“نظام جديد”.. ثورة القاع المعدم على القمة المترفة في المكسيك

خالد عبد العزيز

“فليأكلوا البسكويت ما داموا لا يجدون خبزا”. إنها العبارة الشهيرة التي تُنسب إلى ماري أنطوانيت زوجة الملك لويس السادس عشر، وقد قالتها أثناء اندلاع الثورة الفرنسية في نهايات القرن الثامن عشر بكل دهشة واستنكار على تردي الأحوال الاقتصادية ومُطالَبة الشعب بحقوقه، إنها تلك الثورة التي لا يزال صداها يتردد حتى الآن، فرغم تعاقب الأزمنة وتبدل الوجوه، فإن المنوال واحد ثابت لا يتغير.

هذا ما يلتقطه المخرج المكسيكي “ميشيل فرانكو” في فيلمه الجديد “نظام جديد” (Nuevo Orden)، الذي عرض في المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية السينمائي الدولي في دورته الـ77، وحصد جائزة الأسد الفضي، أو جائزة لجنة التحكيم الكبرى.

يبدو الفيلم مهموما بالتعبير عن عدة أفكار يتعلق أغلبها بالظلم الاجتماعي، والصراع الطبقي بين الأثرياء والفقراء، ونظرة كل طرف للآخر، وكيف يتعاملون مع بعضهم، فكل منهما يرى في الآخر شيطانا وجبَ رجمه والتخلص منه. كما يقدم الفيلم إنذارا شديد اللهجة ليس للأنظمة الاقتصادية فحسب، بل للجميع بلا استثناء، فالوضع لا يحتمل، والطبقات الأدنى تموج تحت صفيح ساخن.

تتأجج نيران ثورة فجأة، ولا أحد يدري ما الذي يجري على وجه الدقة، فقوات الشرطة تحيط بالميادين، وتطبق عليها الحصار، وفي خضمّ كل هذه الإجراءات يُقيم السياسي ورجل الأعمال “إيفان نوفيلو” (الممثل روبرتو مدينا) حفل زفاف ابنته “ماريان” (الممثلة نيان جونزاليس نورفيند) بين جدران قصره المحصن، لتقتحم جموع الثوار الغاضبين القصر أثناء الحفل، ويتحول الزفاف إلى كابوس لا يكاد ينتهي، كاشفا العديد من التناقضات داخل المجتمع. هكذا تدور أحداث الفيلم في إطار كابوسي قد يصل لدرجة الصدمة أحيانا.

 

لوحة الاقتتال المعلقة.. رمزية الفوارق الطبقية

يبدأ الفيلم بمشهد نرى فيه الكاميرا تتحرك ببطئ نحو لوحة قريبة من أسلوب الفنان التشكيلي الروسي “فاسيلي كاندينسكي”، وتُشير إلى شجار أو اقتتال على شيء ما، وكأن هذه اللوحة ما هي إلا تحذير لما سيأتي، ثم نرى اقتحام بعض الثوار لإحدى المستشفيات وهم يزيحون المرضى من أسرتهم لوضع المصابين بدلا منهم، فحالتهم أحوج للعلاج، ثم نتنقل للمشهد التالي في قطع مونتاجي حاد، حيث حفل زفاف “ماريان”، والبهجة تعلو وجوه الحاضرين.

جعل السيناريو رحى الأحداث تدور بين عالمين يتضاد كل منهما مع الآخر، ويكادان أن يقفا في مواجهة بعضهما، فالعالم الأول هو الفقراء أو طبقات الشعب الوسطى وما يليها، حيث تبدأ مشاهد الفيلم بهم، فهم حجر الزاوية، وذلك في انحياز واضح وصريح من السيناريو لجانبهم، فالخدم والحُرّاس وغيرهم من العاملين لدى الأثرياء هم سكان العالم الأول الذين يبدون منسحقين ولا حول لهم ولا قوة، وتقوم على أكتافهم أركان العالم الآخر.

أما العالم الآخر فهو عالم الأثرياء، حيث السياسيون ورجال الأعمال المدعوون في حفل الزفاف، فهم يبدون غير مبالين بما يدور خارج قصورهم المحصنة، ليس عن جهل بل عن ترفع، ففي أحد المشاهد نرى إحدى المدعوات تدخل إلى الحفل وملابسها مُلطخة بدهان أخضر، وصديقاتها يمسحن عنها ذلك الطلاء باشمئزاز شديد، وكأن ما يدور حولهم لا يمسّهم أو يطالهم، أو كأنه يدور في بلد أخرى غير بلدهم.

