“ألين”.. عدسة إنسانية تعيد تجسيد النجمة العالمية “سيلين ديون”

ندى الأزهري

مشاهدة فيلم يستوحي سيرة المغنية الجماهيرية “سيلين ديون” (1968) لمن لم يسمع في حياته أغنية لها إلا صدفة حين تُذاع في أماكن عديدة أو في أفلام؛ سيكون الفضول دافعه أكثر من الإعجاب.

فضول للاطلاع على الكيفية التي سيتناول بها فيلم حياة هذه “المرأة الفنانة” الكندية الشهيرة عالميا، الأكثر انتشارا بين قريناتها، التي تجاوزت مبيعات إسطواناتها 200 مليون، تلك التي غنّت في افتتاح الألعاب الأولمبية أغنية “قوة الحلم” (The Power of the Dream) في أتلانتا 1996، وفي حفلات كالأوسكار عام 1997، وباتت أغنيتها “سيستمرُّ قلبي” (My Heart Will Go On) الأشهر بعد اختيارها لفيلم “تيتانك” (Titanic) الذي أخرج عام 1997.

إنها “سيلين ديون” التي اعتبرت منذ تسعينيات القرن الماضي من الأصوات الأكثر تأثيرا في موسيقى البوب، ودُعيت للغناء في كل أنحاء العالم.

 

سِجل حافل كهذا تصعب الإحاطة به، لكن إن كان فيلم “ألين” (Aline) للمخرجة الفرنسية “فاليري لومرسييه” (2021) يمر سريعا على جوانب عدة ومراحل هامة من مسيرة “سيلين” الفنية، فهذا لتفضيله الاهتمام بقصة الحب العاصفة التي جمعتها بمدير أعمالها، وفيما بعد زوجها “رينيه أنجِليل”. فالفيلم إذن قبل أن يكون قصة صعود وطموح هو حكاية حبّ بين “ألين” و”غي كلود”، كما كانت بين “سيلين” و”رينيه”.

“ألين”.. محاكاة درامية تمنح الحرية للخيال السينمائي

“ألين” هي “سيلين”، لكن اختيار المخرجة تغيير عنوان الفيلم، وبالتالي اسم المغنية العالمية؛ كان للتصرف بحرية أكبر في التعامل مع حياتها، وذلك لمنح الفيلم أبعادا أكثر عمومية وأقل التصاقا بسيرة تفرض تقييدا على بنائه.

أول هذا التقييد يأتي من الفترة الزمنية الكبيرة التي يجب أن يغطيها، والتي تفرض العودة إلى ماضي أسرة “ديون”، وفي مرحلة لاحقة الالتزام بظهور بعض أغنياتها الشهيرة في وقت محدد وملاءمة أحداث الفيلم معها.

لكن المخرجة مالت إلى وضع الأغاني خارج سياقها الزمني لتلائمها مع السرد الفيلمي، ورغبت بمنح الخيال دورا في فيلم واقعي، فتلاعبت مع الواقع واخترعت تفاصيل في حياة المطربة لتضيف رومانسية على بعض المواقف، كوضع خاتم الخطوبة في الحلوى، أو تصميما على بعضها الآخر، كارتداء “ألين” لحذاء أمها القديم عند مقابلة المنتج.

آل “ديون”.. طفولة في أسرة تعشق الغناء والموسيقى

في فيلمها السادس هذا تغطي المخرجة “لومرسييه” فترة تمتد من بداية الثلاثينيات وحتى عام 2016، وقد اختارت أسلوبها الخاص المكثف الذي يشدّد على عناوين أولى دون الدخول في تفاصيل، لا سيما عن أسرة “سيلين” قبل قدومها، فهي الأخيرة بين 14 من الإخوة، وكانوا كلهم كبارا حين جاءت على غير توقع أبوين كانا قد بدآ بالهرم.

 

في أسلوب بسيط محلّى بخفة روح تتسم به هذه الممثلة والمخرجة الفرنسية، رسمت لوحة لعائلة بلهجتها الخاصة (لهجة مقاطعة كيبيك الكندية التي تتحدث الفرنسية)، وذلك بارتباطها المثالي وسعيها للعيش.

أسرة فنية تعشق الغناء والموسيقى وتقضي أيامها في محاولات إقامة حفلات بسيطة لا تدرّ عليها ما يسد متطلباتها الكثيرة، لكن الفيلم لا يتوقف عند الاحتياجات، بل يعرض أسرة سعيدة هنيئة.

منذ طفولة “ألين” تكتشف الأم صوتها الجميل وتبدأ بإبرازها في حفلاتهم المتواضعة، ثم تصرّ بمساعدة الأخ الكبير على تسجيل شريط لها وإرساله إلى شركة إنتاج كبيرة يديرها “غي- كلود” (الممثل الكندي سيلفان مارسيل).

