“الآنسة حنفي”.. كوميديا التحول الجنسي في سينما الخمسينيات

الفنان المصري هشام عبد الحميد

لعل فيلم “الآنسة حنفي” (1954) للمخرج فطين عبد الوهاب كان فيلما سابقا لعصره بكل المعايير، بل ذهب البعض إلى تقييمه على أنه فيلم ينزع إلى التقدمية وقيم التحرر أكثر من قيم المحافظة، وأنه مؤشر كبير ينزع لتحرر المجتمع المصري في ذلك الوقت. لكنني أعتقد أن الفيلم فيه نضج يسعى بطريقة طريفة وغير مباشرة لتطوير أفكار المجتمع، ويُسلّط الضوء على التراحم والتسامح مع المختلف والجديد وقتها، ولا شك أن الفيلم يحمل في طياته تلك الأبعاد التي تحدثت عنها أعلاه.

كان الكاتب الصحفي جليل البنداري كاتب السيناريو والحوار موفقا تماما في طرح فكرة جديدة على المجتمع المصري بمعالجة جريئة، وأعتقد أيضا أن البنداري كان موفقا في استلهام قصة حقيقية حدثت بالفعل في إحدى قرى مصر، لكي ينسج منها أحداث فيلم “الآنسة حنفي”.

لعل مشكلة التحوّل الجنسي من ذكر إلى أنثى أو العكس لأسباب بيولوجية بحتة كانت محفوفة بالمخاطر وقتها، لكن المدهش في الأمر أن المجتمع المصري في تلك الفترة (أي وقت العرض عام 1954) تقبّل جرأة الطرح الذي يتحوّل فيه بطل الفيلم حنفي لأنثى، ويلعب بطولته إسماعيل ياسين، فقد نجح الفيلم نجاحا ساحقا. لكن ما هي القصة الحقيقية التي ألهمت جليل البنداري لكتابة فيلم “الآنسة حنفي”؟

 

فاطمة إبراهيم داود.. ابنة ميت غمر التي أصبحت رجلا

لنبدأ ببطلة القصة الحقيقية فاطمة إبراهيم داود القاطنة بمركز ميت غمر، فقد اضطرت أن تعيش مع جدها وثلاث أخوات أخريات لها بعد زواج الأم، وعانت في تلك الحقبة من الفقر الشديد، ثم اتجهت إلى العمل الشاق، فسجلت تفوقا ملحوظا استرعى انتباه الجميع، فقد نالت ثناء أصحاب العمل والزملاء من حولها والمجتمع الذي تعيش فيه.

وفي خضم ذلك أراد عبد الصمد -وهو من عائلتها- أن يرتبط بها لكنها لم تقبل، لأنها أحسّت بميول ذكورية بجسدها أكثر من ميولها الأنثوية، فعرضت نفسها على الدكتور جورجي إلياس بمدينة الزقازيق، لكن ابن العمدة تلقفها بالرعاية، وأوصلها إلى مركز صحي بالقصر العيني لإجراء الكثير من الفحوصات التي أثبتت أنها ذكر أكثر من كونها أنثى، وقد أُجريت لها عملية وتحولت إلى ذكر تحت اسم علي، وبالمصادفة تزوج علي لاحقا بسيدة كان اسمها فاطمة علي.

هذه هي القصة الحقيقية المستوحى منها الفيلم، لكن كيف كانت معالجة جليل البنداري للفيلم، وما هي التغييرات التي طرأت على القصة الأصلية؟

 

معاناة حنفي.. رحلة إلى عوالم الجنس الآخر

إن التغيير الأساسي الذي أجراه جليل البنداري على القصة الحقيقية هو تحويل المشكلة من بطلة إلى بطل اسمه حنفي، وقد مَثّله بإبداع إسماعيل ياسين، حيث بدت شخصية حنفي شخصية ذات مبادئ متزمتة، فهو يمارس ذكورته ورجولته -التي يعتقدها- على نواعم، وهي ابنة زوجة أبيه، بينما يريد الأب (الممثل عبد الفتاح القصري) أن يزوج ابنه لنواعم (الممثلة ماجدة)، لكن نواعم لا تحبه بل تحب حسن المتعلم (الممثل عمر الحريري).

