اضطرابات الطفولة.. عودة إلى جرائم التربية التي تصنع المختلين والمجرمين

إسراء إمام
هذا الجيل الذي نُراقِبه يكبر، والأجيال التي قبله حتى نهاية الثمانينيات أجيال مُنهكة مُتعبَة، وُلِدَت وفي ذيل سنوات عمرها الأولى أنواع شتى من المتاعب النفسية، ما بين اﻻكتئاب واضطرابات الشخصية، وقد يبلغ اﻷمر اﻻعتلالات العقلية أيضا، سواء في أخف صورها غير الملحوظة أو في أعتاها. مما ترتب عليه عدد من السلوكيات والظواهر الاجتماعية العامة، مثل العزلة وانتشار حاﻻت الطلاق السريع، وبالطبع تفشي حوادث الانتحار.
ثمة طرق مجدية كثيرة لتَقَصّي أسباب هذا التردي النفسي الذي بات من سمة تلك الأجيال، لكن أكثر هذه الطرق توفيقا سيتمثل في قرار العودة للأصل، أو الرجوع إلى ملابسات النشأة، إلى أجواء تلك المنازل التي كبر فيها هذا الشباب الشائخ، سواء الذي لا يزال يافعا، أو من قَارَب سن العجز بالفعل. من أجل استبانة طبيعة البيئة النفسية التي نما فيها، وأسست تشكيل منظومته الشعورية والفكرية.
والحقيقة أن علاقة الأبناء بوالديهم هي نقطة بدء كل شيء، وهي حجر الأساس في شخصياتهم، والوازع الذي يظل يوجه اختياراتهم وسلوكياتهم، حتى لو حدث ذلك بدون دراية منهم، وهذه الأجيال التي نقصدها في حديثنا قد عاشت طفولة مريرة في كنف عوائل لا تفقه شيئا عن الصحة النفسية، سواء فيما يخصهم هم، أو ما يخص أولادهم، فانغلاقهم ومحدودية مصادر معارفهم جعلهم يعيدون تدوير أفكارهم النمطية عن معنى الحياة، فقولبوا كل شيء وحولوه لعادة وتقليد أجادوا الالتزام به، فلم يفهموا شيئا عن أنفسهم، ولم يتعاطوا معها ويعرفوا حولها، وإنما عاشوا بها باعتبارها واقعا عاديا كل تصرف فيه شائع، حتى تلك الأعراض التي قد تكون دليلا على خطب نفسي يحتاج إلى علاج.
وبذلك أصبح الأب يمرر سلوكه النفسي المضطرب لابنه، أو تخلق أمه فيه اضطرابا جديدا من نوع آخر غير الذي تحمله، يتشكل في تكوينه نتيجة لمداومته التعرض لآثار اضطرابها لفترة طويلة، فمثلا ثمة اضطراب يُسمى بـ”اضطراب الشخصية الحدية”، هذا الاضطراب من ضمن الأسباب الرئيسية التي تستدعي ظهور معاناة خلال فترة طفولة المُصاب به، ووقوعه فريسة لمعاملة شخص مريض باضطراب آخر يطلق عليه “اضطراب الشخصية النرجسية”. وهكذا دواليك، يظل الشخص المعتل نفسيا يصنع في دائرته المُقربة مُعتَلا آخر، سواء كان على نفس شاكلته، أو مُختلفا عنه، لكنه في النهاية يظل نتيجة له.
وعي الأجيال.. طرق احتجاجية في التعبير
تلك الظواهر التي ذكرناها في بداية حديثنا لم تكن سوى طريقة سلبية للاحتجاج من الأجيال التي امتلكت بعض الوعي حول ما يحدث، ثم رفضت بيأس وعرفت أن حقيقة إنجاح العلاقات العاطفية وبالتالي الزواج؛ يعد أمرا بالغ الصعوبة في ظل هذه الخلفيات النفسية المُشَوَهة، مثله مثل الإنجاب.
