“أرض النساء”.. سيطرة المرأة على المجتمع في أقاصي الكوكب

ندى الأزهري
مساحات شاسعة خضراء تمتد على جانبي طريق تعبره “آنا” بدراجتها النارية على وقع موسيقى عصرية غربية، فالفتاة اختارت الوفاء لوعد قطعته منذ سنوات، وهو العودة إلى مسقط رأسها بعد انتهاء دراستها الجامعية، وذلك لتولّي أعمال والدتها، فهي على وشك الزواج من زكي، وستأخذه للعيش في منزل العائلة كما تملي التقاليد.
ضمن سلسلة وثائقية من أربع حلقات تنطلق للالتقاء بالمجتمعات التقليدية في الهند والصين وأندونيسيا والموزمبيق، حيث النساء هناك يمتلكن السلطة وينقلنها، وهن من يقررن في مجتمعهن؛ بثت محطة “آرتي” الثقافية الفرنسية الألمانية حلقة “أرض النساء”(2020) من أندونيسيا.
الفيلم الفرنسي الذي أنجزته “آناييس موليا” ينطلق من مقاطعة مينانغكابو في جزيرة سومطرة، حيث تهيمن المرأة في هذا الشعب المسلم الذي يُعدّ أكبر مجتمع أمومي في العالم، فالمرأة هي التي تنقل الاسم والمنزل وحقول الأرز إلى نسلها، فيما ينزل إلى زوجها دور الضيف. فكيف سيبدو العالم الذي تحكمه النساء، وهل سيكون أكثر مساواة أم أفضل تنظيما، أم أقل عنفا كما يودّ البعض أن يعتقد، وهل يمكن للمرأة أن تكون أكثر فاعلية من الرجل في الإدارة؟

تزويج البنات لضمان استمرار السلالة.. مجتمع المرأة المسيطرة
يتتبع فيلم “أرض النساء” عدة مسارات للتعريف بهذا المجتمع، وقد اختارت المخرجة عرض حالات عدة تسلّط كل حالة منها الضوء على جانب من جوانب هذا النظام الأمومي، فقد اعتمد بناء الفيلم على أسلوب التحقيق التلفزيوني عبر سرد قصص واقعية ترك فيها التعبير للشخصيات دون محاولة اللجوء إلى تحليل نظري معمّق، وانطلق من الخاص لرسم وضع عام. هو أسلوب تعريفي لا يقلّ أهمية عن دراسات نظرية، وكما يبدو فهو أكثر جذبا وجلبا للفضول، لا سيما وأنه أحاط بعدة أوضاع، وأبدى على نحو بسيط وواقعي تحوّلات مجتمع في العمق، مجتمع غير أليف لكثيرين، تحكم فيه المرأة وترث وتورّث.
في سومطرة حيث يعيش ثلاثة ملايين مسلم على تقاليد ورثوها عن الأجداد، تعيش الشابة “آنا”، وهي فتاة وحيدة مرحة محجبة تحب زكي، ويُهيئان معا مستقبلهما بعد الزواج، وعلى زكي أن يتبعها إلى بيت أهلها ويعيش معها هناك، فقد رضي بهذه “القسمة” مثله مثل معظم الشباب.
يتابع الفيلم مع “آنا” معرفا بها وبخطيبها من خلال كلماتها وعرض صور من حياتها اليومية، في البيت وفي المسجد وفي المتجر الذي أسسته أمها وحدها، وعليها الآن أن تستلم إدارته.
وعلى نحو مغاير لما يجري في أماكن أخرى من العالم، لا سيما في المجتمعات الشرقية والمسلمة، فإن العُرف في قبيلة “مينانغكابو” يقوم على ضرورة تزويج الفتاة من أجل استمرار سلالة العائلة، فهي من سترث كل شيء، من البيت إلى الأراضي إلى الممتلكات، وهي التي ستحقق استمرار النسل بإعطاء أبنائها اسمها، وهنا ليس قدوم الصبي هو المنتظر والمأمول، بل البنت.

“يجب أن تكون قويا، وتصلي بانتظام”.. تبادل أدوار العروس والعريس
“آنا” -تستعد كما تقول- لدفن حياتها كعازبة وحمل مسؤولية ثقيلة على عاتقها، فتحضيرات الزواج والحفل ذاته يبديان بجلاء من سيحمل الهم على عاتقه وواجبات كلا الزوجين، فبينما تبدو “آنا” بكامل زينتها وعلى رأسها تاج ضخم جميل ثقيل ومعقّد تحمله باستقامة كرمز عن مسؤولية قادمة عليها تحملها بعزة ورفعة؛ فإن الزوج هو من تدمع عيناه لمغادرة أهله، وهو من يتلقى النصائح من أمه، وتُحضّرُ له حقيبة أغراضه الشخصية.
كما تبرز هذه التحضيرات بعض قوانين المجتمعات الأمومية، كدور الخال الأساسي مثلا في الزواج، حيث أن موافقته أساسية، وهو من يعطي النصائح للزوج بالقول “يجب أن تكون قويا، وتصلي بانتظام”.
يبدو زكي متأثرا، فهو يعرف أن عليه التأقلم مع عائلة جديدة، وأن هذا قد يؤثر على توازنه النفسي، وأن بيته لم يعد بيته، بل بات لأختيه.
يترك السرد لكل شخصية الحديث عن مشاعرها كالأبوين مثلا، وهنا لم ينجُ من تكرار لما سبق وشرح، ويبدو كما لو أنه استنفذ معطياته، لكن الانتقال نحو قصة أخرى سرعان ما رفع من مستوى السرد، لا سيما أن شخصياتها بدت أكثر عمقا ودلالة.

