“كثيب”.. أسطورة المهدي تشعل صراع الأباطرة للسيطرة على المجرّة

إبراهيم إمام

لا تخفى على أحد حالة الإفلاس التي تمر بها السينما الأمريكية من حيث فقر الأفكار الجديدة، ففي خلال الأعوام الأخيرة أعادت هوليود إنتاج عدد هائل من أعمالها السابقة، وأنتجت عددا ضخما من الأجزاء السابقة واللاحقة لأفلام قديمة، في ظلّ هذه الأجواء يخرج علينا “دينيس فيلينوف” بفيلم يحقق به المعادلة المستحيلة.

من داخل موجة إعادة الإنتاج تلك أعاد “فيلينوف” إنتاج فيلم أنتجه “ديفيد لينش” عام 1984، ثم حاول المخرج المكسيكي “أليخاندرو خودوروسكي” إنتاجه، إلا أن محاولته باءت بالفشل، وهو فيلم مقتبس عن رواية نُشرت عام 1965، وتُعتبر من أشهر وأهم روايات الخيال العلمي، إلا أن المعادلة المستحيلة تجلّت في قدرة فيلينوف على إعادته لإنتاج هذا الفيلم وهذه الرواية كفيلم أصيل حديث.

في هذا المقال نحاول استعراض مواطن الإبداع في فيلم “كثيب” (Dune)، وكيف نجح الفيلم فيما فشل فيه بعض من أنجح وأهم مخرجي هوليود؛ وهما “ديفيد لينش” و”أليخاندرو خودوروسكي”. على الجانب الآخر نعرض أوجه القصور التي لم تروِ عطشنا إلى تجربة جديدة من عالم هوليود، ثم نحاول في نهاية المقال الإجابة عن سؤال: كيف استطاع “فيلينوف” أن يقدم فيلما ليس سوى إعادة إنتاج في قالب يبدو وكأنه فيلم حديث؟

عالم النجوم والكواكب.. ما بعد روايات الخيال العلمي

تدور أحداث الرواية بعد انتهاء أحداث جميع روايات الخيال العلمي، إذ تحكي عن عالم يسبقنا بعشرين ألف عام، وفي هذا العالم لا يوجد أناس آليون، فقد خاض البشر معركة شعواء مع الآليين وانتصروا فيها، وكنتيجة لهذه الحرب جرى تجريم إنتاج أناس آليين.

 

لكن البشر لم يدمروا التكنولوجيا ليعودوا إلى الماضي، بل استخدموها كي يطوروا عقول مجموعة من البشر بدرجة كبيرة تحولهم إلى بشر لديهم قدرات حسابية فائقة، وتعمل هذه المجموعة من البشر الفائقين كمستشارين للحكام.

في هذا العالم لا يحكم الحكام دولا بل كواكب، أي أننا نشاهد عالما يمتد بين النجوم والكواكب، لكن بدون التكنولوجيا المعهودة لنا، ويحكم هذا العالم إمبراطور واحد، بينما تحكم كل كوكب أسرة حاكمة.

توابل الطاقة.. صراع السيطرة على الكوكب الصحراوي

تدور عقدة الرواية حول كوكب ذو طبيعة صحراوية يسمى آراكس، حيث يحوي هذا الكوكب على أغلى موارد عالم كثيب، وهو نوع من التوابل يدعى “مالانج”، وسبب أهميته هو أنه مصدر الطاقة الذي يسمح للمركبات الفضائية بالسفر عبر المجرات، وعلى الجانب الآخر فمن يستنشقه أو يتعرض له فإن أجهزته الحيوية تنشط بدرجة ملحوظة في تأثير يشبه تأثير كوب قهوة كبير في الصبح، لكن بخلاف كوب القهوة فإن التعرض الكثير له يُكسب الإنسان قدرات فائقة تصل إلى حد رؤية الماضي والمستقبل.