ومن هنا تفشّت العزلة وتكررت حالات الانتحار لأنها جسّدت حلوﻻ أسهل لمن تعرفوا على طبيعة حَرَج مشكلاتهم جيدا، لكنهم ما زالوا على جهل بمعرفة طرق حلها والعمل على تقويم حيواتهم بعيدا عن ثِقَل ظلها المروع.
ليس هذا مستحيلا، لكنه أيضا يتطلب قدرا ليس هيّنا من الجهد والإرادة.
إن هذا الموضوع مسكوت عنه، فالفن المصري لم يتناوله بشكل واضح ومُتعَمَد من قبل، لكن في عام 2021 أنتجت ثلاثة أعمال درامية تتناول أبعاد هذه الدائرة المفرغة بقصد واع بديع وصادم نوعا ما، وفي السطور القادمة سنتعرف على هذه الأعمال بالتفصيل، سنتأمل كيف تطرقت إلى هذه المُعضِلة، وإلى أي مدى ساهمت في إلقاء الضوء عليها والتنبيه بشأنها.
“لعبة نيوتن”.. عقدة الطفولة تلاحق أيام الكبر
مسلسل “لعبة نيوتن” للمخرج تامر محسن، الذي عُرض في الموسم الرمضاني السابق، كان من أول الأعمال الفنية المصرية التي جعلت من هذا الموضوع همّا عليها أن تتحدث بشأنه، فالمسلسل دفعنا لنتورط مع تعقيدات حكاية حازم وهنا، حكاية تنهار فيها علاقتهما بعد أن تتعرض لحدث عاصف يدفع هنا لتعيش حياتها بعيدا عن حازم، مما يؤدي إلى نهاية زواجهما بشكل مؤذٍ ومُتعدِد العواقب.
هذه الملحمة الخاصة بملابسات سفر هنا بعيدا عن حازم، ثم تَفَكُك ما كان يجمعها بشكل هزلي مليء بالمفارقات المتتالية؛ كان ممتعا للغاية ومروعا أيضا، لأنه يكشف فيما بين سطوره عن مشاكل علاقتهما التي كانت بلغت أوجها، بالرغم من أن تلك العلاقة بدت على ما يرام قبل سفر هنا.
لم يكن ثمة داع لاعتبار أن زواج هنا وحازم زواج غير ناجح، وأن علاقتهما منهارة بالفعل، وإنما تبدو متماسكة لأنها لم تتعرض لأي ظروف حقيقية يمكن أن تختبر قوتها وقدر متانتها وصلابة الأساس الذي تقف عليه، لكن بعد سفر هنا بدأ هذا الاختبار الضاري.
أسباب إخفاق علاقة هنا وحازم هي للمفارقة نفس الأسباب التي دفعتها لتبدأ، والأمر كله متعلق هنا بظروف نشأة كل منهما في بيته منذ الصغر، أما حازم فقد تربى كابن أكبر موصوم من والديه بالفشل والخيبة والإهمال، وفي المقابل كان مُجبَرا قهرا على تَحَمّل تفضيل والديه لأخيه الأصغر، مبالغتهم في مدحه وتقدير مساعيه والفخر به على الدوام.
كل هذا تَوَغّل في نفس حازم مُحدِثًا شعورا دفينا بالنقص، وقد تَحَوّل مع سنوات الإساءة الطويلة إلى اضطراب نرجسي متكامل، هيئة موحية بالثقة الزائدة بالنفس، الثبات والقوة والتباهي بالقدرة على تحمل المسؤولية واتخاذ القرارات الصحيحة، أما في الحقيقة، فحازم شخص ضعيف مهزوز، لا يملك ذرة ثقة في نفسه، ويرغب بهيستيرية أن يجد ضحية يمارس عليها اضطرابه، ضحية تُشعِره بسلطته، بمدى تفرده وذكائه، ضحية يوهمها طيلة الوقت أنها تفتقر إلى صفات الجاذبية وحُسن التصرف مقارنة به، تلك الصفات التي يعرف جيدا أنه لم ولن يتحلى بها.
