“قسوة الحياة”.. أنين اليتيمة المكافحة التي جارَ عليها المجتمع

المصطفى الصوفي

مدينة سلا التي لا تفصلها عن العاصمة الرباط سوى ضفاف المحيط الأطلسي ووادي أبي رقراق من الجهة الشرقية، هي مدينة السحر والمتناقضات والسينما، حيث تحتضن كل عام مهرجانا دوليا يطلق عليه اسم المهرجان الدولي لفيلم المرأة، وذلك تكريما لهذا الجنس اللطيف المبدع.

ظل وادي أبي رقراق محط اهتمام وإلهام للكثير من المخرجين والممثلين، فهو ينبع من مرتفعات مطرزان القريبة من منطقتي الخميسات وخنيفرة القريبتين من جبال الأطلس المتوسط (على امتداد 240 كيلومتر، يصب في المحيط).

الممثلة والكوميدية بشرى إهريش، والمخرج والممثل عبد الكبير الركاكنة، والممثل والمخرج حميد زيان، وغيرهم كثر وجدوا في الوادي فضاء للتأمل والبحث عن خلاص لمشاعر فوّارة وعاجزة، وشخوص تعذبوا في أعمال عايشوها بحثا عن الحُرية والسلام.

محمد كريم أولمدني مخرج سينمائي من ذوي الاحتياجات الخاصة، وهو واحد من أبناء مدينة السحر والسينما والمتناقضات، ولم تعجزه حالته الجسدية عن عشق السينما وإخراج عدد من الأفلام التي تُفصح عن الكثير من المتناقضات لهذه المدينة التي تضم أكبر ساكنة في المملكة بعد مدينة الدار البيضاء كما يقول المتتبعون.

ليس كل ضوء مُشع بشوارع حي السلام في سلا يوحي بأن الدنيا نور وبخير، فما يُعاش في أحياء الواد، والانبعاث والرحمة والشيخ المفضل والدار الحمراء وغيرها من الأحياء الشعبية؛ يفصح عن فيض مكابدات وجراح ثخينة ومعاناة وقسوة حياة.

“قسوة الحياة”.. مشاركات محلية ودولية وجوائز

قسوة الحياة التي تتلون من حال إلى حال جرَّت كريم أولمدني إلى إخراج فيلم بهذا العنوان العريض، لتكون المرأة فيه عصب المشاهدة، ومحور فرجة مؤثرة يذرف فيها الجمهور الدموع عند الختام.

 

فيلم كريم أولمدني شارك في الآونة الأخيرة في عدد من المهرجانات السينمائية الدولية، لعل أبرزها مهرجان “الشاشات السوداء” في العاصمة الكاميرونية ياوندي، والدورة الأخيرة للمهرجان الوطني للسينما والبيئة بأغادير المغربية، والتي اختتمت شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي 2021.

كما شارك في النسخة الأخيرة من مهرجان” مزدة” الدولي للأفلام القصيرة بليبيا، وفي النسخة الأخيرة من مهرجان القدس السينمائي الدولي (عُقد من 29 نوفمبر/تشرين الثاني إلى السادس من ديسمبر/كانون الأول الجاري)، كما ترتقب مشاركته في مهرجان الدشيرة الدولي للفيلم القصير بالجنوب المغربي من 19-21 ديسمبر/كانون الثاني الجاري.

تُوج الفيلم بجائزة أفضل إخراج خلال الدورة الخامسة من مهرجان سينما المجتمع ببئر مزوي بمحافظة خريبكة، وهي الدورة التي حملت اسم الناقد السينمائي الراحل نور الدين الصايل، وهو المدير السابق لمؤسسة مهرجان السينما الإفريقية الذي يعد من أقدم المهرجانات السينمائية في المغرب وفي القارة الأفريقية.

ما بعد الرحيل.. أنين البطلة على قبر والدتها

“قسوة الحياة” حكاية يرويها المخرج للمشاهدين بطريقة تقنية لا تخلو من إبداع جذاب، فخيوط حبكتها تدور حول شابة طموحة عانت ويلات ظروف صعبة بعد رحيل والدتها إلى دار البقاء.

يستهل المخرج وكاتب سيناريو هذا الفيلم أولى اللقطات بصوت ناي حزين، حين تزور البطلة قبر والدتها، فتذرف دموع الفراق، والوحدة القاتلة والقلق يساورانها، ثم ترحل بلا اتجاه.

لعب أدوار الفيلم البطلة نورا حمدان والممثلان القديران سعاد الوزاني وفؤاد سعد الله،  فضلا عن مريم إدعيكل وحمزة العباسي ويوسف بويع، ثم شفيق نظيف وغيثة عميد ويوسف النية.