حول هذا الكوكب تدور الصراعات بين مجموعة كبيرة من أبطال وشخوص الرواية، يمكننا تلخيص هذه الشخصيات في عدد من المجموعات، فالأُسر الحاكمة تتصارع فيما بينها على السيطرة على كوكب آراكس، بينما يخشى الإمبراطور من زيادة نفوذ أي من هذه الأسر عن الحد الذي يسمح له بالسيطرة على الجميع، ويتصارع الجميع من أجل بسط نفوذهم على الكوكب الصحراوي، وفي الوقت نفسه يقطن هذا الكوكب سكانه الأصليين بالفعل، وهم “الفريمين” الذين تتوالى عليهم الأسر الحاكمة الأجنبية، بينما هم مستمرون في المقاومة، وأثناء مقاومتهم ينتظرون مخِّلصا تتنبأ به أسطورة قديمة، ويطلقون عليه اسم المهدي.

“البيني جيزريت” هي مجموعة من النساء ذات قدرات مميزة، حيث يقمن بعملية انتخاب صناعي لآلاف الأعوام يحاولن من خلالها إنجاب ذكر ذو قدرات فائقة

 

في وسط هذه الصراعات السياسية تقوم مجموعة من النساء ذات قدرات مميزة تسمى “بيني جيزريت” بعملية انتخاب صناعي استمرت لآلاف الأعوام، ويحاولن من خلالها إنجاب ذكر ذو قدرات فائقة.

حرب الفريمين.. انتصار المهدي الذي تنبأت به الأسطورة

في محاولة من الإمبراطور لتثبيت أركان حكمه، فإنه يثير خلافا بين أسرتين حول إدارة كوكب آراكس، ينتج عن هذا الخلاف هزيمة إحدى تلك الأسر، وهروب “بول” ولي العهد، لكن “بول” لم يكن ابن الحاكم فقط، بل أيضا ابن واحدة من نساء “البيني جيزريت”، مما يعني أنه يمتلك القدرات الخاصة بمجموعة “البيني جيزريت”.

ينضم “بول” إلى الفريمين سكان كوكب آراكس، وأثناء رحلته يتعرض بول إلى المالانج الذي يزيد من قدراته إلى درجة كبيرة. عند هذه النقطة تنتهي أحداث الجزء الأول من الفيلم الذي أنتجه “فيلينوف”، إلا أن الرواية تستمر لتشرح لنا أن ما يملكه “بول” من قدرات يشبه أو يطابق القدرات التي يمتلكها المهدي الذي ينتظره الفريمين، ولهذا السبب يعتقدون أنه هو المهدي الذي تتنبأ به الأسطورة.

هكذا يقود “بول” الفريمين في حرب ضروس تنتهي بسيطرته على المجرة.

الفريمين ينبثقون من رمال الصحراء في مواجهتهم لقوات الإمبراطور

 

مثل ما هو واضح، فإن القصة تتميز بالتركيب الشديد، وفي عالم الرواية هناك كثير من التفاصيل والتعقيدات وخطوط الأحداث المتشابكة التي تجعل مهمة تحويلها إلى فيلم أمرا فائق الصعوبة، وقد حاول “لينش” إقناع جهة الإنتاج بإنتاج الفيلم في جزئين، إلا أنه لم يُقابل إلا بالرفض.

نجاح الاقتباسات وفشل الأصل.. نحس الرواية في السينما

انتهت محاولة “ديفيد لينش” بفيلم تصل مدة عرضه إلى خمس ساعات متواصلة، إلا أن جهة الإنتاج قامت باختصاره إلى ساعتين وثلث الساعة. يقول “لينش” إنه لم يندم على أي فيلم أنتجه في حياته سوى هذا الفيلم، بل إنه طلب من جهة الإنتاج أن لا تنسب الفيلم إليه.

على الجانب الآخر كان طموح “خورودوسكي” كبيرا، حتى أنه طلب من “سالفادور دالي” تمثيل دور الإمبراطور، بينما شمل فريق العمل المتوقع ممثلين عظماء مثل “أورسون ويليز” وفريق “بينك فلويد”، إلا أن أحلام “خورودوسكي” باءت بالفشل لأسباب إنتاجية.

