية الثالثة بين الولايات المتحدة وهونغ كونغ، وأقامت لنفسها مملكة وسط الحي الصيني في مدينة نيويورك كان من الصعب اختراقها لقوة شخصيتها وقسوتها.

صياغة التاريخي سينمائيا في مُنجز “ليونغ” تتجاوز القصة الأصلية، لتتقارب مع مشكلات جديدة لها صلة بالهجرة وأسبابها، وتنويعات على مفاهيم الأنثوية والعنف والأمومة، وبها يتجاوز أيضا نوعه الفيلمي، فهو ليس فيلم حركة (أكشن) فحسب، بل يحتوي دراما وتوثيقا ضمنيا يقترح طرح أسئلة إشكالية حول واقع الهجرة في أمريكا وتعقيداتها.

“لم آتِ إلى هنا طمعا بالحلم الأمريكي بل لاستعادة ما خسرته”

يبدأ التحديث على الحكاية الأصلية من تبديل أدوار الشخصيات والظروف الدافعة للوصول إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

 

في نص “رأس الأفعى” تُلقب البطلة بـ”الأخت تسي”، فهي قد جاءت إلى نيويورك مرتين، المرة الأولى مع طفلتها، وأثناء وصول السفينة التي أبحرت سرا على متنها داخل حاوية بضائع داهمتها شرطة الحدود، وفي محاولة منها للتخلص من قبضتهم ألقت بنفسها في مياه البحر. هي أنقذت نفسها صحيح، لكنها أضاعت طفلتها هناك، وبعد سنوات عادت إلى المكان نفسه تبحث عنها.

فقد ظلت طيلة زمن بحثها ودخولها عالم الجريمة تُردد عبارة “لم آتِ إلى هنا طمعا بالحلم الأمريكي بل لاستعادة ما خسرته”، وإلى جانبها أخرى تشدد على رغبتها الدائمة في النجاة لا أكثر، لتُمني نفسها بأسباب خوض تجربة ثانية لا تقل قساوة عن التجربة الأولى.

بيع الجسد في مواخير المنظمة.. ثمن التهريب

في محاولتها الثانية كادت “الأخت تسي” أن تقع أيضا في أيدي رجال الشرطة، لكنها تمكنت من الهروب بمساعدة مُهربين، والدخول إلى الحي الصيني في نيويورك.

وبوصولها يفتح النص السينمائي مجازا للولوج إلى عالم المهربين الصينيين والمتاجرين بالبشر، وبمقابلتها للمسؤولة عن إدارة شبكة التهريب “داي مو” يتشكل مشهد درامي من طرفين؛ امرأة شابة عليها دفع أكثر من خمسين ألف دولار ثمن تهريبها إلى زعيمة المنظمة، وبالطبع فإن طريقة الدفع المعتادة هي بيع جسد المرأة في مواخير تديرها المنظمة، مقابل تسديد الدين على دفعات طويلة الأجل.

المسؤولة عن إدارة شبكة التهريب “داي مو”

 

لم تقبل الشابة بالعرض، وسرعان ما رفضته مُعلنة تمرّدها على الطرف الثاني من المشهد “الأنثوي” النادر في تاريخ العصابات.

سلم الزعامة.. صراعات العصابات الأنثوية

تتغير الزعامة الذكورية التقليدية لعصابات الحي الصيني هنا بفعل الوقائع التي يستند إليها النص الروائي، فقد تزعمت “الأخت بينغ” في الواقع المنظمة، بينما ترتقي الشابة المهاجرة “الأخت تسي” (الممثلة شويا شانغ) في النص الروائي سُلَم الزعامة، لتصل تدريجيا الى نفس مستوى غريمتها.

يبدأ صراع شديد بين المرأتين، لكنه لا يأخذ طابع أفلام الحركة والإثارة التقليدي، وعادة تكون الشخصيات فيه جاهزة ومقسمة بين خَيّرة وشريرة.

في السياق الدرامي لمُنجز المخرج “إيفان جاكسون ليونغ”؛ تتفاعل الشخصيتان الرئيسيتان في عالم واحد، وتتشاركان في أعمال إجرامية، لكن الدوافع مختلفة، ومنها تنبع الفروقات بينهما.

“رامبو”.. ابن الزعيمة يجد منافسه العنيد

يقرب “رأس الأفعى” المشهد الخاص بعالم الجريمة الجاري في الحي الصيني في نيويورك بطريقة سلسة، فهو لا يداهم المشاهد بأحداث متلاحقة وعنيفة تقطع الأنفاس، بل يميل إلى تسريب ما يجري فيها عبر تطور الشخصية الرئيسية نفسها.