ولإضفاء مسحة درامية حزينة وشاعرية على الفيلم استلهم المخرج من المكتبة الشعرية العربية بيتا للشاعر الكبير جبران خليل جبران يقول فيه:

وقاتل الجسم مقتول بفعلته

وقاتل الروح لا تدري به البشر

بطلة فيلم “قسوة الحياة” نورا حمدان تتأمل مصيرها المظلم بجانب قبر والدتها

 

في هذا المعطى يُبدد المخرج كثيرا من التأويلات وسوء ظن الإنسان بأخيه الإنسان، خاصة ظروف وحيثيات الوفاة، فالله تعالى هو العالم بأحوال كل مخلوق، في إشارة رمزية إلى قاتل الروح وقاتل الجسد.

قراءة ما بين الإطارات.. دلالات الفيلم الرمزية

يمكن أن نطرح سؤالا جوهريا عن ما يريد أن يبوح به المخرج من خلال هذه الإشارات الشعرية والرمزية، وما المقصود بكل هذه الإيماءات الفنية التي تزاوج بين الشعري والسينمائي، وبين الحياة بقساوتها، وبين موت الجسد وموت الروح في الفيلم.

إنها أسئلة فلسفية لا تحتاج إلى أجوبة في بعض الأحيان، لكن تكون لها تأويلات كثيرة وعلامات بارزة، وهو ما يجعل فيلم “قسوة الحياة” فيلما عميق الدلالة مهما كانت نهايته البارزة، لكنها تبقى مجرد إشارة رمزية يمكن فهمها وتوصيف إسقاطاتها على مواضيع وحالات مشابهة.

إن موت الأم في الفيلم ويُتم البطلة يمثلان علامة سيميائية، كما أن طرد الفتاة ومحاولة استغلالها وهي تؤدي عملها على أحسن ما يكون -خاصة في المقهى- تبقى من وجهة نظرنا رؤية فنية لها كثير من زوايا النظر، والبحث عن أجوبة مقنعة في مجتمع مادي لا يؤمن بالعواطف ولا بالتوسلات.

ومما أضفى على الفيلم طابعه الدرامي القوي هو اختيار المخرج لموسيقى حزينة أشرفت عليها الفنانة “أنيستا لوسيلا”، حيث للناي أنين حزين يمتد في الروح كحد السكين، ولأنين الممثلة نورا حمدان صوت مبحوح وهي تتوسل إلى الجيران لكي يرحموها حتى إكمال سداد ثمن الإيجار بدل طردها من بيت والدتها.

الممثلة نورا حمدان تذرف الدموع متوسلة العائلة بعدم طرها من البيت

 

جعل مخرج الفيلم الكاميرا تركز على عدد من الإكسسوارات التي قد تبدو للمُشاهد عادية لكنها مقصودة، والتمعن فيها يبرز الترابط الذي يوجد بين دلالاتها، والمحور العام الذي يطرحه الفيلم الذي يبقى نصا فنيا وإبداعيا قابلا للقراءة والتأويل من عدة زوايا وجوانب. فالمقبرة بحمولتها الاجتماعية والفكرية تحمل علامات كثيرة لنهاية الحياة ومآل كل شخص مهما علا شأنه، وبالتالي فتصرفات بني آدم وتعامله وتسلّط الإنسان لا بد له من جزاء ونهاية، والباقيات هي الصالحات.

كما أن النباتات اليابسة الذابلة في المقبرة التي ركزت عليها الكاميرا لها هي الأخرى معان ورموز، فصراع الطبيعة وقساوتها خلال المواسم المتعاقبة لا بد له من نهايات رغم الربيع المزهر والشتاء الممطر.

مشهد الطرد.. ضربة قاسية تقصم ظهر البطلة

تصارع بطلة الفيلم الحياة لوحدها دون معين، فهي تخرج للبحث عن عمل، وتجده في مقهى، لكن الزبائن لا يحسنون التصرف، فيضطر صاحب المقهى لطردها إرضاء لزبائنه، فتسودّ الحياة في وجهها من جديد.

لدى عودة اليتيمة إلى المنزل، وقبل الوصول إلى المنزل الفخم، وهو عكس الدار الأخرى/المقبرة تتطلع بعيونها إلى المنزل، ترافقها الكاميرا وكأنها تقول الشيء الكثير عن أهله بتصرفاتهم وتعاملهم.

كما تمر البطلة بالقرب من سياج حديدي طويل مع إبراز قليل من بياض سيارة مركونة، وفي ذلك تلميحات للقيود التي ستكبل أحلام اليتيمة بعد فقدان والدتها بعيدا عن حياة بيضاء بالكامل، وهو بالفعل ما حصل في المستقبل.