إنقاذ المنتج من الاعتزال.. أولى خطوات النجاح

هنا بدا السرد وكأنه يسير على خطوات هذا النوع من الأفلام، بناء سينمائي قائم على صعود موهبة، وكل ما تحفل به عملية الصعود من مشاق وعوائق، ثم الوصول وأتعاب الشهرة.

لكن فيلم “ألين” لا يُبنى على هذا تماما، إنه يمهّد في البدء لولادة النجمة في وسط عائلي يتمتع بخصوصية. من الجدين إلى الوالدين اللذين أنجبا كثيرا من الأطفال، طريقتهما البسيطة في العيش، وهذا الجوّ الذي تطغى عليه المحبة والترابط والسعي للنجاح.

عائلة بسيطة يتبدى هذا في الحوار بين أفرادها الذي لا يبدي ثقافة الكتب، بل خبرة الحياة والقوة في ردود الفعل على الطوارئ، كهذا التقبل المرح لقدوم الطفل الرابع عشر. جاءت “ألين” والتحقت بعائلة كبيرة في العدد والسن، وحين بلغت خمس سنين بدأت الغناء، وفي عامها الثاني عشر ذهبت لمقابلة منتج الموسيقى الشهير وجابهته دون رهبة.

 

تنجح الطفلة بإقناع المنتج، وسيفعل كل شيء لإنجاحها، لقد دخلت حياته في اللحظة التي كان فيها على وشك الاعتزال، فاكتشفها وأنقذته. رهن منزله لينتج لها أول ألبوم، ثم يتركها لتكبر، وتبني نفسها وتتعلم الإنجليزية لتستطيع الغناء بها أيضا، مما سيفتح العالم أمامها، وطنها أولا ثم الولايات المتحدة فبقية الكون.

حب مدير الأعمال.. وجه آخر لشخصية سطحية مرحة

لم تتوقف المخرجة عن إظهار شخصية “ألين” المرحة بشيء من الخفة والسطحية، ولم تخلُ نظرتها إليها من نظرة هؤلاء الذين لم يحبوا المطربة بسبب أسلوب أدائها الخاص، أو لهجتها أو انفعالاتها المثيرة للابتسام أحيانا.

في هذا نجحت بتقديم شخصية يمكن أن يجد فيها المحبون وغير المحبون مبررات لمشاعرهم، سواء أكانت إيجابية أم سلبية تجاه “سيلين ديون”، فهي أحيانا -ولا سيما في بداية شهرتها- تثير نفورا بذوقها في اختيار الملابس وبأدائها الانفعالي، لكن أيضا هي أحيانا بصوتها الجميل وبعض أغنياتها الحلوة وعاطفتها وحنانها نحو أسرتها تثير التعاطف.

ألين واعترافها بالحب لمدير أعمالها غي كلود الذي يكبرها بأكثر من ربع قرن

 

غير أن أكثر ما يقرّب الشخصية من المشاهد هو هذا الحبّ العظيم الذي عبرت عنه منذ شبابها الأول نحو مدير أعمالها الذي يكبرها بأكثر من ربع قرن، وهذا الثبات في مشاعرها ومواقفها، وهذا الإصرار على قصة حبها أمام أسرتها الرافضة، وعلى الحصول على أطفال ولو بصعوبة، ثمّ هذا التمسك بأسرتها وعدم انجرارها إلى الشهرة وحياة النجوم.

قصة حب صامدة في وجه السخرية.. بعد الطموح

أبدى الفيلم عاطفة جياشة لدى المغنية في عدة مشاهد، في محاولاتها الدائمة لإقناع أمها بقصة حبها، أمها التي كانت تأمل لها بزوج شاب لا رجل مطلّق له أطفال. وفي تعلقها بأطفالها الثلاثة، حيث كانت تهرع إليهم بمجرد انتهاء الحفلة، في اكتفائها بمحيطها، فهي كما ظهرت في أحد المشاهد لا تعرف شيئا عن الخارج، وكأنها كانت تعيش في فقاعة اختارتها بنفسها، لهذا كانت صدمتها مروعة بعد وفاة حبيبها وزوجها، فكأنها طفلة كان عليها مواجهة العالم من جديد.

هذا ما أكد عليه الفيلم، فهو لم يبدِ الكثير عن الشخصية كمغنية، بل عن الشخصية العاشقة.