هنا الضعيفة.. شجاعة الضحية في مواجهة المواقف
كانت هنا هي الضحية المناسبة تماما لحازم، فبالنظر لما شبّت عليه هي الأخرى من معاملة والدتها لها نجدها مُؤهلة لكي تكون شريكة حازم المثالية، فهي ضحية ميّالة لتصديق أنها الأضعف دوما، وأنها الأقل حيلة، وأنها في احتياج مستمر لمراجعة قرارتها وتصرفاتها.
هذا كله بالرغم من كونها ظاهريا تعافر لكي تثبت العكس أمام حازم وأمام والدتها التي كانت سببا في زرع كل هذه الأحاسيس في دخيلة نفسها، لكن هنا في واقع الأمر تتصرف بما هو مُتوَقَع منها، ولا تعطي مجالا لكي ترى أنها تملك الكثير مما لا تراه، مما لا تعرفه عنها، وهذا بالضبط ما منحته لها فرصة سفرها، لهذا وحينها فقط بدأت تصدعات علاقتها بحازم تكشف عن وجودها، لأن مفارقات هذا السفر جعلتها تضطر بشكل حقيقي إلى أن تعتمد على نفسها بالفعل، تواجه مشكلاتها ومشاعرها، تلجأ لقدر من القوة الذي كادت تصدأ بداخلها.

استطاعت هنا أن تواجه أياما صعبة في الشارع بعدما تدهورت أحوال سكنها أكثر من مرة في أمريكا، كانت لديها الشجاعة الكافية التي تجعلها تتمسك بسكين صغير لكي تواجه متشردا يرغب في السطو على البقالة التي تعمل فيها، فعلت ذلك أيضا حينما سرقها متشرد آخر، وحينما ظنت أنها في وضع مستقر، بعدما استأجرت غرفة بشقة إحدى الفتيات، ففي كل مرة تطلب الأمر من “هنا” أن تواجه، وقد واجهت بقوة بغض النظر عن العواقب، وبغض النظر عن مدى نجاحها أو إخفاقها في ذلك.
على العكس من ذلك نجد حازم في مصر وهو يواجه مشكلاته بضعف وخنوع، يحاول لآخر رمق كسب وِد “شاهين” الذي عامله بطريقة دونية لأكثر من مرة، حتى حينما يضطر لقتله دفاعا عن نفسه، فإنه يقتله بأسلوب مراوغ وجبان، ثم نراه فيما بعد -بعد افتقاره لوجود هنا- وهو يحاول أكثر من مرة أن يستعيض وجودها بمساعده الشاب، فيستعرض عليه أكثر من مرة سلطته، ويصبّ عليه غضبه، حتى يتركه الشاب رغم عِشرَة العمل بينهما.
مؤنس.. ضحية الانتقام من الأم والزوجة
قدم المسلسل نموذجا آخر لهذه المأساة تجسّد في شخصية مؤنس، فهو يعد ضحية إضافية لطريقة تصرف والده في أزمته مع زوجته، أم مؤنس التي اختارت أن تعود للرقص المعاصر، وتنفصل عن زوجها وعالمه المنغلق الذي سلبها حقيقة تواصلها مع العالم، فنرى الزوج يتصرف بأنانية مُفرِطة، ويظل ينتقم منها من خلال ابنها مؤنس، فيملأ رأسه ليبعده عنها طيلة عمره، فيشب مفتقدا لحضن أمه، باحثا عنها في كل النساء، وهذا السبب هو ما دفعه لكي يتزوج هنا، وهو يعلم تماما أنها لا تحبه، وأنها تستخدمه لأكثر من غرض يخص حياتها.

إنها لعبة نيوتن، لعبة البندول الذي يبدأ بضربة قوية للكرة تتبعها سلسلة ضربات بنفس القوة والاتجاه، لتدفع بقية الكرات.
لم تتوقف أذية أهالي حازم وهنا ومؤنس عند كونها مرحلة قديمة وانتهت، لكنها كانت سببا في الشكل الذي اختاروا أن يديروا به حياتهم، فحازم بدأ في أذية هنا، وهنا فيما بعد وجدت مؤنس لتؤذيه بالتبعية.