قد يبدو هذان العالمان متباعدين، أو كل منهما في سياق مختلف عن الآخر، لكن السيناريو يجعل من مشهد لقاء “رولاندو” (الممثل أليخيو ملينديس) الخادم السابق لدى أسرة “إيفان نوفيلو” بالسيدة “نوفيلو” (الممثلة ليسا أوين) نقطة التقاء بين العالمين، ويجعل الأحداث تتدافع نحو الأمام في تحول مختلف عن المتوقع، ففي أحد المشاهد نرى “رولاندو” وهو يطلب من السيدة “نوفيلو” سلفة مالية لعلاج زوجته المريضة بالقلب، ليصبح هذا المشهد نقطة تحوّل في السرد، وكاشفا عن صفات كل طبقة وتعاملها مع الأخرى.

“رولاندور” الفقير يطلب مساعدة “ماريان” الثرية في جمع المال لعلاج زوجته

 

كبرياء الفقير ولؤم الثري.. جدلية الأعلى والأسفل

رسم السيناريو شخصيات كل عالم بصفات تختلف عن الأخرى بشكل يجعل الصدام بينهم على وشك الانفجار، فحينما يطلب “رولاندو” المال لعلاج زوجته، نرى السيدة “نوفيلو” وهي تمر على مدعوي الحفل وتطلب منهم مبالغ مالية لتغطية المبلغ المطلوب، وفي النهاية لا يكتمل المبلغ رغم قدرتها على الدفع مباشرة له، فقد جعل السيناريو الشخصيات الثرية لا قلب لها، ولا يعنيها سوى ذاتها ومصالحها الشخصية، وبالتالي بدت خاوية من المبادئ، وتتمتع بجوع لا نهائي للسلطة والمال.

في المقابل جعل السيناريو شخصية “رولاندو” تتميز بكبرياء وعزة لا تشوبهما شائبة رغم احتياجه للمال، فنراه في مشهد مطالبته للمال يقف مرفوع الرأس دون إحساس بالخجل أو بالدونية، بل يبدو وكأنه هو الأعلى، والسيدة “نوفيلو” هي الأدنى، في مشهد مُعبر عن تباعد الطبقتين واختلاف كل منهما عن الأخرى، وتكتمل هذه المقارنة في مشهد وصول “ماريان” لمنزل “رولاندو” وحمايته لها من جموع الثوار الغاضبين الذين بدا انتشارهم في الشوارع تعبيرا عن تمردهم ضد تدني الأوضاع الاقتصادية.

هذا الاختلاف بين العالمين هو ما يجعل السرد يتدفق مُفجرا العديد من الأحداث غير المتوقعة، بصورة كابوسية تصل لدرجة أفلام الرعب الهوليودية المنشأ، لكنها هنا تحوي بين طياتها رؤية ما وهمّا لا يُمكن إغفاله.

جموع الثوار يقتحمون بشراسة قصر “نوفيلو” أثناء مراسم حفل زفاف أحد رجال الأعمال في المكسيك

 

اقتحام الثوار للقصر.. معركة إثبات الحق في الحياة

ترفض “ماريان” أسلوب والدتها مع “رولاندو” لتتوجه إلى منزله تاركة حفل زفافها رغبة منها في دفع تكاليف علاج زوجته، دون أن تدري حقيقة الوضع خارج أسوار القصر، فالمظاهرات مُنطلقة بكامل قوتها في الشوارع، تقتحم المحلات وتسلب وتنهب، وفجأة ينطلق بعض هذه الجموع نحو قصر “نوفيلو” حيث مراسم حفل الزفاف لتقتحمه بشراسة، دون أن يحاول أيّ من الحراس المدججين بالأسلحة التعامل معهم، فالجميع متواطئ.

لا شك أن هذا المشهد هو الأقوى كتابة وإخراجا، ومن حيث التحكم في المجاميع والسيطرة عليها، حيث نرى تدافعهم الشره نحو غرف القصر لسلب محتوياته، حتى أن ملابس الحاضرين لم تسلم من أيديهم الجائعة، وذلك في مشهد يعبر عن الشراسة بقدر ما يعبر عن حجم الظلم الذي تتعرض له الطبقات الأخرى، فما الذي يدفع هؤلاء للتحول إلى هذا النقيض سوى رغبة منهم في التعبير عن غضبهم، لعل صوتهم يُسمع لنيل حقوقهم المسلوبة؟

وهنا تتضح أكثر معالم الصراع الدرامي، ليس بين الأثرياء والفقراء فحسب، لكنه صراع مصيري حول الحق في الحياة، فالطبقات الأدنى يزداد إحساسها بالكبت في ظل تعاظم الثورة لدى فئة قليلة من أفراد المجتمع، مما ينشأ عنه ثورة جياع لا يقدر أحد على الإمساك بزمامها، فالعواقب ستطال الجميع دون تفرقة، والسبب في هذا يُخبرنا به السيناريو بشكل مباشر وصريح يتوافق مع أسلوب الفيلم، ألا وهو محاباة النظام الاقتصادي لطرف على حساب الآخر.

