“أوليفر بلاك”.. لقاء الشيخ والشاب المهاجرين في الصحاري المغربية

المصطفى الصوفي
في تخوم أفريقيا يتسع الحلم حد الانبهار لامتداد السافانا الموحشة باتجاه المستحيل، التي تسافر فيها أسراب من الحجل البري إلى أوكارها النائية وقت الغسق، خوفا من وثبات النمر وهي في سُبات، بينما تستعد الوحوش الضارية للخروج بحثا عن صيد ثمين.
لكل البؤساء في مراتع السافانا أحلام بالهروب من قوانين جائرة وسلطة قاهرة بحثا عن الخلاص، مهما كانت طويلة رحلة العطش، ومهما كانت أهوال الطريق ودسائس المحتالين وبائعي وهم الهجرة لتخليص المعذبين من عذاب قديم.
الشاب الظريف الآتي من عمق أفريقيا هارب من جحيم المعسرات يجرّ رجليه في الرمال كأنما يقتلعهما من الوحل، لقد فاتته قافلة من الرجال والنساء الهاربين من ويلات الحروب وقانون الغاب، بحثا عن الأمان والحرية وحلم صغير في كف عفريت.
الغريب في صحاري قاحلة لا ترحم بطلا أسطوريا لم تنحته أنامل فنان من اليونان، هو أنه تحدى البطش والعطش وتحدى الجوع وهول الطريق وسوء المنظر، تحدى التحدي ليحقق حلما طالما راوده منذ الصغر.
“فيندر ودي”.. رحلة من قمم أفريقيا إلى الحلم
“فيندر ودي” هو شاب أفريقي في مقتبل العمر، قدّر له عبور الصحراء المغربية قادما من عمق أفريقيا بعد رحلة أسطورية هاربا من كوابيس قاتلة، وحالما بأن يصل إلى المغرب الأقصى ثم إلى أوروبا، فقط من أجل إبراز مواهبه في مجال السيرك، وجعله فضاء ترفيهيا لكل المهمشين والمهاجرين والمعذبين، مهما اختلفت اللغات ولون البشرة والاعتقادات.
تلك إذن أولى بوادر الفرجة السينمائية للفيلم المغربي الجديد “أوليفر بلاك” (Oliver Black) للمخرج توفيق بابا الذي يتطلع من خلاله إلى الفوز بإحدى جوائز “غولدن غلوب” العالمية المرتقب توزيعها في الثامن والعشرين من شهر فبراير/شباط الجاري.
هذا الفيلم -الذي شدّ الانتباه إلى جمهور الدورة الأخيرة من المهرجان الوطني للفيلم بمدينة طنجة المغربية خلال السنة الماضية- هو من بطولة السينغالي “مودو مباو” المقيم بمدينة الدار البيضاء وحسن ريشوي وإلهام أوجري ومحمد الكشيري، وهو من إنتاج شركة “سيني موا” بتوقيع من المنتجة رباب أبو الحسني.
يطرح محور الفيلم رؤية سينمائية جديدة لأشهر خطاب تاريخي ألقاه القس والناشط الأمريكي “مارتن لوثر كينغ” بعنوان “عندي حلم” سنة 1963، وقد دعا فيه إلى نبذ العنصرية وتحقيق العدالة الاجتماعية بين الأمريكيين الأفارقة والبيض.
“أوليفر” المسكين بعد خروجه من قمقم أفريقيا الموحشة والشاسعة، ووصوله إلى الأراضي الصحراوية المغربية الجنوبية؛ يتيه من جديد في أرض مترامية الأطراف وقاسية بأحجارها، حيث لا ماء ولا زرع ولا طير ولا شجر ولا ظلال.