“خلي بالك من زيزي”.. تشوه شخصية الطفلة المحبوسة
قدم المخرج كريم الشناوي والكاتبة مريم ناعوم في رمضان الماضي أيضا مسلسل “خلي بالك من زيزي” وهو مسلسل مختلف وجميل للغاية، وقد ناقشا فيه هذه القضية المُستَجَد الوعي بها، من خلال معالجة جذابة وذكية، والأهم أنها كانت أصرح في البوح بشكل مباشر مقارنة بمسلسل “لعبة نيوتن”.
فقد شاهدنا زيزي الفتاة التي تبدو في نظر الجميع عصية على الفهم، تتصرف بغير مسؤولية وبطريقة يصعب تحملها، لدرجة أنها في الحلقة الأولى ضربت زوجها على رأسه بأداة ثقيلة لأنها لم تستطع التحكم في ردات فعلها.
كان الجميع في الحلقات الأولى متفاجئا من شخصية زيزي، فهي لم تُقَدم له باعتبارها شخصية مضطربة بغيضة وكفى، ولا باعتبارها شخصية قاسية تملك مسحة من الشر؛ لكنها كانت إنسانا متكاملا فيه مزيج متناقض للغاية من الرقة والفجاجة، القسوة والهشاشة، فتعاطفنا معها رغم رفضنا لتصرفاتها.
لكننا -وكما اعتدنا دوما- تعاملنا مع هذه التصرفات باعتبارها مجرد تصرفات عادية حتى وإن كانت غير مقبولة، ولم نفكر أنها أعراض ممنهجة لمرض متأصل منذ الصغر، لا بد وأن يعرفه المصاب به هو ومن حوله لكي يستطيعوا التعايش معه بأقل خسائر ممكنة، ولأن هذا لم يحدث بالطبع، أساء والداها التعامل مع طفلتهما، فتمكنت منها أعراض مرضها أكثر، بل وراكمت عندها أزمات نفسية تحوّلت إلى نوبات غضب اكتئابية تصعب السيطرة عليها.
كانت زيزي كانت مصابة منذ الصغر بمتلازمة “فرط الحركة ونقص الانتباه”، الأمر الذي كان يجعلها في نظر والديها طفلة مزعجة شقية أكثر من اللازم، فما كان من والدها إلا القيام بحبسها مرات متكررة في غرفة موحشة لدرجة كانت تخيفها للغاية، فكانت تخاف لأقصى درجة تبلغ فيها أن يتحول خوفها إلى غضب، ومع تحول فعل حبسها لعادة اعتادت أن تعبر عن خوفها من خلال نوبات غضبها، حتى ارتبط عندها فعل التعبير عن نفسها عموما بالغضب، فأصبحت تعبر عن كافة مشاعرها من خلال الغضب، فباتت تغضب حين تشعر بالحزن، وتغضب حين تشعر بالخجل، حتى أنها تغضب حين تشعر بالسعادة.
كل هذا التشوه النفسي كان بسبب تصرف عادي من أب شعر بالإزعاج من جلبة ابنته، فقام بحبسها في غرفة بعيدة، بينما وقفت الأم محايدة ترى في تصرفه منطقا ما.
ظلال مشاكل الأم والأب.. دائرة مُفرغة
بالصدفة وبعد مرور ربع الحلقات تقريبا، ستعرف زيزي بحقيقة المتلازمة المصابة بها منذ طفولتها، وسيشرح لها الطبيب الأثر الذي خلفه عليها حبسها مرارا وتكرارا في غرفة مغلقة دون الانتباه لاستنجادها وخوفها الذي تَحَوّل بعد ذلك لغضب.
حينها فقط أدركت أنها ليست المسؤولة الوحيدة عن كل تصرفاتها غير المقبولة، وأن أذية والديها لها لم تتوقف عند الانفصال من جهة والدها والإلقاء باللوم والتوبيخ الدائم من جهة والدتها.
