“الصوت الإنساني”.. العنقاء الغاضبة التي أحرقت نفسها لتولد من جديد
خالد عبد العزيز
“يجلب كل يوم معه الصراع نفسه، الخواء ذاته، والرغبة نفسها في النسيان وفي عدم النسيان”. هكذا يقول الكاتب والروائي الأمريكي “بول أوستر” عن النسيان والرغبة في الوصول إلى مرفأ جديد، بعيدا عن تلك الأمواج المتلاطمة المحملة بالأسى، وقد أصدر الكاتب والمخرج الفرنسي “جان كوكتو” مسرحيته القصيرة “الصوت الإنساني” عام 1924، وتتناول نفس الفكرة التي يطرحها “أوستر”، وإن كانت من زاوية أكثر حيوية وطزاجة، فقد عرضت المسرحية لأكثر من مرة على المسارح العالمية، وحولت لأفلام سينمائية عدة، وتختلف بالطبع في زاوية الطرح والرؤية، لكنها ما زالت تحمل بريقا لا ينطفئ.
وقد وردت نفس الفكرة في أحدث الأفلام القصيرة لفنان السينما المخرج الأسباني الكبير “بيدرو ألمودوفار” “الصوت الإنساني” (La Voz Humana) الذي أنتج عام 2020، وعرض في مسابقة الأفلام القصيرة في الدورة الـ77 من مهرجان البندقية السينمائي الدولي، فهو يلتقط الخيط ذاته، وينسج حكاية أخرى من رحم تلك الرغبة التي لا تنتهي.
هجران الحبيب.. حياة جديدة من رماد حياة أخرى
امرأة في منتصف العمر يتركها حبيبها فجأة دون سابق مقدمات أو بوق إنذار تُحيط بها الوحدة، ويتطلب منها أن تألف وضعا لم تعتد عليه من قبل، تُرى كيف ستصبح قدرة ذاكرتها على المقاومة والنسيان، والأعمق هو كيف ستكون حياتها الجديدة، ومدى قابلية النفس الإنسانية على خلق حياة جديدة من رحم أخرى لا تزال بقايا رمادها في الأجواء؟
إنها قصة عادية وقد تبدو مكررة، وسبق تقديمها سينمائيا أكثر من مرة، لكن زاوية التناول التي تتضمن العديد من الأفكار هي ما يميز النسخة الجديدة من هذا الفيلم، إذ لا يكتفي “ألمودوفار” بسرد تلك القصة عن امرأة تعاني عذاب هجر حبيب لا يبالي، لكنه ينطلق لما هو أعمق بالمفهوم الفلسفي، وهذا ما أضفى قيمة مضاعفة للفيلم.
فمضمون الفيلم يسير في اتجاهين متوازيين؛ الأول عن الوحدة وتداعياتها وما يتبعها من تبديلات على النفس الإنسانية، وتغيرات قد تدفع الفرد نحو التحرر والخلاص من أسر أي قيود ذاتية، أو تسحقه في هاوية مُحققة، والمحور الآخر عن الذاكرة الفردية ومدى قدرتها على استيعاب عثرات الزمن وتقلصاته المفاجئة، وهل تُجدد الذاكرة نفسها تلقائيا بمرور الزمن، أم تظل قيد الإقامة الجبرية؟
الأستوديو.. مساحة ضيقة تمثل محور العالم
تطالعنا المشاهد الأولى من الفيلم ممزوجة بلمسة شجية، حيث نرى امرأة ترتدي فستانا أحمر تجلس بمفردها على أحد المقاعد، ثم تسير ببطء في مكان ما أشبه بالمستودع أو الأستوديو، تبدو في جلستها أو حركتها المقتضبة أشبه بالإنسان الآلي، تُرى ماذا حلّ بتلك المرأة البائسة؟
هذا ما يُجيب عنه السيناريو الذي لا يكشف عن بواطنه بسهولة، لكنه يترك المتفرج يستبصر ما يدور من أحداث مع مرور الوقت، نرى المرأة وهي تُمارس حياتها الرتيبة بوَهن داخل منزلها، ترتفع الكاميرا لأعلى، نلمح فواصل الديكور بين الغرف، لندرك أن هذا المنزل ليس شقة سكنية عادية لكنها أشبه بالأستوديو، وكأن حدود ذلك العالم التي تحياه المرأة وهمية أو يسهل كسرها، ككسر الإيهام والتداخل بين العالم الواقعي والخيال عند المسرحي والسينمائي الألماني “بريخت”.