صورة تجمع ألين مع عائلتها الكبيرة يوم الزفاف

 

لم تظهر مشاهد من تحضيراتها مثلا لأي حفل، ولا تعاملها مع موسيقيين أو مُلحنين، ولا هذه المشاعر التي تنتاب الفنان قبل الحفل. كانت المشاعر التي ركز عليها الفيلم قلقها على أطفالها حين تركها لهم من أجل الحفلة، وتعلقها العميق بزوجها، وعدم تغيرها وبقاؤها منذ شبابها الأول مع نفس الرجل في عالم يجد غرابة في هذا، ووقوفها بصلابة أمام سخرية الآخرين من حبهما والفارق في العمر، ومن كل ما فعلاه معا لإنجاب الأطفال وللنجاح في العمل.

لقد أدركت وهي الطموحة أن نظرته كانت بعيدة.

أيام الطفولة.. صبغة خيالية من السينما الأسطورية

في توزيع الأدوار اختارت المخرجة خيارا شديد الغرابة لتحكي عن طفولة “ألين”، إن رآه بعض مبتكرا فإنه في الواقع صعب الاحتمال.

خلال كل مشاهد طفولة “ألين” كان وجهها هو الوجه الذي ستكونه عند كبرها مع بعض التعديلات، فـ”فاليري لومرسييه” المخرجة التي مثلت الدور أيضا قررت لعب الدور منذ الطفولة، وقد ساعدتها أحيانا مؤثّرات تقنية مُعقدة مثل تلك التي استخدمت في فيلم “سيد الخواتم” (The Lord of the Rings)، أو بسيطة بالاعتماد على الأحجام، كأن تجلس على كرسي ضخم لتبدو صغيرة، أو نوعية اللقطات كأن تؤخذ من علوّ لتظهر أقصر.

لكن إن كان هذا مقبولا دراميا في أفلام خيالية فهو لا يُطاق في فيلم واقعي يمثّل العصر. ربما أرادت المخرجة التعبير عن حبها المعروف لأداء أدوار الأطفال، أو الذهاب بعيدا في إعطاء الفيلم بُعده المرح واللاهي، وفصله أكثر عن الشخصية الحقيقية بإصباغ الخيالي وغير الواقعي عليه، وجعله كحكاية أسطورية، حكاية حب.

 

لكن على الرغم من اختصار تلك المشاهد وعدم اللجوء إلى العدسة المقربة إلا فيما ندر، واستخدام الإيحاء كتصور “ألين” من ظهرها أو تمرير صورتها سريعا، فقد بدا ذلك منفرا ومزعجا.

أداء الأدوار.. اختيار ممثلين متزنين من كندا

باستثناء “ألين” (فاليري لومرسييه) والمزين الخاص بها، فقد استعانت المخرجة بممثلين من كندا أدوا أدوارهم بأفضل ما يمكن، لا سيما الزوج “غي كلود” الذي كان أفضل من في الفيلم بأدائه الهادئ والمتزن، وبهذه الابتسامة الدائمة على وجهه.

كذلك كانت الممثلة التي قامت بدور والدة “ألين” (دانيال فيشو) بطرافتها وتعبيرها عن أمّ ذكية متحكمة بعائلتها إنما بحبّ، وطموحها لجعل ابنتها أكبر مغنية في العالم. وهي حين واجهت “غي كلود” بسبب قصة الحب بينه وبين ابنتها قالت له بحزم: لقد وثقت بك، “ألين” هي أميرتي، ولا بد لها من أمير ساحر.

الممثلة دانيال فيشو التي قامت بدور والدة “ألين” تواجه “غي كلود” بحزم قائلة “ألين” هي أميرتي

 

استعانت المخرجة بصوت المغنية “فيكتوريا سيو” لأداء أغان “سيلين ديون”، ويلتقي خيارها هذا مع رغبتها في حرية التعامل مع الشخصية، وفي التحكم بالاستعراضات التي قدمها الفيلم.

“هذه سينما، إنه ليس فيلما وثائقيا”

لم تكن “لومرسييه” من المعجبات حقا بالمغنية “سيلين ديون”، ولم تكن تعرف شيئا عن حياتها، أو تعرف أغانيها كلها، لكنها التقت بها مرة بعد وفاة زوجها في 2016، وتأثرت بشجاعتها ووحدتها، ففكرت بعمل فيلم عنها. لقد درست أسلوبها في الغناء، وأجرت لقاءات مع أهلها في تحضيرات استمرت سنة قبل البدء بالكتابة بمساعدة “بريجيت بوك”.

“سيلين ديون” لم تعلّق على الفيلم، لكن أخاها وأختها الذين حضرا التصوير انتقدا الفيلم بعد عرضه في فرنسا، فما كان من “فاليري لومرسييه” إلا أن ردت عليهما بالقول: هذه سينما، إنه ليس فيلما وثائقيا، إنه خيال. كتبت هذا في بداية الفيلم: “هناك أشياء غير حقيقية وخيالية وضعناها نحن من كتب السيناريو، بريجيت بوك وأنا”.


إعلان