وفي الحلقات الأخيرة من المسلسل، تأتي عدة مواجهات حاسمة بينها وبينهم، تواجه فيها زيزي أمها بالحياد أيام حبسها في الغرفة المغلقة، إضافة لسنوات طويلة كانت تعاملها فيها بجفاء، تؤنِبها وتُلَخِص علاقتها بها في إطار التوجيه والامتعاض على الدوام، حتى وإن كانا بدافع خوف عليها، لكنهما ساهما في إنماء نوبات غضبها واحتقانها، وشعورها الدائم بأنها غير مقبولة، وليس ثمة مكان يتسع لها.
شَكَت زيزي من أن أمها لم تحضنها يوما حضنا طويلا حقيقيا، وإنما كلها أحضان غافلة سريعة غير محسوسة، بحجة أن الأم لا يسعها أن تعبر عن مشاعرها تجاهها بتلك الطريقة، لنجدها تبوح هي الأخرى بما في جعبتها، وتوضح الطريقة التي كانت مضغوطة بها من الأب، مما جعلها تعامل زيزي بهذا البعد ومن هذه المسافة.
إنها الدائرة المفرغة ذاتها. رجل يعاني يُقبِل على الزواج وهو على غير علم بما يعانيه من متاعب نفسية، وبالتالي تدفعه تلك المتاعب رغما عنه فيسيء لزوجته، مما يتسبب لها بضغط نفسي مزمن هي الأخرى، وما هي إلا سنوات حتى تنتقل العدوى لابنتهما لأنه لا مفر من ذلك، ولا بد أن تنتقل العدوى لابنتهما.
تكبر هذه الابنة وتصبح زيزي المنبوذة التي لا تعلم أن كل تصرفاتها عبارة عن أعراض نفسية ممنهجة تحتاج لعلاج ومتابعة طبية، لكنها مع الأسف واصلت لسن متقدمة الإحساس بالخزي والعار باعتبار هذه التصرفات جزءا لا يتجزأ منها، هذا بالإضافة لما أحدثته هذه التصرفات من فوضى في حياتها، الحياة التي لم تتح لها الفرصة لتحياها بطبيعية كبقية من في سنها من الشباب.
“60 دقيقة”.. اضطرابات حوّلت الطبيب النفسي إلى مُجرم
بدأت منصة “شاهد” منذ حوالي شهر في عرض حلقات مسلسل “60 دقيقة”، وقد تعرّض إلى هذه المسألة أيضا، فقام الكاتب محمد هشام عبية والمخرجة مريم أحمدي بتقديم قصة صادمة عن حقيقة طبيب نفسي يعاني من اضطرابات نفسية عنيفة حولته لمُجرم خفي.
مجرم عنيف سادي يلبس قناعا آدميا نقيضا، فنراه في الظاهر صبورا حالما رقيقا جذابا يحظى بشعبية كبيرة بين مرضاه أو المجتمع الذي يحيط به، لكنه في حقيقته ليس إلا مريضا خطيرا بلغ أقصى حالات التطرف في المرض لدرجة لن ينقذه فيها العلاج.
وحينما توغل المسلسل في منتصف حلقاته حول أسباب مرض الدكتور أدهم نور الدين، أو تلك الملابسات التي حولته إلى ذلك الوحش الضاري؛ عاد هذه المرة أيضا لظروف نشأته، بين أب مصاب باكتئاب مزمن دفعه في النهاية للانتحار أمام مرأى طفله الصغير، وبين أم مريضة نرجسية حالت بين الأب وبين علاجه كمريض يعاني من الاكتئاب، لخوفها على سمعته كطبيب.