ابن زعيمة المنظمة “رامبو” الذي لا تقل قسوته عن قسوة والدته

 

إنها الشخصية القوية الرافضة لبيع جسدها، أو نسيان السبب الذي جاءت من أجله، فقد خلقت لها عداوات ومتاعب مع ابن زعيمة المنظمة “رامبو” (الممثل سونغ كانغ) الذي وجد فيها منافسا له، ومعاندة لما يريد فعله بها من دون إرادتها، كما أثار تقريب الزعيمة لها حسد وغيرة بقية النساء المتورطات في عالم الدعارة والتهريب.

لقد وجدت فيها الزعيمة شخصية متماسكة يمكن الاستفادة منها لاحقا، لهذا رفضت طردها، ومنحتها بدل ذلك فرصة لإنجاز أعمال صغيرة في البداية حتى تبقيها أمام أعينها وضمن دائرتها.

مزيج الفرح والحزن في قلب الأسيرة.. لقاء في الشارع

اشتغلت الشابة مساعدة طباخ في المطبخ المكلف بتزويد بيوت أخرى في الحي بوجبات طعام، فقد وجدت في “الشيف زراب” (الممثل ياسين جومباي) رجلا صالحا مثلها عليه تسديد ديونه بالعمل الشاق والقبول بكل ما يطلب منه، لكنه يملك قلبا طيبا، يريد جمع بعض المال ليخلص به عائلته ويساعدها للمجيء إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

إحساسها بحاجته وحرصه على عائلته عزّز بحثها المضني عن طفلتها كلما تسنى لها الوقت، فبالمصادفة تتعرف عليها من بعيد في أحد شوارع المدينة وقد كبرت وتحسنت حالها، حيث عرفت أن ابنتها قد تبنتها عائلة ميسورة، وأنها مرتبطة برجل يريد الزواج منها. حالة ابنتها بعثت في نفسها الارتياح والحزن في آن واحد.

 

أضحى اللقاء بينهما شبه مستحيل ما دامت أسيرة عصابة التهريب، وعليها دفع كل ما في ذمتها من ديون كبيرة للتحرر منها. مشاهد تقليص حجم الدين مقابل العمل المرهق تُنقل ببراعة صنعة سينمائية بالأرقام، ضآلتها تولّد عند المُشاهد إحساسا باستحالة مقابلة الأم لابنتها قريبا.

تنظيم عمليات إطلاق الأسرى.. خطة تنال ثقة الزعيمة

نقل الطعام إلى البيوت أوصل البطلة إلى حقيقة ما يجري فيها، فكل بيت منها يزدحم بمهاجرين لا يسمح المهربون لهم بالخروج منه، إلا إذا جاء قريب لهم ودفع المبالغ المطلوب منهم تسديدها. أحوالهم بائسة، فهم يتعرضون ليل نهار لاستغلال جسدي ونفسي فظيعين.

أما النساء فعليهن دفع ثمن بقائهن بالعمل في المواخير التي تملكها الزعيمة وتديرها بمساعدة ولدها، والرجال عليهم البقاء سجناء في المنازل بانتظار اتصال أهاليهم بهم، ودفع الفدية المطلوبة.

المتنافستان على زعامة مملكة الجريمة الزعيمة “داي مو” وخلفها “الأخت تسي”

 

اقترحت الشابة على الزعيمة العمل على تنظيم عمليات إطلاق سراحهم بالاتصال بأهاليهم، وترتيب عمليات دفع الديون سرا، وقد أتقنت عملها وحازت على ثقة زعيمتها، وفي الأثناء كانت تقدم خدمات مجانية للضعفاء منهم دون علم العصابة، مما وفر لها نوعا من التعاطف والحماية اللاحقة.

تمرد العشيقة.. فرصة نقص الديون وزيادة الثقة

أخطاء وتهوّر ابنها دفع الزعيمة “داي مو” إلى اعتمادها أكثر فأكثر على الشابة التي راحت تراقبها وتسعى لمعرفة سر حماستها للعمل، فقد أدركت بحِسّها كأم أن الشابة تريد لَم شمل عائلتها، فأخذت تعمل على ذلك الخط، وتزيد من عطاءاتها لها.

بدأت الديون تقل والثقة تزداد مع الوقت، وتتوج بحادثة تمرد عشيقة ابنها التي أرادت العمل لصالحها خارج إطار المنظمة.