الذعر يبدو على وجوه الأثرياء الحاضرين لحفل الزفاف بعد اقتحام الثوار لقصر “نوفيلو”

 

تبادل الأدوار.. مشهد متفرد في تاريخ السينما

تمثل لحظة افتحام المتظاهرين للقصر نقطة تحوّل درامية في الأحداث، حينها تتبدل زوايا الرؤية وأيضا الأدوار، فحينما تظهر بوادر الاقتحام ينادى السيد “إيفان” صاحب القصر على الحراس، لكنهم يباغتونه بالتحول المفاجئ لجانب الثوار، وهنا يصبح مَنْ هو مع الأثرياء ضدهم، ومن هو ضد الثوار ينحاز إليهم، في مشهد لم يسبق له مثيل في تاريخ السينما، ليكشف عن سيناريو محبوك البناء منسوج أحداثه ببراعة لافتة للنظر.

يتخلخل النظام فجأة ليصبح ما هو أدنى في الأعلى، وينتقل الأعلى نحو الأسفل بغتة، حيث نرى الخدم وهم يسرقون كل ما تطاله أيديهم من تحف وأنتيكات وغيرها من كل ما خفّ وزنه وزاد ثمنه، والبعض الآخر ينزع ساعات اليد والملابس من أجساد مدعوي الحفل، وعلى الناحية الأخرى وجوه الأثرياء يعلوها الرعب والفزع بعد أن كانت تموج بالنشوة والسعادة.

كما لا يفوّت السيناريو هذا المشهد دون أن يُعبّر عن تخلخل هذه الطبقة وخوائها، ففي أحد المشاهد نرى أحد المدعوين وهو يرفض تحويل أمواله بنكيا لحساب أحد المتظاهرين رغم تهديده بقتل زوجته التي تُقتل بالفعل دون أن يهتز له جفن.

خيام المتظاهرين بعد أن تم تدميرها من قبل الشرطة المكسيكية التي تقف ضد ثورتهم على الطبقة العليا في المجتمع

 

ماء الصنبور الأخضر.. تغلغل الثورة في الطبقة العليا

نسج السيناريو أحداثه في نسيج خطي تتصاعد أحداثه باستمرار، فهو مشوب بالرموز والدلالات الموحية التي تلفت النظر وتقبل التأويل، وقد بدأ ذلك منذ المشاهد الأولى، حيث نرى السيدة “نوفيلو” وهي تفتح صنبور المياه ليندفع من خلاله ماء أخضر شعار الثورة الجديدة، وحينما تُبلغ زوجها بالأمر يكتشفان أن الماء المنساب شفاف اللون أي يعود لطبيعته، فالإشارة هنا واضحة إلى تغلغل الثورة وانسيابها لداخل الطبقات الأعلى، وكأن الثورة تسكن بينهم دون الإحساس بها، كما يُشير إلى انعدام الأمان وازدياد الشعور بالفزع.

مشهد أخر يُبرز لنا دلالة أخرى، ألا وهو حينما يقف الحارس “فيليب” أثناء نوبة حراسته للقصر بدون ارتداء معطف البدلة الخاصة به، قائلا إنه يكره ارتدائها، ومع تدقيق النظر إلى هيئته نجده يبدو أقرب إلى التسيب بعيداً عن هندام ونظام الطبقات الأعلى، في إشارة إلى تمرده الخفي الذي سينطلق ويتشعب فيما بعد مع اندلاع شرارة الثورة.

الخادمة “مارتا” وابنها بعد تسليمهم لأحد الضباط مبلغ الفدية من أسرة “ماريان” لتحريرها

 

“ماريان” المختلفة.. فدية التحرير من عصابة الشرطة

تندفع “ماريان” لإنقاذ زوجة “رولاندو” تقديرا منها لدوره ودورها في خدمة أسرتها لسنوات، فقد جعل السيناريو شخصية “ماريان” تختلف كليا عن باقي عائلتها، فالجميع ليسوا على حد سواء، وقد نصب السيناريو أمامها العديد من الأفخاخ لتبدو وكأنها مفعول بها، أو رد فعل.

بعد وصول “ماريان” إلى منزل “رولاندو” يصبح أمر عودتها للمنزل محالا، فحظر التجوال بدأ تطبيقه في سائر أنحاء البلاد، لكنها وقعت تحت قبضة بعض رجال الشرطة الفاسدين، فقاموا بمطالبة أهلها بدفع فدية مالية لفك أسرها.