بعد عقد القران وتحديدا بعد انتهاء حفلة الزفاف، يشعر حنفي بآلام شديدة بمعدته، ويذهب على أثرها إلى المستشفى، ليقرر الطبيب المُعالج إجراء عملية تحويله من ذكر إلى أنثى، وبالفعل يجري عملية التحويل.

هنا يأخذ الفيلم منحى بالغ الأهمية، فالآنسة حنفي انقلبت حياتها، لتبدأ بالشعور بكل معاناة المرأة سواء البيولوجية أو النفسية، فلم تكن بالطبع جميلة كنواعم التي جاءتها الفرصة لتمارس عليها ضغوطا انتقامية بسبب الماضي المرير الذي عاشته مع حنفي قبل التحول.

بدأت الآنسة حنفي تشعر مرتبكة بمدى القهر والتمييز في مجتمع يُميّز الرجل عن المرأة، وأصبحت تشعر بآلام الطمث، وأصبح لها ميول نحو الجنس الآخر، حيث سيكون لها موعد مع الحب، فهي الآن أنثى تريد الارتباط والزواج.

أجواء من الفرح والسعادة تطغى على زفاف الآنسة حنفي الذي قام بالدور إسماعيل ياسين على أبو سريع الجزار الذي قام بدوره رياض القصبجي

 

حسونة والجزار.. هروب العروس بين زواجين

يحل حسونة الموظف الذي ينتمي إلى الطبقة الوسطى مشكلة الآنسة حنفي التي أصبحت عانسا لا تحظى بفرصة زواج إلا بمحاولات التدبير المُتعارف عليه عبر مهنة الخطابة.

يتوجه حسونة للارتباط بها، ويبارك الأب هذا الارتباط مُغتبطا، إذ أن مشكلة الآنسة العانس حنفي أوشكت على الحل، وحينها تستطيع أختها الصغرى الزواج، لكن المفاجأة هي أن الآنسة حنفي يختطف قلبها أبو سريع الجزار (الممثل رياض القصبجي)، ورغم ذلك فإن الأب يصر على عقد قران الآنسة على حسونة، ويكاد الأمر أن يتم لولا أنها هربت في ليلة الزفاف مع حبيبها أبو سريع الجزار.

في نهاية المطاف يرضخ الأب لرغبة ابنته الآنسة حنفي، ويوافق من زواجها من حبيبها أبو سريع الجزار، وبالفعل يُقام حفل الزفاف بأجواء من السعادة والفرح، لولا مفاجأة لحقت بالأب حين حين بدأ يصرخ من آلام بمعدته كالتي جاءت من قبل لابنه المتحول إلى فتاة.

ينتهي الفيلم في إشارة إلى أنه قد يحدث للأب ما حدث لابنه .

بوستر فيلم “الآنسة حنفي” الذي أدى فيه دور البطولة إسماعيل ياسين الذي حوّل جنسه إلى أنثى

 

نقد الرجولة الزائفة.. تعرية الثغرات العرفية في المجتمع

يحمل الفيلم عدة مستويات من القراءة النقدية، فتوجد في أبعاده التسلية والجانب الاجتماعي والسياسي، فالجانب المسلي هو الحكاية الظاهرة التي كانت فعلا كافية لنجاح الفيلم، لكن ما يحمله الفيلم من أفكار ودلالات لهو أعمق من الحكاية الظاهرة بكثير .

أما على الصعيد الاجتماعي، فيقدم الفيلم نقدا لاذعا لمفهوم الرجولة الزائفة، فالرجولة الحقيقية ليست بالشعارات والاستعراض الصوتي وإنما هي في الأفعال والمشاعر الحقيقية والنزوع نحو التراحم والمحبة والعطاء والحماية لمن حوله.