بالصدفة تنجح “الأخت تسي” بكشفها، فتقرر الزعيمة تصفيتها بنفسها ذبحا. مشهد يعكس قساوتها الداخلية وصرامتها، وبالمقابل يفتح إخلاص “تسي” لزعيمتها الفرصة أمامها لعرض فكرة خوض تجربة تهريب مخدرات وبشر بنفسها خارج الولايات المتحدة الأمريكية.

تجمد اللاجئين.. عاقبة الطمع ومنافسة العصابات

يفتح سفر “الأخت تسي” إلى دول شرق آسيا وترتيب عمليات تهريب مخدرات منها إلى الحي الصيني؛ أمام السرد السينمائي دروبا تتيح لحكاية الفيلم الغوص عميقا في ثنايا عمليات تهريب البشر والمخدرات، وفي كل واحدة منها تتكشف انتهاكات المهربين وجرائمهم.

محاولات “الأخت تسي” لتهريب مهاجرين مساكين كانوا ضحايا أطراف مُتنافسة على الاتجار بالبشر

 

في مشهد واحد تتجمع عينات منها، إذ تظهر شاحنة بضائع مجمدة قادمة من كندا، حشر في داخلها لاجئون، وكُلفت هي بجلبها عند وصولها لبلد أمريكي لاتيني إلى داخل الحي الصيني. لكن طمع “رامبو” ودخوله على خط العملية أدى إلى موتهم متجمدين داخلها.

في تكملة للمشهد المعتم -الذي يشبه أغلب مشاهد الفيلم المصورة بعتمة ظاهرة- تداهمها مجموعة مسلحة تتنكر بزي رجال شركة أمنية، لكن يتضح أنها في الحقيقة تابعة لعصابات إجرامية تريد أخذ حصتها من عملية التهريب، وعلى حساب مهاجرين مساكين غالبا ما يكونون ضحايا أطراف متنافسة لا تعرف الرحمة.

كل تلك المشاهد والتفاصيل الدرامية الدقيقة تنقل بأسلوب سينمائي بارع، يجمع بين إتقان الحرفة وعمق المضمون.

فلسفة التبرير للجريمة.. تساؤلات الفيلم

النجاح في المهمات الخطيرة الموكلة إليها حررها من الديون التي في ذمتها، غير أنها شجعتها بالمقابل للعمل لنفسها. لكن انغماسها الكلي وتورطها يطرح سؤالا عن الحدود الفاصلة بين ارتكاب الجريمة ومبرراتها. فهل بحثها المشروع عن ابنتها ومحاولة استعادتها يجيز لها الحق فيما تقوم به رغم بعض الجوانب الإيجابية فيه؟

يعقد السرد السؤال حين يُظهر “الأخت تسي” وهي تساعد على تحرير بعض أسرى الشقق البائسة، وكذلك شراؤها مطعما لزميلها “زراب”.

الشرطة تعتقل الزعيمة  “داي مو”

 

لا تقدم الأحداث التالية جوابا شافيا، لكن انعطافة حادة في مسارها تجلب معها بعض الأمل، فغضب زعيمة العصابة من تفردها واستقلاليتها عنها يدفعها للبحث عن ابنتها لتبقيها أسيرة عندها، وبها تستطيع أن تلوي ذراع منافستها الجديدة.

“المرة الأولى تركتك من أجل نفسي، وهذه المرة من أجل سعادتك”

يسمح التوتر الحاد بين المتنافستين بدخول أجهزة الشرطة على الخط، فتستجوب الشابة بنفس الأدوات الضاغطة عليها، وهي ابنتها، بينما تتعهد المحققة بضمان سلامتها مقابل تقديم اعترافات وأدلة حاسمة على الجرائم التي تجري في الحي الصيني.

بهذا الحد يضع صانع الفيلم الجميل والمتشعب المعالجات نهاية قريبة له، لكنه لا يريدها تقليدية، ففي ذلك مَفسدة له، لهذا يقترح خاتمة مؤثرة يلخصها مشهد ختامي تظهر فيه الأم وهي تراقب من بعيد مراسيم زواج ابنتها من دون أن تقترب منها، أو تكشف عن حقيقة شخصيتها، وذلك خشية من إفساد حياتها الحريصة عليها.

بنبرة مؤلمة وحزينة تكرر في داخلها عبارة ربما يتخيل للمشاهد أنه يسمعها همسا: المرة الأولى تركتك وحيدة من أجل إنقاذ نفسي، أما هذه المرة فأتركك من أجلك أنت، من أجل سعادتك.