“الغريب”.. السينما تعيد هضبة الجولان المنسية إلى الذاكرة

فاز فيلم “الغريب” للمخرج السوري أمير فخر الدين بجائزة أفضل فيلم عربي في الدورة الـ43 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، وقبلها فاز بجائزة “إديبو ري” (Edipo Re) لأفضل فيلم مشارك في تظاهرة أيام البندقية ضمن فعاليات الدورة الأخيرة للمهرجان الذي يعد واحدا من أهم المهرجانات السينمائية العالمية، وهو ما يؤشر على نجاح وأهمية الفيلم.

لكن اختيار فلسطين للفيلم ليمثلها رسميا في جوائز الأوسكار ضمن فئة الأفلام الأجنبية (غير الناطقة بالإنجليزية) إلى جانب برمجة مهرجان “أيام فلسطين السينمائية” له كفيلم افتتاح لدورته الثامنة المقامة في رام الله، لا يمكن فهمه إلا من خلال الفيلم نفسه وحكايته.

ففيلم “الغريب” هو أول فيلم عربي روائي طويل (إنتاج سوري قطري فلسطيني ألماني مشترك) يحكي عن هضبة الجولان المحتلة من قبل إسرائيل، وبالتالي فالمشترك بين الطرفين (الفلسطيني والجولاني) هو الاحتلال الإسرائيلي، وما ينتج عنه من قهر ومعاناة تحيل حياة الشعبين إلى جحيم، ويشيع وجوده قلقا وجوديا كالذي ظل يعاني منه بطل “الغريب”، الفيلم المختلف في معالجته لحالة الاحتلال فنيا وسرديا، فهو يميل بصريا إلى معاينة الاغتراب الداخلي الذي يحس به المواطن المستلبة إرادته وحريته فوق أرضه.

عدنان المتأزم.. مطية الفيلم إلى هضبة الجولان المحتلة

يدخل فيلم “الغريب” إلى هضبة الجولان السورية من خلال بطله عدنان (الممثل الفلسطيني أشرف برهوم) المتأزم داخليا، والمحاط بمشاكل عائلية يسربها النص السينمائي ببطء إلى المتفرج عبر سرد بصري شاعري لا يميل إلى الإبهار بقدر عنايته بالحالة النفسية لبطله التراجيدي، والمتأتية توتراتها من وجود المحتل الذي يفرض عليه وعلى أهله قوانينه، إلى جانب تناقضات وصراعات متوارثة بين الأجيال.

يتجلى ذلك في خلافه مع والده (الممثل الفلسطيني محمد بكري) وعدم انسجامه مع بيئته، وعدم قدرته في الوقت نفسه على الهروب منها.

ترك الدراسة.. أسئلة الحنين والاغتراب داخل الوطن

لا يفهم والد عدنان عجزه عن إكمال دراسته للطب البيطري في موسكو، وعودته منها من دون الحصول على شهادة أكاديمية، أما زوجته المحبة ليلى (الممثلة أمل قيس)، التي لا تظهر على الشاشة إلا في مشاهد قليلة جدا، فهي الأخرى لا تفهم أسباب انكفاءه وابتعاده عنها وعن ابنتهما. حيرتها يجسدها سؤال تطرحه في مفتتح الفيلم عن طول ومدى الزمن الذي يمكن للمرء أن يعيش فيه تحت ظل كائن آخر؟

كانت ترى فيه تشابها مع والده في صرامته وعناده، بينما يرى هو نفسه مختلفا عنه. لا يفسر عدنان سبب تركه الدراسة وعودته إلى قريته في الجولان. هل هو الحنين ورفض القبول بغربة أخرى تزيد من إحساسه بغربته داخل وطنه؟

الممثل الفلسطيني محمد بكري الذي قام بدور والد عدنان الصارم والعنيد

تلك الأسئلة الوجودية لا إجابة واضحة عليها عند “الغريب”، لكن الجو المكفهر حوله ربما يعطي تصورا، أو حتى ما يمكن اعتباره جوابا على بعضها.

لحظات السُكر.. رغبة طائشة في إثارة حنق الاحتلال

انسحاب عدنان إلى الحقل طيلة الوقت واهتمامه بأشجار التفاح في موسم شتوي بارد يهدد بتدمير محصولها ومحاولاته “العجيبة” لتوفير دفء لها، من دخان مدفئة تمنع عنها “الموت” بردا؛ تشبه محاولاته لمنع موته ضجرا باللجوء إلى معاقرة الخمر دون انقطاع.

في لحظات سُكره تتجلى رغبته في مواجهة المحتل وجيشه، فهو يثير حنق الجنود عند نقاط التفتيش ويحاول استفزازهم، وهم بدورهم يردون عليه بتهديد ووعيد لا يمنعاه من تكرار أفعاله والإعلان عن كراهيته لهم.

يرى والده في انسحابه ومشاكله بسبب الشرب طيشا وتخليا عن مسؤولياته، وعليه يقرر حرمانه من إرثه. يكتب وصيته من دون تردد، فالابن بالنسبة إليه ولد عاق لا أمل فيه ولا نفع. أما الزوجة فهي تريد الرحيل من هذا المكان الكئيب الذي لا أمل لها ولا لابنتها فيه، بينما يرفض الزوج بعناد ترك وطنه.

هذا الوضع يثير توترا يتضاعف بوجود حرب أهلية تصل تردداتها إليهم عبر الجانب الآخر من الوطن.

شخصيات الفيلم.. قصص جانبية تصنع التفاصيل الحيوية

الحالة الجولانية العامة تنقل سرديا عبر شخصيات درامية تضفي حيوية على المشهد وتجلي بعض تفاصيله.