لم تتوفر هذه المشاعر في شخصية حنفي الذي كان كثيرا ما يكرر ويضغط على ألفاظه بأنه “حمش” وجامد ورجل قوي. بالطبع كان هذا لتغطية مركب نقص بشخصيته، فحنفي الذي كان ذكرا في ماضيه كان رجلا منعدم المسؤولية والطموح، ولم يكن يتمتع بأي جاذبية للجنس اللطيف، بل إنه كان يتجنبهن ويشعر بالنفور منهن، لهذا نجد أنه كان قاسيا على ابنة زوجة أبيه التي من المفترض أن أباه يريده أن يتزوجها، لكنه كان رافضا لذلك. فقد كان يمعن في السابق في التضييق عليها باسم الأخلاق والعُرف، وبالطبع كان على الجانب الآخر من الضفة من يعاكسه في الطبع والتصرف، حيث كان الأفندي حسن المتعلم والمتنور الذي استحق قلب نواعم .

 

حرية المرأة.. علاج مركبات النقص في نفس الرجل

لدينا في الفيلم أيضا حسونة رمز الرجعية والأرستقراطية المصرية المتباكية على ما فات من ألقاب ومظاهر فارغة، وفي مقابله أبو سريع الجزّار ابن البلد الذي لا يتكل على أحد ويكسب رزقه من عرق جبينه، وهو الذي نلاحظ أيضا أن الآنسة حنفي تفضّله على حسونة وتهرب معه.

الملاحظ أيضا أن رجولة حنفي الظاهرية الجوفاء التي كانت قبل تحوّله وممارساته الذكورية الفجة السطحية على نساء بيته كانت لمجرد التعويض عن رجولة حقيقية مفقودة، فالمواقف والأفعال غير المتحققة نجدها تحققت عندما يتحول إلى آنسة تمتلك حرية اختيارها، وتتمتع بكبرياء وكرامة وحرية في قرارتها رغم حظها القليل من الجمال، ورغم افتقادها لتصرف الأنثى الناعمة واللطيفة، وهو ما افتقده حنفي عندما كان رجلا، حيث تمثلت فيه صفات الفعل الرجولي عندما تحوّل إلى الآنسة حنفي.

وهذا يطرح سؤالا كبيرا ومهما هو: تُرى هل الرجولة شكل أم فعل؟ فالمسألة ليست بممارسة القمع والقهر والصراخ بوجه أهل المنزل لتحقيق الرجولة الجوفاء، لكنها الحكمة والتراحم والتسامح.

 

بشارة يوليو.. ملامح المجتمع الجديد

أعتقد أن التفسير السياسي لهذا الفيلم الذي عُرض عام 1954 -أي بعد قيام حركة 23 يوليو- يعكس المناخ السياسي والاجتماعي لتلك الفترة، فقد أصبحت مقاليد الأمور بيد الضباط الأحرار، ومن ثم انعكست مبادئ حركة يوليو بشكل مباشر وغير مباشر على الفن عموما، وعلى السينما بشكل خاص لكونها الأكثر جماهيرية وتأثيرا.

لذلك نجد أن الدلالات السياسية تطل علينا لتتلائم مع تغيّر المناخ السياسي، وبالتالي ينعكس هذا على شكل الحياة المصرية الطبقية، فعلى سبيل المثال نجد نبذا سينمائيا لشخصية حسونة وما يُمثله من رجعية منبوذة، بينما يجري تهذيب وإصلاح حنفي وأبيه المعلم كتكوت وأبناء الطبقة المتوسطة، تمهيدا لإعدادهم ليصبحوا أفرادا فاعلين في حركة المجتمع الجديد، وهو المجتمع الذي بَشّرت به حركة يوليو.