هذه الإشارات المشهدية تتأكد مباشرة حين تريد البطلة الولوج إلى بيتها، لكنها تصطدم ببنت مالك الدار التي تنهرها وتطالبها بأداء واجب الإيجار الشهري، ثم تخطف منها المفتاح، وهنا تتعقد الأمور بشكل كبير، وتتضح النية الشريرة لدى ابنة صاحب المنزل المستأجر.

أفراد العائلة التي استأجرت عندهم اليتيمة نورا حمدان يقومون بطردها ورمي أغراضها في الشارع

 

يتفق أفراد العائلة التي تستأجر لليتيمة المنزل على إخراجها بالقوة ورمي أغراضها في الشارع العام بلا رحمة، بعد أن سرقت منها بنتهم أجود الملابس، ودون أن ترق قلوبهم لتوسلاتها ودموعها.

أمام هذا الوضع الصعب تجد اليتيمة نفسها وجها لوجه أمام شراسة مجتمع يستغلها بشكل فظيع، تدرف الدموع لحالها، تتذكر والدتها وحالتها، تسير شاردة الذهن دون أن تدري من أين تأتيها ضربة النهايات.

تعرية الواقع الاجتماعي المرير.. أسئلة النهاية

يمكن أن يتساءل البعض عن نهاية القصة الفيلمية كما أرادها المخرج، فهل هي تعبير صريح عن انتقام من الجسد والروح، أم جزاء لمن ارتكب الخطيئة وهو غير المسؤول عنها وسط مجتمع تتكالب فيه المصالح وتطغى الماديات على العواطف والإنسانية؟

نهاية البطلة الدرامية التي تعرضت لحادثة سير قاتلة، هل هو محاولة لنقل الواقع كما هو بلا مساحيق زائدة، أم رغبة في إشراك الجمهور في هذه المأساة، أو نقل رغبة الكثيرين من المعذبين في الأرض الذين يفضلون الرحيل بدل العذاب، علما أن الأعمار بيد الله؟

إنها أسئلة جوهرية كثيرة تُحاول أن تُعرّي الواقع المرير الذي تعيشه عائلات كثيرة بسبب الفقر وشظف العيش وشراسة أصحاب النفوذ والأملاك العقارية، والذين لا تهمهم الدموع ولا العواطف بل كل ما يهمهم هو الماديات.

مأتم حزين على وقع الناي.. قسوة الصورة السينمائية

يصدح ناي الأنين والحزن العميق في محاكاة فنية صورية تعتمها الآهات في مأتم جنائزي صامت، فيطرح السؤال الشعري كما خطّه قلم جبران خليل جبران: “هل قاتل الجسم مقتول بفعلته، أم قاتل الروح لا تدري به البشر؟”

كان مخرج “قسوة الحياة” قاسيا مع نفسه، ومع المشاهد في نفس الوقت، فهو لم يقدم إشارات تفي بظلال الأمل والصفاء في الحياة رغم صعوبتها، لكنه حاول أن يقدم الواقع كما هو، ويوقع على قضية تعيشها عائلات كثيرة.

تجسدت قوة الفيلم في أداء ممثليه، فقد اختار المخرج الممثلين المقتدرين سعاد الوزاني وفؤاد سعد الله لأداء دور أفراد العائلة التي كانت تحتضن الأم وابنتها، وقد أظهرا أن القسوة الزائدة في التعامل مع اليتيمة بعد رحيل أمها هي عملية مقصودة أراد بها المخرج إبراز قوة هذه القضية الصادمة.

الممثلة سعاد الوزاني رفقة زوجها في الفيلم الممثل فؤاد سعد الله في مشهد طرد البطلة نورا حمدان من البيت

 

لم تكن صدمة البطلة متوقعة من هذه العائلة التي كانت تظن أنها أسرتها الثانية، ويبدو ذلك من خلال تسمية سعاد الوزاني بـ”خالتي”، وهي تتوسل إليها لثنيها عن قرار طردها، لكنها بالمقابل تنهرها بعنف دون رحمة لتوسلاتها حتى لا تبيت في العراء، وذلك بإيعاز من ابنتهما التي تغار منها.

وفاة الأم.. بداية انكشاف الوجه القبيح للعالم

تحاكي حالة البطلة في الفيلم حالات كثيرة في المجتمع تعاني من سوء التصرف مع الجيران ومالكي دور الإيجار، فالماديات غلبت على العواطف، ومن لا يدفع عليه بالرحيل وترك المكان شاغرا للآخرين.