قدوم الإسلام على الهندوسية.. تغير الأديان وصمود التقاليد
هذا الجزء هو الأكثر تعبيرا في الفيلم، فمع مداخلة “بويونغ” الأب وابنته “غامي” (27 عاما) وهما من نفس القبيلة، تثار مسألة التناقض في وجهات النظر بين الآباء والأبناء حول العلاقة مع الدين والتقاليد، وتبدو الهوّة بين الأعراف الأصيلة والطارئة، خلافا لما ظهر في قصة “آنا”.
يتابع الفيلم تعريفه بجوانب النظام الأمومي من خلال آراء الأب، فالنساء لا ينتظرن الزوج في البيت فهذا ليس من طباعهن، بل إنهن يعملن ويكدحن طوال النهار، وأما الرجل فهو مُخيّر بين الاستفادة من عملهن والعيش معهن، أو القدوم إليهن كما يحلو له مرة في الأسبوع مثلا، وحين تصبح المرأة راشدة تقرر لها العائلة زواجا يليق بهم.
وعن زواجه يشرح أن أمه دبرته له، ثم أخذوه إلى زوجته لينجبوا أطفالا، فيقول: هذا وضعي، أنا لا أعمل وهي تعمل وتكسب، آتي لبيتها للنوم والصلاة، ومعظم الوقت أبقى عند أمي.
وتطرق الفيلم إلى العلاقة بين الإسلام والتقاليد المتوارثة، فعلى الرغم من قدوم الإسلام استمر هذا النظام في الجزيرة، لإن الإسلام لم يُفرض بقوة، بل تغلغل سلميا، لا سيما عبر التجارة، وقبله كانت القبيلة هندوسية. ومع تمسكهم بالدين الإسلامي فهم يأسفون لتخلي جزء من الجيل الجديد عن تقاليد قديمة وثقافة محلية تعتبر من خصوصيتهم وتميز مجتمعهم.

“نحن خلقنا لنبقى في البيت”.. تغيّر أفكار الأجيال
يبدي الفيلم بجلاء ما طرأ من تغير في العقليات، وكيف ينظر الجيل القديم إلى هذه التغيرات القادمة من الشرق الأوسط. يقول الأب: ما يجري في الشرق الأوسط هي قوانينهم وحقهم وقوانينهم، ولكن نحن هنا لا ننتهك القانون الإسلامي.
ويلحظ الأب ما يلحق بالمجتمع من تحولات، فمنذ زمن قريب لم يكن هناك حجاب، بينما الآن تضعه كل البنات، وهذا من تأثير المدرسة الإسلامية. يقول الأب: من الطبيعي أن نتعلم الإسلام كمسلمين، لكن للأسف لا توجد مدرسة لتعليم ثقافتنا المحلية، وشابات مثل ابنتي لا يفهمن القانون الأمومي الذي نشأنا عليه.
وبينما يؤمن الأب بحقوق المرأة، فإن ابنته تجد نفسها معنيّة بالإسلام أكثر من النظام الأمومي، فهي مُعلمة في مدرسة إسلامية، وتعتبر السيّد هو الرجل، إذ تقول: نحن خلقنا لنبقى في البيت، وليس على المرأة أن تدير الكثير، هذا ليس دورها.
تبدو “غامي” بعيدة عن ثقافتها المحلية التي تعتبرها “شيئا نظريا”، حيث تقول: لم أكن أدرك ماهية النظام الأمومي حين كنت صغيرة، فقد كان شيئا نظريا بالنسبة لي، لكنني كنت أعيش الإسلام يوميا من خلال الحجاب والصلاة.

“الرجال لا يعملون شيئا”.. عنصرية نخبة النظام الأمومي
يسعى الفيلم للاقتراب أكثر من دواخل امرأة عليها مسؤولية كبيرة، كما يبين -وإن من بعيد ودون تعمق- تمرد الذكر في العائلة. وفي المرحلة الثالثة يقدم “ويل”، وهي امرأة ورثت مع أختها حقول الأرز الشاسعة وبيت الأهل الكبير، فهل هي سعيدة؟
ترافق الكاميرا “ويل” في حياتها اليومية الشاقة، وترصد المسؤولية الصعبة التي على كاهلها، حيث لا يأتي زوجها إلا مرة في الأسبوع، وذلك لصعوبة العيش بوجود عائلة الأخت معها.
وتبدو هنا مشاهد من الحياة اليومية تعرّف جيدا بأهمية الصلاة في هذا المجتمع كجزء من النظام اليومي، والعمل كمسؤولية صعبة، والمشاكل الاجتماعية التي بدأت تعكّر على النظام الأمومي، فالأخ يريد إدارة الحقول بنفسه، وهو ما يسبب همّا كبيرا للأخت، إضافة إلى هموم تأمين العيش من عمل على دراجة نارية، وصيانة البيت الجميل الذي ورثته.
“ويل” بحاجة للنصح، فقد كان كل حلمها هو بيت بسيط وسلام، لكن هذا ليس مُمكنا، فعليها احترام الإرث وممنوع بيعه، وهي تسترشد بمرشحة الانتخابات “إليزابيث” التي تحثّها على “أن تفرض احترامها على الرجل، فهو فقط للمساعدة وليس لبيع الأرز”، وترى أن المشكلة اليوم تأتي بعد الثانوية حين تترك الفتيات الأهل للدراسة، وعندها فإن ثلاثة أرباعهن يُغيرن عقليتهن، بينما يحتفظ الربع الأخير فقط بالتقاليد.
وتختم “إليزابيث” حديثها بالقول: الرجال لايعملون شيئا، والمرأة أقدر على أن يكون لها دور في الحياة في كل المجالات.