هذا الفتى الحالم في صراعه مع موت محقق ووحدة قاتلة بحثا عن الخلاص، والخروج من مأزق التيه وضياع الطريق، وتحقيق حلم صغير، يلتقي صدفة مع رجل مسن مغربي جزائري أصابته لعنه الطرد من التراب الجزائري، ليعود إلى الديار مهما بلغت الجراح وطول المسافات وأمراض البدن، ومهما اشتعل الرأس شيبا وهو وقار.

شيخ الصحراء وفتى السافانا.. رياح الهجرة
يشبه الشيخ العجوز في فيلم توفيق بابا “شيخ البحر” للكاتب “آرنست همينغواي” الذي اصطاد سمكة ضخمة، وحلم بأن يصل بها إلى الشاطئ ليتباهى بها أمام الصيادين، لكن كنزه الثمين ذاك التهمته الأسماك الصغيرة قبل الوصول إلى بر الأمان.
شيخ توفيق بابا هارب من قسوة الجيران، ومطرود من رحمة الأحبة، له هو الآخر حلم صغير، لكنه بالنسبة له يساوي الكثير، وهو الدخول إلى الديار المتاخمة للحدود المغربية الجزائرية، وتقديم هدية لابنته كعربون محبة أبوية لا تموت، مهما بعدت المسافات، ومهما تجرّع مرارة الفقد والحرمان.
في قراءة عاشقة لفيلم توفيق بابا، ومن ناحية المضمون، يمكن استنباط الكثير من القضايا التي ركّز عليها المخرج كإشارات فنية ودلالات رمزية يريد بها المخرج إيصال عدد من الرسائل إلى الجمهور بشكل عام.
لعل أبرز تلك الرسائل المطروحة هي إشكالية المعاناة في بلاد الاستقبال حتى ولو كانت مسقط الرأس، فالشاب الحالم بعبور الصحراء وفيافي السافانا بحثا عن تحقيق الحلم والاستقرار، لم يكن على أحسن حال في بلده بسبب الكثير من المعضلات مثل الفقر والمرض والحروب وقانون الغاب الذي يأكل فيه القوي الضعيف ويستعبده أيما استعباد.
أما بالنسبة للشيخ -الذي يحاكي نوعا ما الشاب الصحراوي في الحلم والفقد والجراح- فهو يعاني هو الآخر في البلاد التي كان يستقر بها ليطرد، ويتحدى غصّة القلب للعودة إلى الديار والتخلّي عن حرفته في سوق النخاسة ويثوب، لكن القدر كان له رأي آخر.
تظهر قضايا أخرى في الفيلم أبرزها قضية الهجرة، فمهما كانت بادية للعيان من خلال عبور الفضاءات والأمكنة القاسية، فإنها هجرة رمزية من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع.
إشكالية الصدام بين الشخوص.. صناعة التشويق السينمائي
لكل شيء في الفيلم علامة فنية ورموز سينمائية، فالصحراء رمز، واللون الأسود، والليل والخلاء والفراغ، والنار والشمس والصقيع، جميعها رموز تستوجب من الجمهور قراءتها بتمعن.
كما تبرز في الفيلم أيضا قضايا أخرى ليست أقل أهمية من القضايا السابقة، لعل أبرزها قضايا العنصرية والمرض والصداقة والصحبة الطيبة والتعاون والظلم والتحدي والتشبث بالأمل، وحب حياة في صراع البشر مع الفراغ والجوع والعطش والطبيعة والموت البطيء.
يظل عنصر الحلم في الفيلم حافزا قويا لتناسل فيض من المشاهد والصور، وبدون حلم الرجلين البطلين، وتطلعهما إلى الأفضل، والوصول إلى إشراقة الصباح المنبلجة من أفق التمني؛ تكون الفرجة السينمائية خاسرة إلى أبعد حدود.
ويبقى هذا الحلم المشع في عيون “أوليفر” عنصرا أساسيا في خلق نوع من التشويق وإنتاج المعنى السينمائي، فرغبة الشاب المتوجس والمتعب في تحقيق نداء الروح، ورغبة الرجل المسن إلى كبح جماح احتقار قديم، ولقاء الأهالي خاصة ابنته التي تنتظر إطلالته، جعلت المخرج يضاعف مجهوده الفني والتقني للوصول إلى نهاية تسعد المتفرج على كل حال.