من الناحية الأخرى اتخذ السيناريو من شخصية الخادمة “مارتا” (الممثلة مونيكا ديل كارمن) هي الأخرى بفطرية شخصيتها معادلا للطبقة الفقيرة التي تحمي الطبقات الأخرى، فبعد القبض على “ماريان” تندفع “مارتا” وابنها لمساعدة أهل “ماريان” لفك حصار أسرها، حيث نراها في أحد المشاهد وهي تُسلّم الضباط الفاسدين مبلغ الفدية بعد استلامه من أسرة “ماريان”.

 

ألعاب الشرطة الفاسدة.. رؤية فاسدة عن الثورات

يطرح سيناريو الفيلم أسئلة جوهرية، ألا وهي من يدفع ثمن الثورات، وهل حقا تأكل الثورة أبناءها؟ بعد اندلاع الثورة يودع الأثرياء داخل أسوار قصورهم المحصنة في ربوة عالية، أما الفقراء فهم حبيسو منازلهم والشرطة تحاصرهم من جميع الاتجاهات.

وفي أحد المشاهد نرى عناصر من الشرطة الفاسدة يمارسون القتل ضد بعض الثوار المحاصرين في أحد الميادين، وفي مشهد آخر صادم نرى جثث المتظاهرين وهي ملقاة داخل إحدى الشاحنات في وضع مهين.

لقد أجاب السيناريو عن السؤال السابق عبر هذه المشاهد الصادمة المعبرة، فالفقراء هم من يدفعون الثمن بالنهاية في تضحية مستمرة لا تكاد تنتهي، فالفيلم يقدم رؤية ساخرة عن الثورات وتضحية الفقراء الدائمة، فكلما كثرت التضحيات انعدم التقدير، فالتقدير لا يُمنح سوى لفئة محددة لا تتعدى أصابع اليد الواحدة.

مخرج وكاتب سيناريو الفيلم المكسيكي “نظام جديد” ميشيل فرانكو الذي استطاع نقل البُعد الاجتماعي للفيلم

 

ثراء فاتح وفقر قاتم.. لغة الإضاءة

تطالعنا منذ المشاهد الأولى من الفيلم المقارنة الحيّة بين عالم الأثرياء والفقراء، ليس من خلال السرد فحسب، بل من خلال الصورة التي جاءت هي الأخرى معبرة عن هذا التضاد، فمشاهد حفل الزفاف إضاءتها فاتحة الألوان، هذا غير ضوء النهار بالأساس. وفي المقابل عالم الفقراء الذي نرى مشاهدهم مصورة في إضاءة قاتمة نوعا ما، وتغلب عليها الألوان الباهتة ذات الضوء الخافت، أو بمعنى أدق أقرب إلى الظلام منها إلى الضوء.

هذه الإضاءة القاتمة تمتد إلى مشاهد السجن، حيث مكان احتجاز “ماريان”، وبالتالي تتوافق هذه الإضاءة مع الطبيعة المكانية لما يدور بالداخل، حيث عمليات الاغتصاب الجماعي للفتيات والشباب على حد سواء، في مشهد شديد القسوة يبث شحنة لا بأس بها من الرعب داخل نفوس المتفرجين.

هذا الرعب يطرح من بين طياته عدة أسئلة تتعلق ليس بما يدور بداخل بلد أحداث الفيلم المكسيكي، بل بما يدور في العالم بصفة عامة، حول حقوق الفرد المتناثرة لدى الأثرياء، فقد جعل السيناريو الأحداث تدور بشكل متسارع ووفق إيقاع لاهث يجعل المتفرج يركض وراءه، وصاحَب هذا الإيقاع جرعة صاخبة من المشاهد المثيرة التي تتلاحق في وتيرة واحدة لا تهدأ، وبأسلوب كابوسي قاتم ساخر في بعض الأنحاء، مثل مشهد النهاية، حيث نرى الخادمة المطيعة “مارتا” التي حاولت إنقاذ “ماريان” أمام مقصلة الإعدام، بينما يجلس القادة في الصفوف الأولى متابعين عملية تطهير البلاد من الأوغاد، ليرتفع بعدها العلم المكسيكي مع موسيقى النشيد الوطني في رمزية ساخرة، فالمُضحّي هو من يدفع الثمن، في حين يجلس اللصوص في الصفوف الأولى، فالوضع مأساوي حسب تعبير مخرج الفيلم “ميشيل فرانكو”: يتناول الفيلم البعد الاجتماعي، بالنسبة لي يتعلق الأمر أكثر بدعونا لا نصل إلى هذه النقطة، من المهم تغيير الطريقة التي نعيش بها، لأننا بخلاف ذلك سنصل إلى هذه النقطة.

ويبقى السؤال المطروح: ترى هل وجدت صرخة “ميشيل فرانكو” صداها أم ضلت سبيلها في النظام الجديد؟


إعلان