لعدنان بعض الأصدقاء المقربين، يلعب معهم الورق، ويتبادل أحيانا معهم أطراف الحديث، بينما ترى عائلة زوجته في عزلته وكثرة شربه إهمالا لابنتهم، وتخليا عن واجباته الزوجية.

مشهد لأخ الزوجة يطلب من عدنان الانفصال عن أخته

في مشهد قصير يأتي أخ الزوجة ويطلب منه الانفصال عنها، يشتمه ويخرج من الحقل، بينما هو يرى أن مشكلته ليست مع أحد من أهله بقدر ما هي داخلية، وجود الاحتلال هو الذي يثير في داخله اغترابا وميلا للعزلة.

أصوات الرصاص.. حالة عجز خانقة في أجواء الحرب

وسط كل ذلك الجو الحزين الذي يلف القصة كانت والدة عدنان تدعو له بالهداية والصلاح، بينما يرفض والده حتى تدخله لمعالجة بقرته التي بات حليبها يختلط بدم نازف من داخلها، حتى كلبه الفاقد لإحدى قوائمه يعجز بسبب ذلك عن مواجهة بقية الكلاب الشرسة.

مثل تلك الإيحاءات والدلالات الرمزية الكثيرة تشير ضمنا إلى حالة عجز خانقة يفرضها المكان، وعلى سكانه تنعكس آثار الحرب الجارية في الوطن.

يسمع الجولانيون أصوات اندلاع رصاصها كل يوم دون انقطاع وهم عاجزون عن وقفها، عزلتهم مؤلمة مثل عزلة عدنان التي تتفجر أحيانا في بقع صغيرة لا تكفي للتعبير عن القهر الذي يلف روحه ويفسد طعم حياته.

كل ذلك منقول باشتغال سينمائي باهر، فتصوير المصور نيكلاس ليندشاو ينقل بتوافق جمال الطبيعة وقسوة المناخ المحيط بها، الذي يحيلها إلى ضباب كثيف يحجب الرؤية ويحرم المرء من التمتع بجمالها الطبيعي وروعتها.

انتشال الجندي السوري الجريح.. واجب أخلاقي يقاوم الاحتلال

يأتي الانقلاب الكبير في المشهد الجولاني من خلال عثور عدنان على جندي سوري جريح وصل إلى الهضبة، وقام بإخفائه عن أنظار الجيش الإسرائيلي.

ويكشف الإعلان عن وجوده أمام أصدقائه وبعض أعيان المنطقة عن مواقف أنانية وخوف عند بعضهم وشجاعة عند آخرين، فهو يجد في علاج الجندي وتأمين سلامته توافقا مع واجب تفرضه عليه وطنيته وإنسانيته، ويجد بسببها نفسه في تصادم جديد مع مواقف تريد الهروب من مواجهة الحقيقة وتتجنب المواجهة.

يحاول عدنان إبقاء الجندي على قيد الحياة، لكنه يفشل في النهاية بسبب عمق الجرح والنزف الكثير. جملة واحدة يقولها الجندي تصنع موقفا من الحرب السورية، تفيد أن لا رابح فيها، وأن الجميع فيها خاسرون.

تسليم جثمان الجندي السوري لشجرة جولانية

لن يجادل “الغريب” في هذا، فقد كان همه إتمام واجبه الأخلاقي إزاءه. لم ينتظر تشييع جثمانه رسميا كما اقترح أحد وجهاء البلد، فمضى حاملا في الليل جثته نحو شجرة تفاح عملاقة، ربما هي نفس تلك الشجرة الموجودة في الصورة الوحيدة التي كانت في حوزته وتعود إلى والده، أو ربما هي تشبه واحدة أخرى صورها والده في قريته الجولانية يوم كان صغيرا، وكان يحلم أن يعود إليها في زمن لاحق.

يعيد عدنان الابن إلى حضن شجرة أبيه، ويستعيد هو بخطوته الجريئة تلك بعض توازنه مع نفسه ومع الآخرين.

استعادة الجولان عبر الشاشة الكبيرة.. فيلم يعاند النسيان

يعبر البطل بمقاطع شعرية مؤثرة عن خلجات ومشاعر داخلية وحب لزوجته وابنته ورغبة في عدم تركهما أو هجر المكان الذي أحبه، وفيها يبوح صراحة برغبته عدم ترك قريته رغم كل الظروف المحبطة التي تحيط بها، لأنه لا يتمنى أن يزرع شجرة تفاح في مكان آخر بعيدا عن جذورها، وبسبب غربتها سيتغير طعم ثمارها ويفقد حلاوته.

بمقطعه الصوتي ينهي بطله المشهد الدراماتيكي المؤلم لمكان سُمي بالمنسي، لكن السينما تصر على إعادته للذاكرة ثانية.

هضبة الجولان لم تعد منسية السينما، فقد أعادها هذا الفيلم إلى الواجهة عبر شاشات العرض

فعل سينمائي يعاند النسيان ويستدعي به جزءا من وطن استُلب، وعلينا أن نعيده ثانية إلى الواجهة عبر شاشات العرض، وربما تتجسد تفاصيله أكثر حين يكمل المخرج السوري الشاب فخر الدين ثلاثيته المنشودة التي أكد في مقابلات صحفية معه أنه قد بدأ تدشينها بفيلم “الغريب”.

ويسعى فخر الدين إلى إكمال الثلاثية بجزأين آخرين يعمق بهما رؤيته لحالة الحصار والقهر والاستلاب التي تلف الجولان اليوم، والتي نقل مقطعا مهما منها في الجزء الأول المكتوب بلغة سينمائية راقية متخلصة من الكليشهات، ومستندة على اشتغال جمالي بارع (إخراجا وتمثيلا) يستحق بفضلها الترشح لجوائز الأوسكار.