لكن المخرج اختار تقنية ربما تكون أصعب، ليس من أجل نهاية فيلمية كلاسيكية سعيدة، بل من أجل نهاية أكثر درامية وغير متوقعة خاصة بالنسبة للشاب الأفريقي، حيث يتحول حلمه إلى كابوس، فضلا عن الشيخ الذي قهره المرض بشكل فظيع.
هذه الكوابيس تخلق نوعا من الرجة النفسية لدى المتلقي فتشد انتباهه، حيث ينكسر حلم الشاب الأفريقي على حافة الصحراء، ليسقط في أيدي تنظيم مُتطرف، ويباع في سوق النخاسة كسلعة سوداء بلا وزن ولا قيمة ولا روح.
يطرح المخرج إشكالية الصدام بين الشخوص، وبين ما يقع بينها وبين الأمكنة والأزمنة وباقي عناصر الفرجة الفيلمية، وهي طريقة بارعة فيها الكثير من التشويق ومعاكسة إحاسيس الملتقي، لكن فيها أيضا الكثير من القسوة الفرجوية التي هي في نهاية الواقع محاكاة للواقع والحقيقة.
في رحلة شيخ الصحراء ومحارب السافانا، يطرح المخرج كثيرا من الإشكاليات الوجودية والكونية التي ترتبط بالإنسان في هذا العالم الشاسع، مثل صحراء لها سراب لا محدود بلغة فنية شاعرية، وهو يوضح تمكن هذا المخرج الشاب من أدواته الفنية والسينمائية.

شاعرية الصورة في ورزازات.. سحر هوليود أفريقيا
تشكل شاعرية الصورة إحدى العلامات الرقيقة في عالم “أوليفر بلاك”، وقد ساهم في إنضاج تلك اللوحات الصورية الفنية التي التقطتها الكاميرا من زوايا مختلفة سحر الطبيعة في منطقة ورزازات التي تلقب بهوليود السينما في أفريقيا.
شاعرية الصورة في براري ورزازات الخرافية التي أوجدها المخرج توفيق بابا تستحضر بكل معاني الإبداع الجذّاب خيال أفلام عالمية صُوّرت بورزازات، لعل أبرزها “الإسكندر الأكبر” لمخرجه “أوليفر ستون” من بطولة “كولين فارول، و”المومياء” لمخرجه “أليكس كورتزان” الذي جمع “توم كروز” و”راسل كرو”، فضلا عن الفيلم الشهير “غلادياتور” من إخراج “ريدلي سكوت” وبطولة “راسل كرو”، وقد حاز على عدد من جوائز الأوسكار.
بهذه الصور الفاتنة والتشويق الحلو يكون توفيق بابا قد وضع أولى خطواته السينمائية الرائعة، في انتظار أفلام روائية طويلة للدخول إلى عالم الكبار والبحث عن تتويجات عالمية لها أريج الصحراء بلياليها الحالمة، وسحر ورزازات التي لا تمل منها العيون ولا الخاطر.
شكّل فيلم “أوليفر بلاك” نموذجا لفيلم حكايته عميقة ووسائله بسيطة وموارده المالية شحيحة للغاية، فالعبرة ليست برصد مبالغ ضخمة لإنجاز فيلم جميل، بل في كثير من الأحيان بوسائل متواضعة وبتطوع الكثيرين يمكن صناعة أجمل صورة، وتصوير أفضل حكاية، والوصول إلى خلخة ذاكرة المتلقي، وإنتاج معاني الجمال والسحر في السينما.