فقد خلق السيناريو الأحداث تدور رحاها في تلك المساحة الضيقة وكأنها محور العالم، لا ندري في أي مكان تقع على وجه الدقة، فلا يهم تحديد المكان ولا الزمان، فالمعني هنا هو رصد تلك الحالة التي تمر بها المرأة بكافة ملابساتها ودلالتها العميقة، وهنا يتضح القرب الشديد بين الفيلم والمسرح من الناحية الشكلية، أي الديكور وبناء وتصميم الأحداث التي تقع في مكان واحد، ومن ناحية الأسلوب، حيث اعتماد السيناريو بشكل أساسي على الحوار الذي يُزيح الستار شيئا فشيئا عن لغز المرأة ومعاناتها، مما يرفع من مستوى الترقب والإثارة للوصول لفهم عميق لما يجري من أحداث.
هدوء مشوب بالحذر.. إرهاصات عالم جديد يولد من عالم قديم
تتوالى اللقطات والمشاهد ولا نلمح شيئا سوى المرأة وحيدة في تلك المساحة الشاسعة تستقبل مكالمة هاتفية من خطيبها السابق للاتفاق على انفصال هادئ بينهما، لكن الهدوء الظاهري يُخبأ نار مستعرة بداخلها نُدرك مدى فداحتها مع انسياب الكلمات منها، يختلط بها الهدوء المشوب بالحذر، تبذل المرأة قدر جهدها لإبقاء صوتها، والأهم مشاعرها الموشكة على الانفجار حبيسة الداخل، وذلك في برودة مزيفة سرعان ما يعقبها انفجار محموم.
تسعى المرأة لخلق عالم جديد يخرجها من أسر عالمها القديم، وهنا يتطرق السيناريو لنقطة مهمة، وهي مدى قدرة الإنسان على خلق حياة جديدة من رحم الصعاب التي يواجهها، وهل يُمكن أن يبدأ الإنسان حياته من مفتتح جديد لم يطرق دروبه بعد؟
الـ”أنتي هيرو”.. نفاذ إلى أعماق امرأة مُخفية الهوية
في أحد المشاهد نرى المرأة وهي تُخبر خطيبها على سبيل الكذب بأنها أغرقت نفسها في العمل وفي حضور عروض المسرح، وكأنها تبث لديه يقينا لا يقبل الشك عن قدرتها على المواجهة والبدء من جديد.
فقد رسم السيناريو شخصية امرأة لا نكاد ندري عنها شيئا، فاسمها لا يتردد ولا نعرفه، وبالتالي هي لم تصرح به طوال الفيلم، قد تبدو عادية، وقد تصطدم بها في أي طريق تمر به، ملامح تحمل من الأسى قدرا وفيرا، والحزن يكسو أغلب تعبيرات وجهها، فقد جعل السرد الشخصية تواجه مصيرا وعرا، فالوحدة تُمسك بتلابيب روحها المنتكسة من جراء الابتعاد عن زوجها المستقبلي.
وبقدر إحساسها بتلك الوحدة، فإنها لا تُفصح عنها، فتصدر عنها آنات مكتومة موسومة بالانكسار، لكن ما يظهر أمام خطيبها صلابة هو في الداخل مُبطن بالهشاشة، فالبطلة هنا رمز للـ”أنتي هيرو” (Antihero) أو البطل المخالف، أي الذي لا يملك صفات نجاح أو شجاعة، وهو عكس البطل الطبيعي للدراما الذي يمتلك مقومات السطوة والقوة.
عند هذه النقطة يكشف السيناريو عن ملمح آخر، وهو قدرته على النفاذ في أعماق المرأة بصفتها الإنسانية، فإذا أحبت قدمت كيانها فداء للمحبوب، وإذا أحست بالغدر استبسلت في الدفاع عن قوتها المزعومة، وللحق فإن هذا ليس حال المرأة فقط، لكنها الطبيعة البشرية بوجه عام، وهنا تتضح رمزية إخفاء هوية المرأة واسمها، فالمقصود هو النفس الإنسانية وما تحويه من متناقضات ودروب أخرى مجهولة سينحسر عنها الستار مع توالي المشاهد وتتابع السرد.
“لقد استمتعت مثلما تعذبت فيهما”.. اتصال الذروة الدرامية
استند السيناريو إلى أرضية أدبية وهي مسرحية “جان كوكتو”، لكن تحويلها لعمل سينمائي يعتمد على العوامل البصرية بصفة أساسية، وهنا برزت براعة السيناريو وشفافيته وقدرته على تقديم أفكاره في قالب درامي سلس لا يخلو من الشاعرية، كعادة أفلام المخرج “بيدرو ألمودوفار” الذي نسج السرد هذه المرة كالسيمفونية الموسيقية، مُقدمة موسيقية وثلاث حركات، ثم الخاتمة التي تحوي لحظة التنوير، أو تُقدم حل العقدة الدرامية.