المُلفت أيضا أن الفيلم تناول على لسان شخصياته مسألة التحوّل الجنسي بأريحية شديدة دون احتقان أو التهاب، وأن الجمهور تقبّل ذلك وقتها دون اعتراض أو غضب أو تذمر، بدليل نجاح الفيلم نجاحا جماهيريا شديدا.

نادى الفيلم بأهمية المرأة وأهمية الاعتناء بها لكي تقوم بالدور المنوط بها بشكل أفضل، فدور المرأة ليس قائما على الإنجاب وتربية الأولاد فقط، وإنما أيضا التعلم والتمكين لتأخذ قراراتها بيدها، فلا ضير في أن يتحول الرجل إلى أنثى، فالأهم أن تُعد نفسها لتقوم بدورها في المجتمع الجديد.

 

“الست نواعم”.. استثمار تجاري بقصة مضادة

لعل نجاح فيلم “الآنسة حنفي” أغرى بطل الفيلم إسماعيل ياسين بأن يُعيد الفكرة نفسها، لكن هذه المرة بشكل معكوس، فالدور لأنثى غير مكتملة الأنوثة جينيا، مما جعلها تتوجه لإجراء عملية تحويل إلى رجل، وقد صاغ هذه الفكرة شريكه وتوأمه كاتب السيناريو أبو السعود الإبياري، والفيلم بعنوان “الست نواعم”، وهو من إخراج يوسف معلوف.

تدور أحداث الفيلم حول الست نواعم (الراقصة تحية كاريوكا) وخادمتها زكية (الممثل إسماعيل ياسين) التي تعاني من عدم جمال أنوثتها، إضافة إلى صفات جسدها التي تقترب من أجساد الرجال، فزكية لا تتورع عن مغازلة نواعم كما يفعل بعض الرجال، حيث تلاحظ نواعم ذلك ولا ترتاح لهذه الطريقة بالغزل.

تتزايد أزمة زكية مع زوجها مدبولي، حيث يرتاب الزوج ويتضايق من الكثير من التصرفات التي تقوم بها، حتى وصل به الأمر أنه فوجئ بزوجته زكية تحلق ذقنها، وهنا انزعج فعلا واتفق معها على التوجه إلى الطبيب، ليخبرها أنه لا بد من إجراء عملية تحويل جنسي، وتوافق زكية على ذلك وتُجرى لها العملية بإرادتها وعلى وعي منها.

 

تشابه طيات السيناريو.. مفارقات درامية

ما حدث في فيلم الست نواعم من تحويل اختياري للجنس، هو عكس ما حدث في فيلم “الآنسة حنفي” الذي أجريت فيه العملية على غير موافقة أو علم من قبل حنفي، وبالفعل تتحول زكية إلى زكي الذي يقرر ترك مدبولي زوجه السابق، لأن الأحوال -على حد قول زكي- قد تغيرت وتبدلت، ولم يعد في مستطاعهما العيش مع بعضهما.

لعل من المفارقات الدرامية المهمة بفيلم “الست نواعم” أن يقوم صابر زوج نواعم بتطليقها للمرة الثالثة، ورغبته في الرجوع إليها مرة أخرى، فلا يجد إلا المحلل، ويكون ذلك المحلل زكي.

ومن الملفت للنظر والمدهش أيضا علاقة الحب التي بدأت تنمو بين نواعم وزكي بمظهره الرجولي الكامل، فبالرغم من أنها علاقة رومانسية لم تتخللها قبلات ولا أحضان، فإنها تطرح سؤالا مهما في التقبل السهل والبسيط لمسألة التحوّل.

هذان الفيلمان برغم جمالهما التقني والمهني، فإن جرأة الفكرة وجدّتها تدعنا نسأل أنفسنا أين نحن الآن من هذه القضايا، بل وكيف سيكون تقبل الجماهير لو أنتجت وعُرضت حاليا، وهل ستتقبلها كما تقبلها جمهور الخمسينيات أم ستلعنها وتجرمها؟


إعلان