بهذا تبرز قوة هذا الفيلم في طرحه لقضايا مهمة لامست شعور الجمهور بشكل كبير، مهما كانت ميزانيته متواضعة وإنتاجه إنتاجا ذاتيا، مع تطوّع العديد من عشاق السينما في المنطقة، وكذلك العديد من التقنيين الذين يؤمنون بأن السينما مبيت في العراء، والبحث عن نجوم الحبيبة في سماء ليلة صافية، مهما كان الصقيع، وعشق قبل أن تكون مال وأعمال.

أفضل فيلم أجنبي.. منافسة المهرجانات الدولية
فاز الفيلم بعدة جوائز دولية أبرزها جائزة أفضل فيلم أجنبي في الدورة الأخيرة من المهرجان الدولي للسينما بالبرازيل، وجائزة أحسن فيلم دولي في المهرجان الدولي الأخير للسينما بإسبانيا، وأيضا فوزه بجائزة أحسن دور رجالي للممثل حسن ريشوي، وأفضل ممثل ثانوي للممثل “مودو مباو” خلال الدورة الـ21 للمهرجان الوطني بطنجة، فضلا عن جائزة دولية أخرى بالولايات المتحدة الأمريكية.
بهذا التتويج المستحق يتطلع المخرج توفيق بابا للتنافس بقوة على جوائز “غولدن غلوب” في دورتها الـ77 الشهر الجاري، ضمن مشاركة 77 دولة أجنبية، وست مشاركات عربية قوية.
ويتنافس الفيلم المغربي مع أفلام عربية هي “الرجل الذي باع ظهره” لكوثر بن هنية من تونس، و”بين السماء والأرض” لنجوى نجار من فلسطين، و”200 متر” لأمين نايفة من فلسطين كذلك، إضافة إلى فيلم “ستموت في العشرين” لأمجد أبو العلا من السودان، و”مفاتيح مكسورة” لكيروز ذجيمي، و”سي سيكسيون” لديفيد أوريان من لبنان.
بهذه التجربة السينمائية الواعدة لابن مدينة ورزازات، والذي سبقته تجربة خمسة أفلام روائية قصيرة جميلة؛ يكون توفيق بابا قد وقّع على عمل سينمائي مُحترف بمقاس الأعمال السينمائية العالمية التي تتخذ من ثنائية الشكل والمضمون مقياسا لصناعة الفرجة للمتلقي، وذلك في قالب فني قوي ينهل من السهل الممتنع لتجاوز الحدود الوطنية وتحقيق النجومية.
تجربة بابا قامت على فكرة محاكاة تحدي الحلم وتكريسه كأفق ذاتي من أجل الجميع، من خلال لمّ الشتات الأفريقي، بغض التظر عن اللون والجنس والعقيدة تحت خيمة واحدة يقدم فيها البطل السينغالي “مودو” ألعابه السحرية في سيرك كبير، وهو يبستم بملء سحر الصحراء العابرة والسافانا.
“أوليفر بلاك”.. فرجة سوداء بمذاق الشوكولاتة
إنه أول فيلم روائي طويل لابن مدينة ورزازات إحدى بوابات أفريقيا، حيث تتيه هواجس محارب السافانا في الصحراء، فتصل إلى سوق العذاب لتجار البشر، لكنها تهرب بلا رجوع باتجاه ضوء الشمس رمز الحرية والحلم والحياة.
فيلم “أوليفر بلاك” هو فرجة سوداء لها مذاق الشوكولاته، وحكاية درامية صيغت في قالب فني محكم، سواء من حيث السيناريو، أو من خلال طريقة التصوير التي قادها فريق شاب يتطلع إلى العالمية.
إن الفيلم الذي شكل تجربة شبابية برؤية جديدة من هوليود أفريقيا، يُعدّ أيقونة سينمائية حالمة مفعمة بالتحدي، وصوتا سينمائيا للتائهين والمهمشين والحالمين والعابرين لحدود المستحيل، وذلك لبناء فضاء إنساني مشترك تترسخ فيه قيم التسامح وروح الهويات.