هكذا ظلت رواية “كثيب” بوصفها العمل الأهم الذي لم يره أحد بعد، فقد تم تحويل رواية “سيد الخواتم” (Lord Of The Rings) إلى عمل سينمائي، وهي الرواية التي كتبت في نفس الفترة، ثم أنتج عدد من الأعمال التي تتشابه مع “كثيب” في تشابك عوالمها، مثل “لعبة العروش” (Game Of Thrones)، بل إن عددا من أشهر أفلام الخيال العلمي مثل سلسلة “حرب النجوم” (Star Wars) و”ستار تريك” (Star Trek) استعارت أفكارا وصورا بشكل حرفي في بعض الأحيان من رواية “كثيب”، وعلى الرغم من ذلك لم يكتب لها أن تنجح في صورة سينمائية.

 

يتحمل “فيلينوف” عبئا كبيرا مع هذا الإرث الضخم، لكن من المثير للتفاؤل أنه من المزمع إنتاج الفيلم في عدة أجزاء، وهو ما يعطي “فيلينوف” مساحة كافية كي يعرض فيها هذا العالم المعقد والمتشابك، ويقدم قصة متماسكة.

أسطورة البطل.. تقلبات الشخصية النمطية في أفلام الخيال

يمكننا أن نلاحظ من العرض السريع للقصة أنها تدور حول فكرة بسيطة، وهي أسطورة البطل، وأسطورة البطل هي نموذج نفسي يقدم تفسيرا للكثير من الأعمال القصصية التي تستقر في الوجدان الشعبي، ويعتمد هيكل الأسطورة على شخصية البطل التي تمر بعدد من المراحل الثابتة.

ويمكن أن نلاحظ هذه المراحل في شخصيات أفلام الخيال ذات الميزانيات الضخمة، مثل “دانيريس تارجيريان” في مسلسل “لعبة العروش”، وحتى شخصيات أفلام الرسوم المتحركة الموجهة للأطفال مثل شخصية “سيمبا” في فيلم “الأسد الملك” (Lion King)، وهي بطبيعة الحال قصة “بول” بطل فيلم “كثيب”.

 

تمر قصة البطل بمرحلة الطفولة التي يؤمن فيها أنه من المقدر له أن يكون ذو شأن عظيم، تدور الأحداث بشكل مخالف للتوقعات، وينهار عالمه ويضطر للهرب بعيدا، حتى يجد نفسه وحيدا شريدا خارج عالمه الذي تربى فيه، لكنه يتمكن من الاندماج في مجتمعه الجديد حتى يصل إلى منزلة مرتفعة، ويعود مرة أخرى إلى موطنه الأصلي كبطل منتصر.

استعمار الرجل الأبيض في المخيال.. رائحة من سحر الشرق الأوسط

على الرغم من أن أركان القصة بسيطة ومباشرة ومعتادة، إلا أنه في حالة فيلم “كثيب” يكتسب الأمر بعض الحساسية الثقافية، فالفيلم -بمنتهى الوضوح- يستلهم كوكب الصحراء من الشرق الأوسط، بل إن مجموعة الفريمين تستخدم كلمات عربية كثيرة، منها كلمة المهدي التي تطلقها على المخلص المنتظر الذي سيقودهم للتخلص من الاحتلال، والفيلم يقدم هذا المخلص بوصفه رجلا أبيض، في إشارة إلى الرجل الغربي بطبيعة الحال.

ما نراه في الرواية هو قصة الاستعمار التقليدية التي عاشتها كل الدول العربية حين احتلها الرجل الغربي الأبيض الذي أتى إليها تحت شعار تطوير هذه الشعوب أو حتى تحريرها. يقدم فيلم “كثيب” صورة عن الاستعمار بالفعل، لكنها صورة أكثر تركيبا، فلا يقدم قصة “بول” بالشكل المباشر لقصة البطل، بل يقدمها بوصفها وهما.

في عالم “كثيب” سنعلم أن المتحكم الفعلي في العالم ليس الإمبراطور، وليس أيا من شخصيات القصة في واقع الأمر، بل إن ما يدير الواقع هو الأسطورة، إذ سنعلم لاحقا أن أسطورة المهدي ليست أسطورة محلية، لكنها فكرة زرعها “البيني جيزيريت” في عقول الفريمين، حتى يصبحوا تربة خصبة لاستقبال الذكر الفائق الذي يعملون على إنجابه.