البداية مع المقدمة أو التمهيد، المرأة وجلوسها وحيدة وهي تشعر بالضياع، ثم وصولها لمرحلة الغضب القصوى، حيث نراها وهي تُمسك بالساطور (سكين طويل) وتُقطع ملابس خطيبها بوحشية وغضب عارم، وكأنها تقطع ذكراه بداخلها حتى يتم لها اكتمال النسيان، فقد جعل السيناريو نقطة البداية مع ملامح تلك الحياة التي تحياها المرأة.
في الحركة الأولى نرى بدايات المكالمة الهاتفية بينها وبين خطيبها التي ستتواصل معنا حتى الذروة الدرامية، وهنا نكتشف قبسا آخر من حياة هذه المرأة، أربع سنوات هي مدة خطبتها لذلك الرجل الذي لا نُدرك اسمه هو الآخر، كما تقول المرأة: لقد استمتعت مثلما تعذبت فيهما.
لا يكشف لنا السيناريو عن أسباب الانفصال، لكن الجلي والواضح هو رغبة الرجل في الإنهاء، ليس مهما من يضع النقطة الفاصلة، لكن رصد تلك الحالة من الوحدة هي الغاية والأهم، فنرى المرأة وهي تسعى لإنهاء حياتها، لكن الفشل ينالها وتتمسك بها الحياة مجددا، فقد عبر السيناريو عن الإحساس بالضعف الإنساني في أرق صوره، وكيف تُصبح الحياة والموت كالتؤام لا فارق بينهما.
“علينا أن ننساه سويا”.. رغبة المرأة والكلب في هجر المنزل المحترق
عند الحركة الثانية نرى بوادر انفعال المرأة الداخلي، حينما تقول “حاولت ابتكار عادات جديدة”، والمتفرج يدرك تماما أن ما تقوله يبتعد عن الواقع، فالحقيقة عكس ذلك، وهكذ حال الفرد حينما يقع في الأزمات، يسعى لخلق حياة وهمية قد لا تنتمي للواقع بصلة، ظنا منه أنه يظهر بنفس إطاره الخارجي القوي، وأما الداخل فلا أحد يدركه سوى صاحبه.
ومع توالي السرد نكتشف أبعادا أخرى عن المرأة، وهذا ما تُقدمه الحركة الثالثة من السيناريو، إذ تلتقط الكاميرا حقائب الخطيب السابق والكلب يعبث بها، ثم يأتينا صوت المرأة قائلة “لقد حزمت حقائبك”، وذلك في إشارة لبوادر تقبلها القرار بالرحيل المفاجئ، ثم تنقل دفة الحوار نحو الكلب الذي كلما هاتفت خطيبها يأتي إليها، في دلالة واضحة عن التماس بينها وبين الكلب في الوفاء للصاحب والحبيب، فكلاهما مُخلص لذلك الشخص الذي لا يبالي بالآخرين، فالمرأة لا تبكي ولا تزوم، لكن الكلب يفعل ذلك، فالكلب لسان حالها المنغلق على آلامه، وعند تلك النقطة نصل لذروة الأحداث، حينما يُخبرها خطيبها بأنه سيرسل السائق ليتسلم حقائبه، وهنا تثور المرأة وتندفع فيه بأعلى صوتها، وتعترف بأن كل ما قالته عن تعافيها ما هو إلا محض كذب.
ثم تصل المرأة لمرحلة التطهر أو التنوير في الخاتمة، عندما تُمسك بالمواد المشتعلة وتلقي بها على أثاث المنزل، ثم تقول لخطيبها للمرة الأولى “يجب أن أتعلم أن أنهي مكالمتك”، وتلقي بالقداحة على المادة المشتعلة ليحترق المنزل بالكامل.
هنا تصل المرأة لمرحلة التحرر الكامل والرغبة الحقيقية في البداية من جديد، لنجدها تخرج من ذلك المنزل الغريب برفقة الكلب وهي تقول له “علينا أن ننساه سويا”، فكأنها مع التهام النيران لمحتويات منزلها تخرج من أسر عالمها القديم لعالم آخر جديد، وهنا تبرز رمزية المشهد.
“إنني أحترق”.. هروب من أسر الذات المعذبة
رغم أن مدة الفيلم قصيرة لا تتعدى 30 دقيقة، فإن السرد مشحون بأفكار عدة أجاد السيناريو التعبير عنها، وتقديم معالم صراع درامي متماسك يبلور تلك الأفكار في قالب متماسك يتصاعد دراميا، مدعوما بنقاط حبكة تدفع القصة للأمام حتى نصل لذروة الصراع، ذلك الصراع الذي جعله السيناريو ينطلق من الداخل للخارج، أي يتفاعل داخل عقل المرأة، ثم تندفع نتائج هذه التفاعلات خارجيا.