هذا كله أدى لتدهور حالته، وإقدامه على قتل نفسه كآخر مرحلة شهيرة في الاكتئاب، ثم تمادت الأم في نرجسيتها، فتجاهلت علامات الاضطراب التي بدت على صغيرها، فكبر وكبر مرضه معه، لكنها لم تأبه إلا لكونه أصبح ذلك الطبيب الناجح المشهور الذي تفخر به أمام الجميع، ولم يُكَدر تباهيها ذلك علمها بأن ابنها تحول لمعتدٍ مجرم يختار بذكاء ضحاياه من سيدات عيادته ويمارس عليهن ساديته، وهو يعلم جيدا أنهن لن يتحدثن لأحد عن ما قام به معهن، فقد عرف ظروفهن وتأكد تماما أنهن وحيدات ضعيفات لا يمتلكن الجرأة على البوح بشيء كهذا على سبيل الدفاع عن أنفسهن، أو الانتقام منه.
هذه النقطة هي مربط الفرس التي طمأنت والدته، فطالما أن كل شيء يحدث في الخفاء لا مانع من حدوثه، بل المهم أن معطف الطبيب الأبيض يظل ناصعا أمام عيون الجميع، أما من خلفها فلن يقع ضرر يُعتَد به إن طاله بعض الوَسَخ القابل للإزالة، الذي لن يترك وراءه أثرا عالقا ملحوظا.
كنا كمشاهدين مثل زوجة أدهم مُصابين بالدهشة من أن هذا الحمل الوديع في حقيقته يُعدّ وغدا بهذه الخطورة، وأن قصة إساءة معاملة الطفل من قِبل أهله قد تتحول لمأساة مفجعة بهذا الشكل تجر في حبلها الطويل المعقد ضحايا أخرى لا ذنب لهم، بل لم يكونوا طرفا في هذه الأحداث التي كانت سببا في تدمير حياتهم بعد سنوات طويلة.
ماضي الطفولة.. شبح الآباء يطارد حياة الأجيال
هناك نموذج آخر قدمه المسلسل على الهامش لهذه الإساءة تمثل في شخصية فهيم، وهو الزوج الذي تربى تحت هيمنة أسرة شديدة التحفظ تعودت أن تتدخل في أدق تفاصيل حياته الحميمية وتُرهِبه منها، فخلقت بينه وبينها مسافة مَرَضية، مما جعل بينه وبين زوجته نفسها مسافة أدت لدمار زواجهما، على الرغم من حبهما الجارف لبعضهما.
لكن الحقيقة أن سنوات طفولة فهيم تلك لم تمرق وتذهب لحال سبيلها -كما دللنا بأكثر من مثال في المقال- وإنما ظل يحملها معه كجزء من تكوينه، حتى طالت يدها استقرار حياته، فلم يسلم حاضره من ماضيه.
تقول الخلاصة إن الماضي البعيد لا ينتهي فينا، فصحيح أنه يذهب، لكنه لا ينتهي بداخلنا، شئنا أم أبينا، علمنا أم لم نعلم، سيظل هذا الماضي دليلنا الخفي في القادم من حياتنا، ولهذا علينا أن نعرف عنه جيدا، نمتَن لأننا عشناه بسلام إن كان آمنا، ولا نبكي عليه إن كان خبيثا مُهدِدا لنا، وإنما نُقدم على استئصاله وعلاجه قبل أن يفوت الأوان.
هذا الماضي البعيد يتجسد فيه شبح آبائنا وأمهاتنا بدرجة كبيرة، ولأن تلك حقيقة واضحة يصعب التنكر منها، فلا بد أن يتلاقى الجيلان، يتفهم كل منهما طبيعة ما حدث -وفقا لخلفية طبية نفسية حقيقية- ويساعد الآخر في تجاوزه وحله.
لسنا هنا بصدد محاكمة أهالي الأجيال التي تعيش الآن على المحك، لكن كل ما نطلبه منهم أن يَطّلعوا على الصورة كاملة، ويساهموا في فك قيد هذا الماضي الذي يُكتِف أطفالهم الشيوخ إلى الآن، حتى يصبحوا مؤهلين لكي يكونوا آباء وأمهات أصحّاء قادرين على رعاية أطفالهم بدون أن يضعوهم عن غير وعي أمام تشوّهات مصيرية مماثلة.