بول جالسا في الصحراء تحت تأثير استنشاقه المالانج

 

سينضم “بول” إلى الفريمين كما نعلم، لكن بمرور الوقت يصدق “بول” نفسه الأسطورة، ويعتقد أنه هو المهدي. يكتسب “بول” القدرة على رؤية المستقبل، ويعلم من خلال ذلك أن المستقبل سيكون مستقبلا داميا مليئا بالحروب الطاحنة التي سيموت فيها أعداد ضخمة من البشر، وستنتهي بتدمير العالم. سيحاول “بول” إنهاء هذه الكارثة، لكنه لن يستطيع، لأن الفريمين لا يحتاجون إليه، فما يدفعهم للقتال ليس “بول” نفسه، بل أسطورته.

“فيلينوف”.. عمل ضخم ووجبة خالية من الدسم

قدّم “فيلينوف” عملا ضخما في الجزء الأول، وكلمة ضخم هنا يقصد بها المعنى المادي، أي أن الفيلم قدّم صورة مُبهرة لبيئة شديدة الضخامة تحوي عددا كبيرا من المباني والمركبات الطائرة والكائنات الحية، وقد أصرّ على بناء هذه الأماكن بالفعل حتى يكون تأثير الضخامة قويا وحاسما، وهذا واحد من أهم الأسباب التي نرشح من أجلها مشاهدة الفيلم في دار سينما، أو على شاشة كبيرة الحجم، لكن يبقى لنا أن تحتوي هذه الضخامة في الميزانية وأماكن التصوير ومدة الفيلم على محتوى مناسب لها يُرضي المشاهدين.

لقد كان “فيلينوف” محظوظا بإعادة إنتاج رواية فشلت محاولات إعادة إنتاجها من قبل، مما أدى إلى أنها لم تكن مشهورة بما يكفي كي يستقبل الجمهور عمله بوصفه إعادة إنتاج، فقد كان جمهور الرواية أو فيلم “لينش” جمهورا محدود العدد.

 

يتشكك البعض في قدرة “فيلينوف” على إشباع عطش الجمهور، إذ يرى عدد من النقاد أن الجزء الأول لم يقدم -على الرغم من طوله- وجبة قصصية دسمة بنفس القدر الذي يحتوي عليه من حيث الصورة والمحاكاة، بل يرى بعضهم أن “بول” لم يظهر بوصفه شخصية مألوفة يمكن للمشاهدين أن يشعروا بها ويتعاطفوا معها.

متعة السمع والبصر.. ملحمية مبهرة تشعل التعطش للمزيد

تميز الجزء الأول بطابع من الملحمية البالغة على المستوى البصري والصوتي، وليس من المبالغة في شيء أن نقول إن تحليل الصورة والصوت يحتاج إلى مقال منفصل لكل منهما، لكن الفيلم لم يستطع أن يقدم مضمونا على نفس الدرجة من الملحمية، وحين انتهى الفيلم تكوّن لدينا شعور غامض بخوض شيء غير مكتمل.

قد يكون سبب هذا هو أن القصة لم تكتمل بالفعل، وأن ما شاهدناه هو الجزء الأول فقط، وقد يكون السبب هو أن “فيلينوف” وضع كل تركيزه على صورة الفيلم معتمدا على الرواية وحدها في خلق المضمون. وعلى العكس من “بول”، فلن نعلم ما سيحدث في المستقبل حتى يحدث بالفعل.

إذن سيكشف لنا الجزء أو الأجزاء القادمة عن قدرة “فيلينوف” على مواكبة التطور التقني الهائل الذي استطاع أن يوظفه بأسلوب شديد الإتقان، وتركنا متعطشين إلى المزيد.

يمكننا إذن أن نقول إنك ستحب الفيلم لأن عينيك أو أذنيك أو كليهما ستستمتعان به، لكنك ستكرهه لأنه لن يروي ظمأك، ولن يعطيك أي ضمان أنه سيفعل ذلك في المستقبل.


إعلان