فيلم “قسوة الحياة” حاول تركيز المعطيات وإيجاز كثير من المواقف وتكثيف المعاني، لكن موقف طرد اليتيمة من بيت أمها الذي تستأجره بمقابل مادي على رأس كل شهر يبقى مشهدا قاسيا يجسد قمة عدم الإنسانية في مجتمعنا الحالي.

الحياة في الفيلم بلا معنى من غير الأبوين، وخاصة من غير الأم التي تظل حاضنة الأبناء مهما كبروا، لكن بدونهما يكون الشخص عرضة للضياع والتشرد وقتل الجسد والروح معا.

موقف طرد اليتيمة من بيت أمها الذي تستأجره بمقابل مادي على رأس كل شهر يبقى مشهدا قاسيا يجسد قمة عدم الإنسانية في مجتمعنا الحالي

 

استسلمت بطلة الفيلم في نهاية المطاف لقدرها بحثا عن الطعام والأمان والمال لتسديد ثمن الإيجار، وتوفير بيت يقيها شر الذئاب ومكائد المقاهي في المدينة، كفضاء شاسع لا يعترف برحماك يا خالتي وعطفك يا ابن العم.

استسلام البطلة.. مأساة حقوق المرأة في العالم العربي

كانت مشاهد الفيلم متوالية بطريقة تسرد الحدث الفيلمي بطريقة بديعة ومركزة بكثير من التشويق الشاعري، وهو ما جعل المشاهد ينجذب إلى تراتبية المعنى السينمائي والبناء الدرامي الممتع.

قوة السيناريو أعطت لمشاهد الفيلم نوعا من التسلسل الفرجوي السلس والمؤثر في الوقت نفسه، وهو ما أسهم بشكل كبير في اندماج المتلقي في المشهد العام الذي يطمح المخرج في الوصول إليه بطريقة فنية لا تخلو من مكر فرجوي حزين، وهو إقناع الجمهور بالقضية وبتأثيراتها السلبية على المجتمع.

هكذا تتحدد شخصية البطلة التي تشكل نموذجا لفتاة كريمة تريد العمل بشرف، لكنها في الأخير تستسلم لسلطة الرجل وقسوة الحياة، في حين يشكل الزوج والزوجة وابنتهما نموذجا للمتسلطين على الضعفاء، خاصة النساء اللواتي لا حول لهن ولا قوة.

في السياق نفسه شكلت شخوص المقهى نموذجا لرجال يستغلون ضعف المرأة والنيل منها بشتى الطرق، وتلك إشارة عميقة لما يقع في سراديب مجتمعنا المظلمة، حيث أن فئة عريضة من النساء يشكلن هدفا سهلا للاستغلال.

البطلة تشكل نموذجا لفتاة كريمة تريد العمل بشرف، لكنها في الأخير تستسلم لسلطة الرجل وقسوة الحياة

 

بهذا يفتح الفيلم قوسا على قضايا حقوق المرأة في المجتمع، وما وفرته الحكومات العربية والمنظمات من حماية منطقية للمرأة على مختلف الأصعدة، خاصة على مستوى السكن والعمل، وحمايتها من ظاهرة التحرش الجنسي، وغيرها من القضايا والظواهر في مجتمع ذكوري متسلط.

صراع عوالم الخير والماديات.. ثقافة السينما

عموما يمكن التأكيد على أن فيلم “قسوة الحياة” بلغ حد التماهي مع الجمهور من ناحية المضمون، في حين شكّل المبنى أسلوبا وازنا في الفرجة السينمائية المشتهاة التي تتخذ من اللغة البصرية والتسلسل الدرامي علامات لفرجة فيلمية جميلة.

هكذا جمع المخرج كريم في قسوة الحياة بين شاعرية الصورة والتعبير المشهدي، وبين أنين الروح والجسد، وذلك في قالب سينمائي مُشوق ينتصر في الأخير لإحساس عميق بسحر السينما، مهما كانت المشاهد دراماتيكية وجنائزية.

نهاية البطلة هو في الأساس بداية لعالم جديد تقترحه ثقافة السينما، وصورة عاكسة لما يجب أن يكون، ويُكرس في ظل الظلم الذي تتعرض له المرأة في المجتمع والإنسان بشكل عام.

إنه صراع حقيقي بين عالمين؛ عالم الخير الذي يبحث فيه الإنسان عن كسرة خبز بعرق الجبين وبشرف، وعالم لا يؤمن إلا بالماديات، ويجد في استغلال الضعفاء وعدم التعاطف معهم سبيلا لتحقيق مكبوتاته وأمراضه دون أن يدرك أنه في الجانب الآخر قد يتسبب في كثير من الحوادث، فتودي بحياة بؤساء وأبرياء ومساكين.