فقد جعل السيناريو معالم الصراع تتمحور حول الوحدة الإنسانية وتداعيات وتبعات هذه الوحدة وما سيطرأ عنها، فالمرأة تعيش برفقة روحها الوحيدة التعسة حائرة بين ماض براق وحاضر ضبابي لا تدري عنه شيئا، تُرى ما هو المصير المنتظر لمن احتضنته الوحدة، كيف ستألف نفسه فردانية الكون من حوله؟
في الشق الأخير من المكاملة الهاتفية تبث المرأة شكواها للخطيب السابق، تُخبره بما لم تقدر على البوح به سابقا، فقد انهارت حصونها الوهمية التي شيدتها على أنقاض الماضي، هكذا حال الإنسان في الصعاب، فهو يُبدي عكس الواقع، ويُظهر القوة وما يبطن سوى الضعف، ففي أحد المشاهد تُقول المرأة: أنا لستُ على ما يرام، فقدت أعصابي أكثر من مرة، لقد كنت فيما يشبه الحطام.
وفي مشهد آخر تستكمل قائلة “لقد فكرت أكثر من مرة في إلقاء نفسي من الشرفة”، وفي مشهد آخر نراها وهي تتناول الحبوب المنومة رغبة منها في إنهاء حياتها دون ألم، فقد قدم السيناريو مصفوفة العذاب التي تُعاني منها المرأة من جراء وحدتها، لكن الجديد في هذه الزاوية هو تقديم الشق الآخر من هذا الصراع النفسي، وهي محاولات الخروج من تلك العباءة الفضفاضة المسماة مجازا بالعذاب النفسي، ومجابهة الفرد نفسه الأمارة بالسوء، وإشهار سيف التغيير، وذلك ما فعلته المرأة حينما أقدمت على إشعال النيران في شقتها وهي تقول لخطيبها “إنني أحترق”، وذلك في إشارة للخروج من أسر ذات معذبة، والوصول لمرحلة السمو والاكتفاء الذاتي بالنفس الإنسانية بكافة تشعباتها ودروبها.
“أردت أن أحرر المرأة”.. دماء جديدة لتجارب المخرج الفنية
لا شك أن التفاصيل الفنية في الفيلم تصدح باسم مخرجه “بيدرو ألمودوفار”، فالفيلم يُمثل استكمالا لرؤية “ألمودوفار” عن الحياة والمرأة والإنسان، ذلك الثالوث هو همه الأساسي، يرصده ويعبر عنه في أفلامه، قد يجنح نحو التجربة الذاتية، يستلهم منها ما يُطعم به إبداعه، لكنها تظل على الهامش ولا تصل للمتن، المرأة ترتدي اللون الأحمر باستمرار، ديكورات المنزل مُطرزة هي الأخرى بالأحمر القاني، كما أن بعض الديكورات سبق استخدامها في أفلام سابقة، وأعيد هنا تنسيقها وتقديمها بشكل مختلف.
هنا يصل المخرج للحرية الكاملة حسب تعبيره، يقتبس من تجاربه السابقة الفنية والحياتية ما يُضيف ويُجدد دماء فيلمه الجديد.
اهتمام “ألمودوفار” البالغ بعنصر الصورة في هذا الفيلم مُعبر دراميا، خاصة أن القصة تتمحور حول المرأة بصفتها الإنسانية المجردة، وبرمزيتها في خضم صراع نفسي محوره الوحدة في مجتمع ما بعد الحداثة الذي أصبحت المشاعر الإنسانية فيه ملقاة على قارعة الطريق، فنرى أغلب زوايا تصوير وجه المرأة مقربة، لإظهار تعابير وجهها المعذبة من جانب، والتعبير عن حالة الحصار والضيق الداخلي الذي تعيشه من جانب آخر.
لقد أجادت الممثلة البريطانية “تيلدا سوينتون” التعبير عن حالة العذاب التي تعايشها الشخصية، وذلك يعود بدرجة كبيرة إلى السيناريو الذي كتبه “ألمودوفار” الذي يقول عن مشهد الحريق “أردت أن أحرر المرأة”، يمدها بدفقة أمل بعد مرورها بمنعطف هائل من الصعاب، وبذلك يُخبرنا بأسلوبه الشاعري بأن طريق الحياة ممهد للبدء من جديد، والذاكرة الإنسانية لديها القدرة على التعافي ونسيان ما جرى وتدوين ذكريات جديدة قد يحالفها الحظ وتصبح أكثر سعادة.